دراسة أحاديث: الرؤيا من أجزاء النبوة (رواية ودراية)
الملخص العربي عنوان البحث: دراسة أحاديث الرؤيا من أجزاء النبوة (راوية ودراية). مجال الدراسة: دراسة حديثية، وثيقة الصلة بعلمي الحديث الرواية والدراية. الباحث: د. حسن محمد عبه جي - تخصص الحديث الشريف. عدد الصفحات: (107) صفحة.
هدف الدراسة: تهدف إلى إيجاد إجابات علمية واضحة عن تساؤلات حول الأحاديث الواردة في الرؤيا التي هي من أجزاء النبوة، من أهمها: كيف نتعامل مع عدد من الأحاديث في هذا الموضوع، وهي مختلفة فيما بينها في نقطتين: عدد أجزاء النبوة، وصفات الرؤيا والرائي، ثم ما معنى جزء النبوة؟ وكيف يناله غير النبي؟ ومتى تكون الرؤيا من أجزاء النبوة؟.. الخ.
إجراءات البحث: قام الباحث بجمع الأحاديث الواردة في الباب، ثم خرجها، ودرس أسانيدها، وميز صحيحها من سقيمها، ولكثرة تلك الأحاديث - فقد بلغت ثمانية عشر حديثاً - تناول الباحث موضوع تواترها، ثم شرحها وسلط الضوء في الشرح على ثلاث نقاط، الأولى: صفات الرؤيا وصاحبها من خلال هذه الأحاديث، الثانية: التوفيق بين الروايات الصحيحة في اختلافها في عدد أجزاء النبوة، الثالثة: بيان معنى جزء النبوة.
أهم نتائج هذه الدراسة: 1- أن أصح الروايات خمسة، وهي على الترتيب: (46ثم 70ثم 45ثم 40) إضافة إلى الرواية المطلقة، والأخيرة تقيدها الروايات السابقة، وما سواها فروايات ضعيفة، أو لا سند لها أصلاً. 2- أن التواتر في هذا الخبر مقصور على القدر المشترك بين جميع الروايات، وهو أن الرؤيا الصادقة جزء من النبوة، دون تحديد هذا الجزء بقدر معين. 3- أن الرؤيا لا تكون جزءاً من أجزاء النبوة إلا إذا كانت صادقة ورائيها صالحاً. 4- أن الاختلاف في عدد الأجزاء عائد إلى اختلاف حال الرائين في الصلاح، أو اختلاف الرؤى في دلالاتها، وقيل غير هذا. 5- أن جزء النبوة للرؤيا الصالحة لا يعلم حقيقته بشر إلا الأنبياء، مع الاعتقاد أن جزء الشيء لا يسلتزم ثبوت وصفه له.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن العناية بالسنة المطهورة من أشرف ما اشتغل به الباحثون وصرفو إليه هممهم؛ لما لها من المنزلة الرفيعة، والمكانة العالية في الدين، يقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[1] ويقول سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله}[2] وإن أوجه العناية بالسنة متعددة، منها: ما يعود إلى الأسانيد التي نقلت السنة إلينا بواسطتها، وذلك بدارستها، وبيان أحوال ناقليها، وغير ذلك، ومنها: ما يعود إلى المتون، وذلك بالتحري في نقلها، وضبطها، وشرحها، وتوضيح ما أشكل منها، والجمع بينها إذا كان ثمَّ تعارض... إلى غير ذلك من أوجه العناية. وهذه دراسة حديثية أجمع من خلالها الأحاديث الواردة في الرؤيا التي هي من أجزاء النبوة، ثم أقوم بتخريجها، ودراستها، والتعليق عليها؛ خدمة للسنة الشريفة، ومساهمة في توضيحها وتقريبها للمسلمين، ودفاعاً عنها من خطر الأعداء، الذين يسعون دائبين إلى التشكيك فيها والنيل منها.
والباعث على هذه الدراسة أمور، أذكر منها: 1- أن الأحاديث الواردة في الرؤيا التي من أجزاء النبوة اختلفت ألفاظها اختلافاً كبيراً، فقد حددت بعض الروايات الؤيا بجزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة، وبعضها: بجزء من ستة وسبعين جزءاً، وبين الروايتين أحاديث كثيرة وأرقام مختلفة، مما حملني على جمع كل الأحاديث الواردة في هذا الباب وتخريجها ودراستها.
