إيضاح الحق في دخول الجني في الإنسي والرد على من أنكر ذلك
للشيخ عبد الله بن باز رحمه الله
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد نشرت بعض الصحف المحلية وغيرها في شعبان من هذا العام أعني عام 1407 هـ أحاديث مختصرة ومطولة عما حصل من إعلان بعض الجن - الذي تلبس ببعض المسلمات في الرياض - إسلامه عندي بعد أن أعلنه عند الأخ عبد الله بن مشرف العمري المقيم في الرياض، بعدما قرأ المذكور على المصابة وخاطب الجني وذكره بالله ووعظه، وأخبره أن الظلم حرام وكبيرة عظيمة، ودعاه إلى الإسلام لما أخبره الجني أنه كافر بوذي، ودعاه إلى الخروج منها، فاقتنع الجني بالدعوة وأعلن إسلامه عند عبد الله المذكور، ثم رغب عبد الله المذكور وأولياء المرأة أن يحضروا عندي بالمرأة حتى أسمع إعلان إسلام الجني فحضروا عندي فسألته عن أسباب دخوله فيها فأخبرني بالأسباب، ونطق بلسان المرأة لكنه كلام رجل وليس كلام امرأة، وهي في الكرسي الذي بجواري وأخوها وأختها وعبد الله بن مشرف المذكور، وبعض المشايخ يشهدون ذلك ويسمعون كلام الجني، وقد أعلن إسلامه صريحاً وأخبر أنه هندي بوذي الديانة، فنصحته وأوصيته بتقوى الله، وأن يخرج من هذه المرأة ويبتعد عن ظلمها، فأجابني إلى ذلك، وقال: أنا مقتنع بالإسلام، وأوصيته أن يدعو قومه للإسلام بعدما هداه الله له فوعد خيراً وغادر المرأة، وكان آخر كلمة قالها: السلام عليكم.
ثم تكلمت المرأة بلسانها المعتاد وشعرت بسلامتها وراحتها من تعبه، ثم عادت إلي بعد شهر أو أكثر مع أخويها وخالها وأختها وأخبرتني أنها في خير وعافية، وأنه لم يعد إليها والحمد لله، وسألتها عما كانت تشعر به حين وجوده بها فأجابت بأنها كانت تشعر بأفكار رديئة مخالفة للشرع، وتشعر بميول إلى الدين البوذي والإطلاع على الكتب المؤلفة فيه، ثم بعدما سلمها الله منه زالت عنها هذه الأفكار ورجعت إلى حالها الأولى البعيدة من هذه الأفكار المنحرفة.
وقد بلغني عن فضيلة الشيخ علي الطنطاوي أنه أنكر مثل حدوث هذا الأمر وذكر أنه تدجيل وكذب، وأنه يمكن أن يكون كلاماً مسجلاً مع المرأة، ولم تكن نطقت بذلك، وقد طلبت الشريط الذي سجل فيه كلامه وعلمت منه ما ذكر، وقد عجبت كثيراً من تجويزه أن يكون ذلك مسجلاً مع أني سألت الجني عدة أسئلة وأجاب عنها، فكيف يظن عاقل أن المسجل يسأل ويجيب، هذا من أقبح الغلط ومن تجويز الباطل، وزعم أيضا في كلمته أن إسلام الجني على يد الإنسي يخالف قول الله تعالى في قصة سليمان: وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي[1]، ولا شك أن هذا غلط منه أيضاً هداه الله وفهم باطل فليس في إسلام الجني على يد الإنسي ما يخالف دعوة سليمان.
فقد أسلم جم غفير من الجن على يد النبي صلى الله عليه وسلم.. وقد أوضح الله ذلك في سورة الأحقاف وسورة الجن، وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((إن الشيطان عرض لي فشد علي ليقطع الصلاة علي، فأمكنني الله منه فذعتّه، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه، فذكرت قول أخي سليمان عليه السلام: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي[2]، فرده الله خاسئاً))، هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم:((إن عفريتا من الجن جعل يفتك علي البارحة ليقطع علي الصلاة، وإن الله أمكنني منه فذعته، فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون أو كلكم، ثم ذكرت قول أخي سليمان: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، فرده الله خاسئاً))، وروى النسائي على شرط البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم:(كان يصلي فأتاه الشيطان فأخذه فصرعه فخنقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتى وجدت برد لسانه على يدي، ولولا دعوة سليمان لأصبح موثقا حتى يراه الناس)، ورواه أحمد وأبو داود من حديث أبي سعيد وفيه: ((فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين الإبهام والتي تليها)).
