دراسة أثر حفظ القرآن الكريم على الصحة النفسية الدكتور صالح بن إبراهيم الصنيع
(دراسة ميدانية على حفًاظ وحافظات القرآن الكريم بمعهد الإمام الشاطبي مقارنة مع عينة من طلاب وطالبات جامعة الملك عبد العزيز بمدينة جدة)
إعداد:
الأستاذ الدكتور صالح بن إبراهيم الصنيع,
أستاذ علم النفس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض
1429هـ/2008م
ملخص الدراسة:
القرآن الكريم هو كلام الله المنزل لهداية البشرية وفلاحها في الدارين، من أخذ به بقوة حصلت له السعادة الدنيوية والراحة النفسية والقرب من الله ولذة مناجاته في كل حين، والفوز بالجنة يوم المعاد.
وكما قال أحد الدعاة:
أن القرآن الكريم كلام الله تعالى، وأمانة جبريل، ورسالة محمد ودستور أمة، ومنهج حياة، ومشروع حضارة، ومنطلق دعوة، ووثيقة إصلاح، وحل لمشكلات البشرية، وشفاء الأسقام الإنسانية، ظهر للضمائر وعماد للسرائر، وهدى للناس، وبشرى للمؤمنين، ودعوة للعالم، وغيث لأهل الأرض، وتلاوته أجر وحروفه حسنات، ومطالعته بركات وتدبره رحمات، والعمل به نجاة، والتحاكم إليه فلاح والرضا به سعادة.
والقرآن الكريم للمسلم كالسراج للسائر في الظلماء ينير له الطريق ويبين له المخاطر ويرشده إلى أفضل المسالك وآمن السبل. والتفاضل بين المسلمين يكون بمقدار ما لدى كل منهم من القرآن الكريم حفظاً وتطبيقاً، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (( خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) رواه مسلم, وهكذا تزداد منزلة المسلم بين أقرانه بمقدار ما يزيد عليهم مما معه من القرآن الكريم، وفي هذا حفز لتنافس المسلمين في هذا الميدان الشريف القائم على حفظ كتاب الله وتطبيقه في شؤون حياتهم المختلفة.
وعندما يأتي الحديث عن القرآن الكريم وأثره على الصحة النفسية للمسلم يبرز التباين بين المسلمين على قدر ما معهم من كتاب الله، فالذي يحفظ في صدره كماً أكبر من آيات القرآن يترقى في مستوى صحته النفسية ويفضل من يقل عنه في مقدار الحفظ، والشواهد على ذلك كثيرة مما يتكرر في حياة الناس اليومية ويشعر به كل من عرف حُفَّاظ كتاب الله وقارنهم بغيرهم ممن حرموا السعي لحفظ كتاب الله وانشغلوا عنه بحطام الدنيا، فيلحظ الفرق بينهم في مظاهر الصحة النفسية وعلامات السعادة والطمأنينة القلبية.
مشكلة الدراسة:
يبدو واضحاً لكل من يطالع الفروق بين المتمتعين بالصحة النفسية من المسلمين من حيث الدرجة، أن أهل القرآن يأتون في درجة أعلى من غيرهم في سلم مظاهر الصحة النفسية ويتوقع انعكاس ذلك على سلوكياتهم وتعاملهم. يقول أبو العزائم (وهو طبيب نفسي):
إذا أمعنا النظر في الآيات القرآنية التالية فإننا نرى أنها تعلن أن المؤمنين الحقيقيين قد وصلوا إلى درجة من النضج تتسم فيها شخصياتهم بالحزم والعطف، كما أنها تتحدث عن عالمية الإيمان بين الذين يتبعون مبادئ الأنبياء لاسيما محمد وعيسى وموسى (عليهم السلام) وتقول الآية (( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم))(الفتح:29) ويقول القرآن أيضاً (( سيماهم في وجوهم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل))(الفتح:29). إن الإيمان مسئول أيضاً عن خلق وتقوية الكثير من أخلاقنا كالصبر والشجاعة والحب والقدرة على التحمل والكرم والعطف والتضحية وغيرها. وتكون هذه الأخلاقيات العناصر الروحية التي تقوي المظاهر الجسدية والنفسية والاجتماعية للإيمان وهكذا يتحقق مستوى عال من الصحة بهذه المكونات النفسية التي هي من صفات المؤمن الحق.
وكيف لا يكون أهل القرآن أعلى منزلة من غيرهم وهم أهل الله وخاصته، كما روى الإمام ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( إن لله أهلين من الناس )) قالوا: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) من هم؟ قال: ((هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته)), يقول الله تعالى (( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم))(الإسراء:9).