2- أن أعداء السنة الشريفة سواء أكانوا من المستشرقين أو من تسموا بالقرآنيين - وهم قد كفروا بالقرآن - قد يتخذون من الاختلاف الحاصل بين هذه الأحاديث وأمثالها ذريعة لنفث سمومهم ونشر شرورهم، في الصد عن السنة المطهرة، والتشكيك فيها، فجاءت هذه الدراسة لتمييز الروايات الصحيحة، والتوفيق بينها.
3- قد يستشكل البعض ممن يقف على ظواهر النصوص معنى هذا الحديث، في جعله الرؤيا الصالحة جزءاً من النبوة، ومعلوم أن النبوة قد ختمت بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد اشتملت هذه الرسالة على دفع هذا الاستشكال من خلال توضيح معنى الجزء في هذه الأحاديث، وتبيين المراد من قوله - صلى الله عليه وسلم - ((من النبوة)).
وقد اشتملت هذه الدراسة على: تمهيد، ومبحثين، وخاتمة، على النحو التالي: - التمهيد: ويشمل: أولاً: التعريف بالرؤيا. ثانياً: حقيقة الرؤيا. المبحث الأول: روايات الحديث، ويشمل ثلاثة مطالب: المطلب الأول: الروايات الصحيحة. المطلب الثاني: الروايات الضعيفة. المطلب الثالث: حول تواتر الحديث. المبحث الثاني: شرح الحديث، ويشمل ثلاثة مطالب: المطلب الأول: الصفات التي تشترط للرؤيا وصحابها. المطلب الثاني: التوفيق بين الروايات في تحديد الجزء. المطلب الثالث: بيان معنى "النبوة". الخاتمة: وتشمل أهم نتائج البحث. هذا، وأسأل الله تعالى حسن القصد، والسداد في القول والعمل، وأن يجعل هذا البحث نافعاً مفيداً، ومقبولاً لديه، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
تمـهيد أولاً: التعريف بالرؤيا:الرؤيا - في الأصل - مصدر: رأى في المنام يرى رؤيا، على وزن فُعْلَى، قال الشاعر:
عسى أرى يقظان ما أريت في النوم رؤيا أني سقيت[3] |
ثم جعلت اسماً لما يراه الشخص في منامه. قال الواحدي[4]: "هي في الأصل مصدر كاليسرى، فلما جعلت اسماً لما يتخيله النائم أجريت مجرى الأسماء" انتهى. وفرق أهل اللغة بين (الرؤيا) و(الرؤية): فخصوا الأولى بما يراه الإنسان في النوم، والثانية بما يراه بحاسة البصر في اليقظة، فقالوا: رأى في المنام رؤيا حسنة، ورأى بعينه في اليقظة رؤية، الأولى بالبصيرة، والثانية بالبصر. قال أبو البقاء[5]: "الرؤيا كالرؤية، غير أنها مختصة بما يكون في النوم؛ فرقاً بينهما.. ورأى رؤيا: اختص بالمنام، ورؤية: بالعين" انتهى. قلت: ويفرق بينهما في الإعراب أيضاً، فإن (رؤيا) ممنوعة من الصرف؛ لأنها ختمت بألف التأنيث، و(رؤية) مصروفة، لا مانع فيها. وقد تستعمل (الرؤيا) مصدراً في اليقظة فتكون بمعنى (الرؤية): قال ابن بري[6] "قد جاء الرؤيا في اليقظة، قال الراعي[7]
فَكَبَّرَ لِلرُّؤيَا وَهَشَّ فُؤَادُهُ وَبَشَّر نَفْساً كَانَ قَبلُ يَلُومُهَا[8] |