وخرج البخاري في صحيحه تعليقا مجزوما به جـ 4 ص 487 من الفتح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال فخليت عنه، فأصبحت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة))؟ قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، شكا حاجةً شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله. قال: ((أما إنه قد كذبك وسيعود))، فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرصدته فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال ولا أعود، فرحمته فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟))، قلت: يا رسول الله، شكا حاجةً شديدة وعيالاً فرحمته وخليت سبيله، قال: ((أما إنه قد كذبك وسيعود))، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود ثم تعود.. قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[3]، حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة، قلت: يا رسول الله، زعم أن يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا قال: ذاك شيطان)).
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان عن صفية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)). وروى الإمام أحمد رحمه الله في المسند جـ 4 ص 216 بإسنادٍ صحيح أن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: (يا رسول الله، حال الشيطان بيني وبين صلاتي وبين قراءتي)، قال: ((ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أنت حسسته فتعوذ بالله منه واتفل
عن يسارك ثلاثاً))، قال: ففعلت ذاك فأذهبه الله عز وجل عني).
كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل إنسان معه قرين من الملائكة وقرين من الشياطين حتى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الله أعانه عليه فأسلم فلا يأمره إلا بخير. وقد دل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة على جواز دخول الجني بالإنسي وصرعه إياه،فكيف يجوز لمن ينتسب إلى العلم أن ينكر ذلك بغير علم ولا هدى، بل تقليداً لبعض أهل البدع المخالفين لأهل السنة والجماعة؟ فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأنا أذكر لك أيها القارئ ما تيسر من كلام أهل العلم في ذلك إن شاء الله.
بيان كلام المفسرين رحمهم الله في قوله تعالى:الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ[4]،
قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، ما نصه:
(يعني بذلك يخبله الشيطان في الدنيا وهو الذي يخنقه فيصرعه من المس يعني: من الجنون)، وقال البغوي رحمه الله في تفسير الآية المذكورة ما نصه: لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، (أي: الجنون. يقال: مُس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنوناً) أ هـ.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية المذكورة ما نصه: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ[5]، (أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياماً منكراً).
وقال ابن عباس رضي الله عنه:(آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق) رواه ابن أبي حاتم.
قال: وروي عن عوف ابن مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك. انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره على قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ[6]، (في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس). أ هـ.
وكلام المفسرين في هذا المعنى كثير من أراده وجده.
وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في كتابه [إيضاح الدلالة في عموم الرسالة للثقلين] الموجود في مجموع الفتاوى جـ 19 ص 9 إلى ص 65 ما نصه بعد كلام سبق. (ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي وأبي بكر الرازي وغيرهما دخول الجن في بدن المصروع ولم ينكروا وجود الجن، إذ لم يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول كظهور هذا وإن كانوا مخطئين في ذلك. ولهذا ذكر الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون: أن الجني يدخل في بدن المصروع، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: (قلت: لأبي إن قوماً يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي، فقال: يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه وهذا مبسوط في موضعه).
وقال أيضاً رحمه الله في جـ 24 من الفتاوى ص 276- 277 ما نصه: (وجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق سلف الأمة وأئمتها، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة، قال الله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)).
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: (قلت: لأبي إن أقواماً يقولون: إن الجني لا يدخل بدن المصروع، فقال: يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه)، وهذا الذي قاله أمر مشهور، فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب على بدنه ضرباً عظيماً لو ضرب به جمل لأثر به أثراً عظيماً، والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب ولا بالكلام الذي يقوله، وقد يجر المصروع غير المصروع ويجر البساط الذي يجلس عليه ويحول الآلات وينقل من مكانٍ إلى مكان، ويجري غير ذلك من الأمور من شاهدها أفادته علماً ضروريا بأن الناطق على لسان الإنسي والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان، وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع، ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك. أ هـ.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه [زاد المعاد في هدي خير العباد] جـ 4 ص 66 إلى 69 ما نصه:
(الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة، والثاني: هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه.
وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدافع آثارها، وتعارض أفعالها وتبطلها، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه، فذكر بعض علاج الصرع وقال: (هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة، وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج.
وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها).
إلى أن قال: (وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده، ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم.
