بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
أما بعد .....،
فإن الله تبارك وتعالى خلق مخلوقات شتى ، بعضها يفوق بعضا
في جملة من صفاتها ، فما بين كبير وصغير ، وقوي وضعيف ،
وضار ونافع ، ثم ينطلق الجميع للعمل فيأتي الخير في قضاء الله
سبحانه حتى مما يظهر ضرره وشراسته من المخلوقات،
وما تظهر خطورته من الأمراض ،
مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(( والخير كله بيديك ، والشر ليس إليك))
وقد خلق الله من هذه المخلوقات أمتين أختارهما الله للتكليف
وأمرهما بالأوامر الشرعية ، وتوعد أهل الضلال ،
ووعد أهل الصلاح .
تلك الأمتان هما أمة الإنس وأمة الجن
قال سبحانه ::
(( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون))
ولما كانت الأمتان تختلفان في طبيعة الخلقة وصفاتها وأسلوب عيشها ،
جعل الله لكل منهما ما يخصه من الأحكام الكونية والشرعية ،
كما جعل الله بينهما حدودا في التعامل والاتصال كونية وشرعية.
وعلى الرغم من أن كلتا الأمتين اشتركتا في أصل القضية
وهي قضية العبودية له سبحانه
وعلى الرغم من أن الله أنزل في كتابه سورة باسمهم
وذكرهم في كتابنا العظيم كقسيم في الحياة والتكليف
((فبأي آلاء ربكما تكذبان))
غير أن النصوص الشرعية جعلت لمسلمهم قبل كافرهم حدودا في التعامل
ففي الصحيح أن صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه قال :
" أَتَانِي دَاعِي الْجِنّ، فَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ"
قَالَ فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، وَسَأَلُوهُ الزّادَ، فَقَالَ:
"لَكُمْ كُلّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ الله عَلَيْهِ يَقَعُ فِي
أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْماً، وَكُلّ بَعَرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابّكُمْ".
فقالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم:
"فَلاَ تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ".
وأما الكفرة والمردة منهم فقد دلنا الشرع على وجوب مجانبتهم
بالتسمية عند كل طعام أو شراب أو عند دخول بيت أو جماع
ونحوها من المعوذات الشرعية كتابا أو سنة
وقد أعطانا القرآن صورة إجمالية للشياطين
ملخصا لنا طبيعة العلاقة بيننا وبينهم بقوله تعالى
(( إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا))
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى
(( ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي أستجير بجناب الله من
الشيطان الرجيم
أن يضرني في ديني أو دنياي أو يصدني عن فعل ما أمرت به,
أو يحثني على فعل ما نهيت
عنه فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله ولهذا أمر تعالى
بمصانعة شيطان الإنس
ومداراته بإسداء الجميل إليه ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى
وأمر بالاستعاذة به من
شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل لأنه شرير
بالطبع ولا يكفه عنك إلا
الذي خلقه وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم
لهن رابعة قوله في الأعراف:
{خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} فهذا
فيما يتعلق بمعاملة الأعداء
من البشر ثم قال: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ
بالله إنه سميع عليم}
وقال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون: {ادفع بالتي هي أحسن
السيئة نحن أعلم بما يصفون *
وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين
وأعوذ بك رب أن يحضرون}
وقال تعالى في سورة حم السجدة: {ولا تستوي الحسنة
ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا
الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم *
وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا
ذو حظ عظيم * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ
فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم}. ))
انتهى كلامه رحمه الله
وقد حذر الله منه لخفائه وخفاء كيده وشدة مكره
(( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم))
وقد حذرنا الله من سلوك طرق الشيطان وخطواته
(( ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين))
وقد أمر الله المؤمنين بالاستعاذة به وحده من مكائد الشياطين
**وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
(200) سورة الأعراف
فالشيطان لا يسلط على أهل الإيمان بل غاية ما
لديهم له أن يمسهم منه طائف فلا يتمكن منهم
**إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ==
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ}
(201-202) سورة الأعراف
والسحر من جملة ما تلقيه الشياطين على السحرة والكهان والعرافين
**وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ
وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ
مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}
(102) سورة البقرة
فتسلط الشيطان بنفثه ونفخه وهمزه لا يمكن أن يكون
ذا سلطان على الإيمان وأهله
فلا يتحول به المؤمن صحيح الإيمان إلى عاص بين الفسوق
**إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ==
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}
(99-100) سورة النحل
وإنما غاية ما فيه أن يمس المؤمن بطرف من الأذى الذي لا يلحق بدينه
كما خيل لنبي الله موسى أن العصي تحولت ثعابين
أو كما خيل للنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي أهله ولم يأتهم
وقد حذر الله مما كان يفعله أهل الجاهلية من تعظيم
للشياطين وقدراتهم الموافقة لطبيعة خلقتهم
مما حدا ببعضهم إذا ما نزلوا واديا أن يستعينوا بكبار
الجن ويقدموا لهم القرابين
طلبا للسلامة فكانوا يقولون نعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهاء قومه
وقد كان ولا يزال يفعله بعض المنتسبين للأمة
عندما يدخلون بيتا أو يشترون متجرا أو منزلا
فيذبحون على العتبات ويقول بعضهم دستور يا أسيادنا
قال الحافظ
ابن كثير رحمه الله تعالى
(( كَانَتْ عَادَة الْعَرَب فِي جَاهِلِيَّتهَا يَعُوذُونَ بِعَظِيمِ ذَلِكَ
الْمَكَان مِنْ الْجَانّ
أَنْ يُصِيبهُمْ بِشَيْءٍ يَسُوءهُمْ كَمَا كَانَ أَحَدهمْ يَدْخُل بِلَاد أَعْدَائِهِ
فِي جِوَار رَجُل كَبِير
وَذِمَامه وَخِفَارَته فَلَمَّا رَأَتْ الْجِنّ أَنَّ الْإِنْس يَعُوذُونَ بِهِمْ مِنْ
خَوْفهمْ مِنْهُمْ زَادُوهُمْ
رَهَقًا أَيْ خَوْفًا وَإِرْهَابًا وَذُعْرًا حَتَّى بَقُوا أَشَدّ مِنْهُمْ مَخَافَة
وَأَكْثَر تَعَوُّذًا بِهِمْ))
فأعجب العجب أن يظن بعض الناس أن الله الذي حال بين الإنسان
الذي ذكر سبحانه أنه ضعيف نسبة إلى غيره من المخلوقات
حيث قال
(( وخلق الإنسان ضعيفا))
فحال الله بينه وبين ما هو أشد منه خلقة
(( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها
وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها
أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها))
وقال سبحانه
(( لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس
ولكن أكثر الناس لا يعلمون))
فحال الله أن تقع السماء عليهم
و البحر أن يغرقهم و الأرض تبتلعهم
والجبال أن تسقط عليهم والوحوش أن تفترسهم
فأعجب العجب أن يظن أحد أن الله يحول بين كل هذه المخلوقات
وبين ابن آدم الضعيف ثم يسلط عليه الجن الذي هو أضعف أيضا من جملة
المخلوقات فيجعل مقاليد الإنس بيد الجن
لا يرون إلا ما يرونهم ولا يحكمون إلا بمن يزكونهم
ولا يتدينون لله سبحانه إلا بما سمحت الجن لهم بأن يطلعوا عليهم
فما حج حاج إلا بإذنهم ولا صلى مصل إلا بعتقهم
ولا تكلم عالم إلا عن إذنهم
سبحانك ربي هذا بهتان عظيم
قاتل الله هذا الضلال
اللهم إني أبرأ إليك من هذا
أجل لقد ظل الناس يلصقون بالجن من القدرات التي