وعليه فسر قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}[9] أخرج البخاري[10]بسنده إلى ابن عباس- رضي الله عنهما- في تفسير هذه الآية قوله: "هي رؤيا عين أريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ليلة أسري به". قال ابن حجر[11] "استدل به على إطلاق لفظ الرؤيا على ما يرى بالعين في اليقظة، وقد أنكره الحريري تبعاً لغيره، وقالوا: إنما يقال: رؤيا في المنام، وأما التي في اليقظة فيقال: رؤية، وممن استعمل الرؤيا في اليقظة المتنبي[12]في قوله: ورؤياك أحلى في العيون من الغمض، وهذا التفسير يرد على من خطأه". وهمزة (الرؤيا) محققة، ومن العرب من يسهل همزتها، فيقول: رويا. قال الفراء[13]: "إذا تركت الهمزة من الرؤيا قالوا: الرويا: طلباً للهمزة[14]". لكن تجتمع واو ساكنة بعدها ياء، والقاعدة فيها: أن تقلب الواو ياء، ثم تدغم الياء في الياء، فتصير ياء مشددة، تقول: رأيت ريَّا، كما تقول: لويته ليّاً، وكويته كيّاً، والأصل فيهما: لوياً وكوياً، وتقلب الضمة على راء (ريا) كسرة؛ لمناسبة الياء المشددة التي بعدها، وجوز بعضهم إبقاء الضمة؛ إشارة إلى الواو المنقلبة[15]، واقتصر الخليل[16] على الكسر فحسب. قال الفراء[17]: "فإذا كان من شأنهم تحويل الهمزة قالوا: لا تقصص ريَّاك، في الكلام، وأما في القرآن فلا يجوز؛ لمخالفة الكتاب..". وزعم الكسائي[18] أنه سمع أعرابياً يقرأ: إن كنتم للريَّا تعبرون". واختلفوا في جمع (رؤيا): فذهب الجمهور إلى أنها تجمع على: رؤى. قال ابن منظور[19]: "وجمع الرؤيا: رؤىً، بالتنوين، مثل: رُعى". وقال أيضاً[20]: "رأيت عنك رؤى حسنة: حَلَمتها، وأرأى الرجل إذا كثرت رؤاه، بوزن: رعاه، وهي أحلامه، جمع: الرؤيا". وقال الخليل[21] لا تجمع (الرؤيا)، ونقله ابن منظور[22]من غيره.
ثانياً: حقيقة الرؤيا: تناول العلماء قديماً وحديثاً- على اختلاف تخصصاتهم واهتماماتهم- قضية الرؤى والأحلام بالبحث والدراسة، في محاولات دائبة للوقوف على طبيعتها، ودراسة أسبابها. وسأذكر هنا أشهر النظريات والدراسات حول الرؤى والأحلام عند الفلاسفة وعلماء النفس والأطباء، ثم أعلق عليها بكلمات يسيرة، مظهراً من خلالها الصواب الذي يمكن قبوله، والخطأ الذي ينبغي أن يحذر منه، فأقول:
اشتملت آراء الفلاسفة وعلماء النفس والأطباء- قديماً وحديثاً- حول طبيعة الرؤى والأحلام وأسبابها، على أربعة تفسيرات رئيسية: أولاً: الأحلام ناتجة عن مؤثرات جسمية. فقد ذهب جالينوس[23]إلى أن الأحلام تتعلق بالحالة الصحية للإنسان[24] وذهب أرسطو[25]إلى أنها عبارة عن تأثيرات عقلية ناجمة عن أسباب جسمية[26] ونسب جمهور الأطباء قديماً جميع الرؤى إلى الأخلاط، فقالوا: من غلب عليه البلغم رأى السباحة في الماء، ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجو، وهكذا يصنعون في بقية الأخلاط[27]. وأثبت الأطباء حديثاً أن الرؤى تنجم عن إثارات جسمانية وحسية، تأتي إلى النائم من العالم الخارجي ومن أعضائه الداخلية على حد سواء[28]. فأثبتوا قسماً من الرؤى بسبب تأثيرات الأعضاء الداخلية في الجسم.
فهذه الأقوال وما في معناها في دلالاتها على أن الرؤى والأحلام تعود لأسباب داخلية في جسم الرائي يمكن قبولها مع ملاحظة أمرين:
الأول: عدم تعميم هذا في كل الرؤى؛ إذ ليست جميع الرؤى من هذا القبيل، بل يقال: إن نوعاً من الرؤى يرجع لأسباب داخلية في جسم الإنسان، وهناك أنواع من الرؤى لها أسباب أخرى.