وعلاج هذا النوع يكون بأمرين: أمر من جهة المصروع، وأمر من جهة المعالج، فالذي من جهة المصروع: يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان، فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحاً في نفسه جيداً، وأن يكون الساعد قوياً فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل، فكيف إذا عدم الأمران جميعاً! ويكون القلب خراباً من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه، ولا سلاح له.
والثاني من جهة المعالج: بأن يكون فيه هذان الأمران أيضاً، حتى أن من المعالجين من يكتفي بقوله: (اخرج منه) أو يقول: (بسم الله) أو يقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اخرج عدو الله أنا رسول الله)).
وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه. ويقول قال لك الشيخ: اخرجي، فإن هذا لا يحل لك، فيفيق المصروع، وربما خاطبها بنفسه وربما كانت الروح ماردةً فيخرجها بالضرب. فيفيق المصروع ولا يحس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مراراً...) إلى أن قال: (وبالجملة فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة، وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية، فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه، وربما كان عرياناً فيؤثر فيه هذا..). انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
وبما ذكرناه من الأدلة الشرعية وإجماع أهل العلم من أهل السنة والجماعة على جواز دخول الجني بالإنسي، يتبين للقراء بطلان قول من أنكر ذلك، وخطأ فضيلة الشيخ علي الطنطاوي في إنكاره ذلك.
وقد وعد في كلمته أنه يرجع إلى الحق متى أرشد إليه فلعله يرجع إلى الصواب بعد قراءته ما ذكرنا، نسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق.
ومما ذكرنا أيضاً يعلم أن ما نقلته صحيفة الندوة في عددها الصادر في 14/ 10/ 1407 هـ ص 8 عن الدكتور محمد عرفان من أن كلمة جنون اختفت من القاموس الطبي، وزعمه أن دخول الجني في الإنسي ونطقه على لسانه أنه مفهوم علمي خاطئ مائة في المائة. كل ذلك باطل نشأ عن قلة العلم بالأمور الشرعية وبما قرره أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وإذا خفي هذا الأمر على كثير من الأطباء لم يكن ذلك حجة على عدم وجوده، بل يدل ذلك على جهلهم العظيم بما علمه غيرهم من العلماء المعروفين بالصدق والأمانة والبصيرة بأمر الدين، بل هو إجماع من أهل السنة والجماعة، كما نقل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عن جميع أهل العلم، ونقل عن أبي الحسن الأشعري أنه نقل ذلك عن أهل السنة والجماعة، ونقل ذلك أيضاً عن أبي الحسن الأشعري العلامة أبو عبد الله محمد بن عبد الله الشبلي الحنفي المتوفي سنة 799 هـ في كتابه [آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان] في الباب
الحادي والخمسين من كتابه المذكور.
وقد سبق في كلام ابن القيم رحمه الله أن أئمة الأطباء وعقلاءهم يعترفون به ولا يدفعونه، وإنما أنكر ذلك جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم وزنادقتهم.
فاعلم ذلك أيها القارئ وتمسك بما ذكرناه من الحق ولا تغتر بجهلة الأطباء وغيرهم، ولا بمن يتكلم في هذا الأمر بغير علم ولا بصيرة، بل بالتقليد لجهلة الأطباء وبعض أهل البدع من المعتزلة وغيرهم، والله المستعان..
تنبيه:
قد دل ما ذكرناه من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كلام أهل العلم على أن مخاطبة الجني ووعظه وتذكيره ودعوته للإسلام وإجابته إلى ذلك ليس مخالفا لما دل عليه قوله تعالى عن سليمان عليه الصلاة والسلام في سورة ص أنه قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[7]، وهكذا أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وضربه إذا امتنع من الخروج، كل ذلك لا يخالف الآية المذكورة، بل ذلك واجب من باب دفع الصائل، ونصر المظلوم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يفعل ذلك مع الإنسي.
وقد سبق في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذعّت الشيطان حتى سال لعابه على يده الشريفة، عليه الصلاة والسلام وقال: ((لولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقاً حتى يراه الناس))، وفي روايةٍ لمسلم من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن عدو الله إبليس جاء بشهابٍ من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة))، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وهكذا كلام أهل العلم، وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية ومقنع لطالب الحق، وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه، والثبات عليه، وأن يمن علينا جميعاً بإصابة الحق في الأقوال والأعمال، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من القول عليه بغير علم، ومن إنكار ما لم نحط به علماً، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.