أوجبت عندهم تعظيمهم وتقديسهم فاستعانوا بهم
وطلبوا حمايتهم فزادوهم رهقا واستأسدوا عليهم
**وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}
(6) سورة الجن
على أن الجن أضعف من الفئران بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(( أغلقوا أبوابكم وخمروا آنيتكم
واطفئوا سرجكم وأوكوا أسقيتكم فإن الشيطان لا يفتح بابا
مغلقا ولا يكشف غطاء ولا يحل وكاء
وإن الفويسقة تضرم البيت على أهله))
_يعني الفأرة_
يا إلاهي
الشيطان لا يستطيع أن يفتح بابا ولا أن يرفع غطاء عن إناء
ونحن نجعل له من القوة والقدسية ما لا يستطيعه أي شيء في الكون
أجل لقد نسينا تماما أن الشياطين والجن محض مخلوقات مأمورة بالعبادة
كما أمر الله ابن آدم ويحكمها من الله سبحانه
قضاء كوني لا انفلات منه وقضاء شرعي لا ينجو من يضاده
من عقوبة دنيوية وعقوبة أخروية مهينة
لقد نسينا أو تناسينا
أن الله تبارك وتعالى قال في كتابه
وجزاء ذلك الاستضعاف الذي رضينا به
هو استشراء معاصينا وقلة عزمنا على التوبة
وإصرارنا على الذنوب واستسلامنا لبعدنا عن الله تعالى
غيبة ونميمة وثقيلة علينا استعاذتنا بالله تعالى
كذب وخيانة وسرقة
وثقيلة علينا مواجهة أنفسنا بقوتها الحقيقية القادرة
على دفع كل هذا البلاء
ترك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وثقيلة علينا كلمة الحق حين يسول لنا الشيطان
أنها لن تجدي أو أننا غير معنيين بقولها
وقد علق البخاري في صحيحه
عن ابن عباس رضي الله عنهما
(( الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ؛
فإذا ذكر الله خنس
وإذا غفل وسوس ))
وصححه الألباني في المشكاة
وفي النهاية يستسخر منا الشيطان كل مرة
ويضحك على سماعنا له
كما فعل قديما يوم الفرقان يوم التقى الجمعان
بعد أن وعد المشركين أنه جار لهم وحام لهم
يذب عنهم ويدفع المؤمنين
فإذا به يفر منهم
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ
الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ
عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ
إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
(48) سورة الأنفال
ولا يزال يستهزء بابن آدم
مع افتخاره بضعفه عنه
حتى في جهنم
**وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ
وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم
مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي
وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ
إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(22) سورة إبراهيم
يا لها من حسرة عندما يتابع الضعيف القوي
متابعة الصبي الصغير لمن يحمل له
عبوة من الحلوى يكذب عليه ليجعله مطيعا
حتى إذا أخذها منه
وجدها خاوية
فانكب باكيا لكن بعد أن وقع في شباك صائده
والله إنكم قادرون على منعها قبل أن تخرج تلك
الكلمة القبيحة
والله إنكم قادرون على إمساكها قبل أن تؤذي إخوانكم
لا تعظموا من قدر عدوكم فيوهن ذلك في نفوسكم
ويتجرأ هو عليكم
فقد روي عمن كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم قال
كنت ردفه على حمار ، فعثر الحمار ،
فقلت : تعس الشيطان ، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم :
(( لا تقل تعس الشيطان ، فإنه إذا قلت : تعس الشيطان
تعاظم في نفسه ، وقال : صرعته بقوتي ، وإذا قلت :
بسم الله تصاغرت إليه نفسه حتى يكون أصغر من ذباب))
يا الله
الشيطان الذي جعله بعضهم إلاها
فصاروا عبدة الشيطان
الشيطان الذي ظن البعض أنه لا يمكن الإفلات من أسحاره
التي غزا بها الكون فالحكام والشعوب بيده
والكعبة والقدس بيده
هذا الشيطان يكون كالذباب
لا إله إلا الله
ولا حول ولا قوة إلا بالله
آمنت بالله رب وبالإسلام دينا
وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا
إنا لله وإنا إليه راجعون
اللهم أعنا على أنفسنا
ولا تكلنا إليها طرفة عين أبدا
يتبع في حلقة ثانية بإذن الله تعالى