الثاني: عدم إضافة الرؤى التي من هذا القبيل إلى المؤثرات الجسمية، بمعنى أن يعتقد أن تلك المؤثرات صنعت تلك الرؤى، فهذا مما يخالف الاعتقاد بأن الله سبحانه هو الخالق لكل شيء، والصحيح أنها مجرد أسباب خلق الله عندها هذا النوع من الرؤى. قال المازري[29]: "وهذا مذهب وإن جوزه العقل، وأمكن عندنا أن يجري الباري جلت قدرته العادة بأن يخلق مثلما قالوه عند غلبة هذه الأخلاط، فإنه لم يقم عليه دليل ولا اطردت به عادة، والقطع في موضع التجويز غلط وجهالة، هذا لو نسبوا ذلك إلى الأخلاط على جهة الاعتياد، وأما إن أضافوا الفعل إليها، فإنا نقطع بخطئهم، ولا نجوز ما قالوه؛ إذ لا فاعل إلا الله سبحانه".
ثانياً: الأحلام ناتجة عن مؤثرات خارجية. يعتقد ديموقريطس[30] أن الأحلام تتعلق بأشياء تدور في الفضاء، وعند محاذاتها لنفس النائم فإنها تهاجمها وتنتقش فيها[31]. وهذا القول فيه خلط ظاهر، وقد عده المازري فاسداً وتحكماً بما لم يقم عليه برهان، وأضاف قائلاً[32] "الانتقاش من صفات الأجسام، وكثيراً ما يجري في [المنام[33] الأعراض، والأعراض لا تنتقش ولا ينتقش فيها".
ثالثاً: الأحلام ناتجة عن تخيلات باطلة. جاء في "المعجم الفلسفي[34]: "الرؤيا خيال باطل عند جمهور المتكلمين؛ إذ الغالب منه أضغاث أحلام، ولفقد شرائط الإدراك عند النوم، فالنوم ضد الإدراك فلا يجامعه، فلا تكون الرؤيا إدراكاً حقيقة، بل من قبيل الخيال الباطل". قلت: لا ينكر عاقل أن من الرؤى ما هو من قبيل الأضغاث المختلطة التي لا تعبير لها ولا مدلول، وسيأتي ما يدل على هذا من النصوص الشرعية، لكن الذي يؤخذ على هذا القول هو التعميم والاعتقاد بأن كل الرؤى من هذا القبيل. ثم إننا نحن المسلمين لا نوافق على الفلاسفة: (النوم ضد الإدراك فلا يجامعه)، بل نثبت إدراكاً خاصاً للنائم، تفاوت فيه الناس؛ فقد ثبت أن رؤى الأنبياء وحي من الله تعالى، ورؤى الصالحين جزء من أجزاء النبوة، وهذا الجزء متفاوت من شخص لآخر، كما سيتضح من خلال هذا البحث، مما يدل على أن في النوم إدراكاً خاصاً لا يصح نفيه.
رابعاً: الأحلام ناتجة عن مؤثرات نفسية. عرف علماء النفس الأحام بأنها: (سلسلة ظواهر نفسية تحدث أثناء النوم، ويجري تذكرها نسبياً بعد اليقظة)[35]. ويرى فرويد[36] زعيم مدرسة التحليل النفسي أن الأحلام ظاهرة تكشف عن صراعات جنسية أو عداونية يعانيها الحالم، أو أنها تعبير عن رغبات قديمة مكبوتة، فيرمي الحلم إلى إشباع هذه الرغبة بطريقة رمزية، ويمكن بتأويل رموز الحلم عن طريق التداعي الحر، الكشف عن المضمون الكامن، أي: عن مكبوتات اللاشعور من عقد وصراعات[37].