والقرآن الكريم هو أعلى مراتب الذكر لأنه كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لسعادة الإنسان، يقول مرسي:
فذكر الله يتضمن عمليات تنشط أجهزة المناعة النفسية والجسمية التي فيها صحتنا وشفاؤنا، وحمايتنا من الانحرافات والأمراض. فقد أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام: (( أن سعادة الإنسان في ذكر الله، وشقاءه في الغفلة عنه، فقال في حديث قدسي عن رب العزة: (( يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك. وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً، ولم أسد فقرك)) رواه الترمذي.
ومما سبق يتبين لنا منزلة الذكر الذي أعلاه القرآن الكريم وأن له أثراً إيجابياً على الصحة النفسية، ولذلك يمكن صياغة مشكلة الدراسة الحالية في السؤال التالي:
ما أثر حفظ القرآن الكريم على الصحة النفسية للأفراد ؟
1) أجريت دراسة في الولايات المتحدة الأمريكية لمعرفة كيف يحقق القرآن تأثيره في الشفاء؟ وهل هذا التأثير عضوي أو روحي أم خليط من الاثنين معاً ؟ وتم إجراء الدراسة في مؤسسة العلوم الطبية الإسلامية, واستخدمت أجهزة الكترونية مزودة بالحاسب لمراقبة وقياس أي تغيرات فسيولوجية عند عدد من المتطوعين الأصحاء في أثناء استماعهم لتلاوات قرآنية, وأثبت التجارب وجود أثر مهدئ للقرآن الكريم في (97%) من التجارب في شكل تغيرات فسيولوجية تدل على تخفيف درجة توتر الجهاز العصبي التلقائي، كما ظهرت نتائج إيجابية بنسبة (65%) من تجارب القراءات القرآنية والتي تدل على أن الجهد الكهربي للعضلات كان أكثر انخفاضاً تأكيداً على أثر مهدئ للتوتر.
2) دراسة المغامسي (عام 1411هـ): قام الباحث بدراسة تطبيقية عن دور القرآن الكريم في تنمية مهارات القراءة والكتابة لدى تلاميذ المرحلة الابتدائية بالمدينة المنورة. تكونت العينة من مائة وعشرين تلميذاً من الصف السادس، موزعين على أربع مدارس، مدرستين من مدارس التعليم العام، واثنتان من مدارس تحفيظ القرآن الكريم بمعدل ثلاثين تلميذ من كل مدرسة. وكان من أهم النتائج حصول تلاميذ التحفيظ على متوسط أعلى من أقرانهم تلاميذ التعليم العام في القراءة والكتابة مما دل على الأثر الإيجابي لتلاوة وحفظ القرآن على مستويات تلاميذ التحفيظ.
3) دراسة أخرى للمغامسي (عام 1425هـ): قام الباحث بدراسة أثر حفظ القرآن الكريم على التحصيل الدراسي بالمرحلة الجامعية. وتكونت العينة من أربعين طالباً يدرسون في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، نصفهم يحفظون القرآن الكريم كاملاً، والنصف الآخر غير حافظين. وأهم النتائج أن متوسط درجات الطلاب الحافظين أعلى من متوسط درجات الطلاب غير الحافظين، ولكن ليس دال إحصائياً. وجود فروق ذات دلالة إحصائية في المعدل التراكمي (التحصيل الدراسي) لصالح الطلاب الحافظين للقرآن الكريم.
تعريف الصحة النفسية:
عرَّفت موسوعة علم النفس والتحليل النفسي الصحة النفسية بأنها «التوافق السليم والشعور بالصحة والرغبة في الحياة»
وقد عرَّفت لجنة خبراء الصحة العالمية في منظمة الصحة العالمية الصحة النفسية بأنها «قدرة الفرد على تكوين علاقات ناجحة مع الآخرين والمشاركة في تغيير وبناء البيئة الاجتماعية والطبيعية التي يعيش فيها. وإشباع حاجاته الأساسية بصورة متوازنة وإنماء شخصية قادرة على تحقيق الذات بصورة سوية ».
وقدم العديد من الباحثين في علم النفس عدداً من التعريفات للصحة النفسية التي تدور حول محور من المحاور التالية :
s الخلو من الأمراض والاضطرابات النفسية .
s الخلو من الانحرافات .
s تحقيق التوازن بين كافة المطالب .
s تحقيق التوافق النفسي .
s تحقيق الذات .
s الحصول على السعادة .
s حسن الخلق وهذا المعنى قدمه مرسي في دراسته للصحة النفسية حيث قال : ( إن حسن الخلق يجعل المسلم معافى في بدنه ، في سلام مع نفسه وانسجام مع الناس ، وقرب من اللَّـه ، فيشعر بالصحة النفسية )
ومن علامات الصحة النفسية الآتي :
1 - الخلو من التوترات الزائدة .