وقد دلت أبحاث الأطباء العلمية الحديثة على أن هناك نوعين من الأحلام: 1- أحلام ذات علاقة مباشرة بالحياة، ويقولون: إن هذا النوع من نتائج أفعال ونشاط القشرة المخية في مقدمة الدماغ. 2- أحلام صادرة عن رغبات وأفكار مكبوتة في اللاشعور، وهذا النوع نتيجة نشاط في الجزء الخلفي من المخ[38] والنوع الثاني عند الأطباء هو الذي ذكرناه عن (فرويد) قبل قليل، ولا يشك عاقل في أن نوعاً من الأحلام يكون تعبيراً عن رغبة مشتهاة أو تنفيساً عن كبت داخلي، لكن يبقى التساؤل عن جملة كبيرة من الأحلام التي لا يمكن تفسيرها بناء على هذه النظرية، وبخاصة تلك الرؤى التي تتنبأ بالمستقبل القريب أو البعيد، مما لا مجال للتردد في وجوده، فهو واقع في منامات الناس فعلاً، قديماً وحديثاً. وقد قسم قدامى الفلاسفة الرؤى والأحلام إلى طبقتين، الأولى: أحلام تأثرت بالحاضر أو الماضي، ولكنها خالية من الدلالة على المستقبل، والثانية: أحلام تحدد المستقبل، وتشمل النبوءة المباشرة التي يسمعها المرء في الحلم، فتكون الرؤيا سابقة إلى حدث في المستقبل[39] فالطبقة الثانية- أعني: الأحلام المستقبلية التنبؤية- لا يمكن أن تفسر إلا على أساس الاعتراف بصلة ما خفية بين الروح وعالم الغيب، مما يجعل نظرية (فرويد) قاصرة، لا تصدق على جميع أنواع الرؤى والأحلام. وقال سيد قطب[40] بعد أن أثار تساؤلات عن طبيعة الرؤيا: "تقول مدرسة التحليل النفسي: إنها صور من الرغبات المكبوتة، تتنفس بها الأحلام في غياب الوعي - قال - وهذا يمثل جانباً من الأحام، ولكنه لا يمثلها كلها".
وبعد، فهذه أبرز النظريات والآراء حول طبيعة الرؤى والأحلام، صدق بعضها على جملة من الأحلام، واشتمل بعضها الآخر على خلط وفساد - كما رأينا - ويرجع هذا للأسباب الآتية: 1- أن كل فئة ناقشت هذه القضية باللغة التي تحسنها، وتعاملت معها بالأدوات التي تمتلكها، فالفلاسفة تكلموا فيها بمنطق فلسفي، وعلماء النفس على أنها ظاهرة نفسية، والأطباء على أنها مشكلة متعلقة بجسم الإنسان، وأخضع كل فريق جميع ما يراه الناس في أحلامهم إلى ما توصل إليه من دراسات ونظريات تحكماً وتمحلاً، وهذا واضح جلي من خلال ما ذكروه. وفات الجميع أن الرؤى والأحام تتعلق بعالم خاص، هو عالم الروح، يدرك الإنسان بعض آثاره، ويجهل إلى اليوم كثيراً من أسراره.
2- أن كلاً ممن تقدم أدلى بدلوه في هذا القضية بقدر ما لديه من معارف وخبرات وتجارب، لذا جاءت التفسيرات متفاوته، وفوق كل ذي علم عليم.
3- أن الاعتماد في كل النظريات والأقوال السابقة على التجارب المادية والعقل المحض، والرؤى والأحام من القضايا الروحية، التي لا تخضع للتجارب المادية، كما أن تحكيم العقل فيها إعمال له في ما هو أوسع من نطاقه. فالواجب على العاقل- كي لا يضل الطريق- أن يهتدي في مثل هذه القضايا بما جاء عن الخالق العظيم الذي خلق الروح، وأناط بها الرؤى، وتركها سراً خفياً {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}[41]
الرؤى والأحلام عند المسلمين: عمدة علماء المسلمين في هذا الباب: خبر الله تعالى، وخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، ولذلك جاء كلامهم في غاية الكمال والشمولية. ولو توقفنا لنقارن بين ما جاء في الآيات والأحاديث حول الرؤى والأحلام، وبين أقوال الفلاسفة والأطباء وعلماء النفس من خلال دراساتهم ونظرياتهم وأبحاثهم، لوجدنا أن ما توصلوا إليه واكتشفوه بعد زمن طويل ولأي شيء وجهد متواصل، يعد نوعاً من أنواع الرؤى والأحلام، وقد فاتتهم بقية الأنواع التي نص عليها القرآن الكريم والسنة المطهرة. إن المسلم عنده الأدلة الشرعية الكافية للتصديق بالأحلام النفسية قبل أن يكتشفها علماء النفس، بل قبل ظهور علم النفس كله. كما أن عنده الأدلة للتصديق بالرؤى التنبؤية، فالقرآن الكريم ذكر رؤيا يوسف عليه السلام، ورؤيا عزيز مصر، ورؤيا صاحبي السجن، وذكر غيرها من هذا القبيل، فهو يؤمن بها، ولا يضيره بعد ذلك عدم اعتراف علماء النفس بها. وقد جاءت السنة الشريفة بتقسيم شامل كامل للرؤى والأحلام، بما لا يدع بعدها قولاً لأحد: فقد أخرج الشيخان[42]من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه.. )) الحديث[43]. وفي رواية للترمذي[44]: ((الرؤيا ثلاث: فرؤيا حق، ورؤيا يحدث بها الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان....)). قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وأخرج ابن ماجة[45] من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)). قال[46]: قلت له: أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، أنا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال البوصيري[47]: "هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات".
قلت: دل الحديثان السابقان على أن الرؤى والأحلام ثلاثة أنواع: الأول: الرؤيا الصالحة: وهي الرؤيا الحق، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. الثاني: الحلم النفسي: نص عليه حديث أبي هريرة بلفظ: ((ورؤيا مما يحدث المرء نفسه))، وحديث عوف بن مالك بلفظ: ((ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه))، بيد أن الرواية الأولى أعم وأشمل من الثانية؛ لأن حديث النفس يشمل الهم وغيره. والمراد هنا: جميع الأحلام الناشئة عن أمور نفسية، فمن أراد أمراً ما، أو تمناه، أو هم به، أو عزم على فعله، أو انشغل فكره بما له تعلق بمزاجه أو عادته المستمرة، وما إلى ذلك، فقد حدث به نفسه، فإذا رأى ذلك الأمر في منامه، فإن رؤياه من قبيل الأحلام النفسية. الثالث: الحلم الشيطاني: نص عليه حديث أبي هريرة بلفظ: ((ورؤيا تحزين من الشيطان))، وحديث عوف بن مالك بلفظ: ((أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم)). فالرؤيا التي اشتملت على الأهوال والشدائد والمناظر المفزعة، فأثارت عند رائيها الخوف، وأدخلت على قلبه الحزن، فإنها من قبيل الأحلام الشيطانية. ولا يعني هذا أن كل حلم بدت آثاره على رائيه كذلك يكون من قبيل الأحلام الشيطانية، فقد تقع تلك الأحلام بسبب داخلي عند الحالم، إن كان يعاني من مشاكل أو اضطرابات نفسية أو جسمية، فتكون حينئذة من قبيل الأحلام النفسية. ومن الأحلام الشيطانية: الاحتلام، نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية[48] قلت: وهذا ليس على إطلاقه، فالمؤثرات النفسية قد تكون أحياناً سبباً في الاحتلام، كما لا يخفى، فيكون حينئذ من قبيل الأحلام النفسية أيضاً، والله أعلم. ونسبة بعض الرؤى إلى الشيطان (حلم شيطاني) نسبة مجازية لا حقيقة، فخالق الرؤى والأحام جميعها هو الله سبحانه وتعالى: هذا مما لا يشك فيه مسلم. قال المازري[49]: "يخلق الله تعالى الرؤيا والاعتقادات التي جعلها علماً على ما يسر بحضرة الملك أو بغير حضرة الشيطان، ويخلق ضدها مما هو علم على ما يضر بحضرة الشيطان، فتنسب غليه مجازاً واتساعاً، وهذا المعني بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان))[50] ، لا على أن الشيطان يفعل شيئاً في غيره، وتكون الرؤيا اسماً يحب، والحلم لا يكره" انتهى. تلك هي أنواع الرؤى والأحلام كما دلت عليها السنة الشريفة. قال أبو عبدالله القرطبي[51]: "قد قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا أقساماً تغني عن قول كل قائل"، ثم ساق حديث عوف بن مالك المتقدم. وقال أبو بكر ابن العربي[52]: " - أما - تقسيمه - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا على ثلاثة أقسام، فهي قسمة صحيحة مستوفية للمعاني" انتهى. لكن الحافظ ابن حجر قال[53] "ليس الحصر مراداً من قوله "ثلاث"، لثبوت نوع رابع في حديث أبي هريرة في الباب، وهو: حديث النفس". قلت: حديث أبي هريرة المشار إليه تقدم قريباً[54] وقد فرق ابن حجر في كلامه هذا بين: حديث النفس، وبين ما يهم الرجل في يقظته فيراه في منامه، وقد تقدم معناهما[55] وأن المراد منهما جميع الأحلام النفسية، هكذا فهم