2 - الاعتدال في تحصيل حاجات الجسم والنفس والروح .
3 - حسن التوافق مع الناس .
4 - المسايرة وطاعة أولي الأمر في المجتمع .
5 - الرضا عن النفس .
6 - الاكتفاء باللَّـه عن الناس .
7 - الاجتهاد في تنمية النفس .
8 - الاستمتاع بعمل الصالحات .
9 - الإخلاص في العمل .
10 - الإقبال على الآخرة.
ويمكننا أن نقدم التعريف التالي للصحة النفسية بما يوافق غاية الدراسة الحالية:
الصحة النفسية: هي حالة من التكامل المستمر مع الفرد في نمو وإشباع جوانبه الجسمية والروحية والعقلية والانفعالية والاجتماعية بشكل سوى.
بينما التعريف الإجرائي للصحة النفسية: هو الدرجة التي يحصل عليها كل فرد من أفراد عينة الدراسة على مقياس الصحة النفسية المستخدم في الدراسة الحالية.
نتيجة الدراسة:
كان من أهم نتائج الدراسة وجود علاقة ارتباطيه موجبة دالة إحصائياً بين ارتفاع مقدار الحفظ وارتفاع مستوى الصحة النفسية لدى عينتي الدراسة, كما أن طلاب وطالبات المعهد (والذين يفوقون نظراءهم في مقدار الحفظ) كانوا أعلى منهم في مستوى الصحة النفسية بفروق دالة إحصائياً, ولم توجد فروق في مستوى الصحة النفسية لدى عينات الدراسة يمكن أن تعزى لمتغيرات الجنس أو الجنسية أو العمر أو المستوى الدراسي.
وهذه النتيجة تؤكد تحقق هدف الدراسة الحالية التي سعت لمعرفة أثر ارتفاع مقدار حفظ القرآن الكريم على مستوى الصحة النفسية، لأن طلاب وطالبات المعهد يفوقون بكثير نظرائهم من طلاب وطالبات الجامعة في مقدار الحفظ، وانعكس ذلك على ارتفاع مستوى الصحة النفسية لديهم قياساً بنظرائهم في الجامعة. وهذه النتيجة تتفق مع ما خرجت به معظم نتائج الدراسات السابقة، في الأثر الإيجابي لارتفاع الإيمان (الذي أساسه القرآن الكريم) على ارتفاع مستوى الصحة النفسية.
توصيات الدراسة:
من خلال ما تم عرضه في هذه الدراسة وما خرجت به من نتائج يقدم الباحث التوصيات التالية:
1) الاهتمام بحفظ القرآن الكريم كاملاً لدى الدارسين والدارسات في مؤسسات التعليم العالي للأثر الإيجابي لهذا الحفظ على مناحي كثير من حياتهم وتحصيلهم العلمي كما ظهرت في نتائج بعض الدراسات السابقة وكذلك ما ظهر في نتائج الفرضين الأول والثاني من هذه الدراسة.
2) أن من أهم أسباب الوصول إلى مستوى عال من الصحة النفسية يتحقق من خلال الاهتمام بحفظ القرآن الكريم والامتثال لأوامره ونواهيه.
3) الطلاب الذين يحفظون قدراً كبيراً من أجزاء القرآن الكريم ينعكس ذلك إيجابياً على مستوى الصحة النفسية لديهم مقارنة بنظرائهم الذين لا يحفظون إلا النزر اليسير من سور القرآن الكريم.
4) الأثر الإيجابي لحفظ القرآن الكريم على ارتفاع مستوى الصحة النفسية لا يتأثر بعوامل الجنس والجنسية والعمر والمستوى الدراسي.
5) ضرورة اهتمام المعلمين والمعلمات برفع مقدار الحفظ لدى طلابهم وطالباتهن حتى لو كان خارج إطار المقرر الدراسي بحيث يكون إضافياً، لما له من أثر إيجابي على تحصليهم وصحتهم النفسية.
6) لفت انتباه الآباء والأمهات إلى الأثر الإيجابي لكمية الحفظ من القرآن الكريم على تحصيلهم أولادهم العلمي وارتفاع مستوى صحتهم النفسية، بحيث يحرصوا على إلحاقهم بالدور الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في الفترات المسائية.
7) ضرورة حرص معلمي ومعلمات دور تحفيظ القرآن الكريم على إتقان الحفظ لدى الطلاب والطالبات، وتذكيرهم بالحرص على المراجعة الدائمة حتى لا ينسوا ما حفظوا بعد تخرجهم من تلك الدور. والتأكيد على الأجور المترتبة على الحفظ والفوائد الدنيوية المصاحبة للأجر الأخروي.