القرطبي وابن العربي وغيرهما، فلا داعي لهذا التنويع، والله أعلم. ثم قال ابن حجر[56] "وبقي نوع خامس، وهو: تلاعب الشيطان". واستدل له بحديث جابر بن عبد الله عند مسلم[57] قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، رأيت في المنام كأن راسي ضرب فتدحرج، فاشتددت على أثره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- للأعرابي: ((لا تحدث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك)). وقال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم- بعد يخطب فقال: ((لا يحدثن أحدكم بتلعب الشيطان به في منامه)). قلت: تلاعب الشيطان الوارد في هذا الحديث واضح أنه من الأحلام الشيطانية، وليس نوعاً زائداً كما قال الحافظ، وتقدم في حديث أبي هريرة: ((ورؤيا تحزين من الشيطان))، وفي حديث عوف بن مالك: ((أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم)). فالأحلام الشيطانية إذا تشتمل على الأهوال؛ لإدخال الخوف والرعب والهلع على قلب رائيها، وما رآه الأعرابي أهاويل أحزنته وأفزعته، ولولا شدة هلعه مما رأى لما حدث به النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال ابن حجر[58]: "ونوع سادس وهو: رؤيا ما يعتاد الرائي في اليقظة، كمن كانت عادته أن يأكل في وقت، فنام فرأى أنه يأكل، أو بات طافحاً من أكل أو شرب، فرأى أنه يتقيأ". قلت: رؤيا ما يعتاده الرائي في اليقظة من الأحلام النفسية وقد تقدمت، وهي أخص منها فتندرج تحتها، ولا حاجة لإفرادها بنوع خاص، على أن الحافظ نفسه لم يأت بدليل على هذا النوع، وقد قال عقب ذلك: "وبينه وبين حديث النفس عموم وخصوص"!. ثم قال ابن حجر[59]: "وسابع وهو الأضغاث" ولم يوضحه هنا بتعريف ولا مثال! والأضغاث في اللغة: الأخلاط، قال القرطبي[60]: "واحد الأضغاث: ضغث، يقال: لكل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما: ضغث" انتهى. وقال الأصفهاني[61]: "وبه شبه الأحلام المختلطة التي لا يتبين حقائقها {قالوا أضغاث أحلام}[62] أي: حزم أخلاط من الأحلام". وبناء على هذا، فالأضعاث ليست نوعاً زائداً على الأقسام الثلاثة المذكورة في السنة المطهرة، وإنما هي أخلاط من نوعين، هما: الأحلام النفسية، والمرائي الشيطانية، فلا تستحق أن تفرد بنوع خاص. وقد صرح بهذا الإمام أبو العباس القرطبي[63]فقال: "وقد يجتمع هذان السببان، أعني: هموم النفس، وألقيات الشيطان في منام واحد، فتكون أضغاث أحلام لاختلاطها". ويرى بعذ الدارسين الاستقرائيين التجريبيين أن الأضغاث إنما تأتي للرائي بأحد سببين: بدني أو نفسي، فإما أن يكون المرء في وضع صحي بدني منحرف، أو مزاج نفسي مضطرب، فينعكس ذلك على صفحة النفس اختلالاً واختلاطاً وبلبلة، وتكون الأحلام أضغاثاً[64] وبناء على هذا فالأضغاث من الأحلام النفسية فحسب. ثم إن لابن حجر نفسه كلاماً آخر[65]حول هذه الأنواع، لا يتفق مع كلامه المتقدم، فقد قسم الرؤى هناك إلى قسمين: صادقة، وأضغاث، ثم جعل الأضغاث على أنواع، فارجع إليه إن شئت؛ لتقف على مدى الاختلاف بين كلاميه. وتوسع النابلسي[66] في أقسام الرؤى، فذكر للصادقة خمسة أقسام، وللتي بسبب الشيطان سبعة أقسام، وقد أعرضت عن ذكر تلك الأقسام؛ لأن منها: ما يعود إلى الأقسام الثلاثة المتقدمة الثابتة بالأحاديث الشريفة، ومنها: ما يتوقف القول فيه على دليل، ولم أجده؟. وبهذا تبقى أقسام الرؤى ثلاثة، وهي التي نص عليها حديث أبي هريرة وحديث عوف بن مالك المتقدمين. وقد وردت روايات متعددة تدل على أن القسم الأول - أعني: الرؤى الصالحة التي هي بشرى من الله تعالى - جزء من أجزاء النبوة، لكن هذه الروايات اختلفت فيما بينها حول تحديد جزء النبوة قلة وكثرة، كما أن فيها إشكالاً في نسبة جزء من النبوة إلى غير الأنبياء. فقمت من خلال هذه الدراسة بجمع الروايات الواردة في الباب، وتخريجها، ودراستها، والتعليق عليها، وشرحها، وتوضيح ما أشكل من معناها، وهذا أوان الشروع في أول مباحثها:
المبحث الأول روايات الحديث إن الروايات الواردة في هذا الباب متفاوتة من حيث القوة والضعف، فقد بلغ بعضها أعلى درجات الصحة، وكان بعضها في أدنى درجات الضعف، وسأعرض في هذا المبحث تلك الروايات بأسانيدها ومتونها. أما ما يتعلق بالأسانيد: فإني أسوق طرق الأحاديث، ثم أوضح درجتها، مع النص على مكمن الضعف وبيان العلة في السند الضعيف دون إسهاب، معتمداً على أقوال أئمة الجرح والتعديل في الرجال، ومستأنساً بأحكام الأئمة المتقدمين على تلك الأحاديث. وكل حديث في الصحيحين أو أحدهما فهو دليل على صحته ولن أكثر الكلام عنه. وأما ما يتعلق بالمتون: فقد اعتمدت في ذكرها على لفظ الرواية الأقدم. وإذا اشتمل المتن على جمل أخرى غير الجملة التي أقوم بدراستها، فسأقتصر على موطن الشاهد منه؛ خشية الإطالة. وقد قسمت هذه الروايات إلى مطلبين: الأول للروايات الواردة بأسانيد صحيحة، والثاني: للروايات الواردة بأسانيد ضعيفة، أو بدون إسناد أصلاً. وبلغ مجموع الأحاديث الواردة في الباب ثمانية عشر حديثاً، مما جعلني أعقد مطلباً ثالثاً لمناقشة مسألة تواتر هذا الحديث. ورقمت الأحاديث المذكورة برقم تسلسلي، وجعلت هذا الرقم هو المعتمد عند الإحالة إلى هذه الأحاديث.
المطلب الأول: الروايات الصحيحة الأولى: رواية ستة وأربعين قال المازري[67]: "الأكثر والأصح عند أهل الحديث: من ستة وأربعين". قلت: وردت هذه الرواية من حديث أنس بن مالك، وعبادة بن الصامت، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وعوف بن مالك، وعبدالله بن عباس، وأبي رزين العقيلي[68]، ورواها عطاء بن يسار مرسلة: 1- حديث أنس: رواه عنه: إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، وثابت ابن أسلم البناتي، وحميد بن أبي حميد الطويل. طريق إسحاق: أخرجها مالك[69]، عنه، ولفظه: ((الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)). وأخرجها من طريق مالك: الشافعي[70]، وأحمد[71]، والبخاري[72]، والنسائي[73]، وابن ماجة[74] والطحاوي[75] وابن حبان[76] والبغوي[77] وابن عساكر[78] والبرزالي[79] طريق ثابت البناني: أخرجها أحمد[80]عن عفان. والبخاري[81]عن معلى بن أسد. والترمذي[82]عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، حدثنا معلى بن أسد. وأبو يعلى[83]عن إبراهيم بن الحجاج السامي. قال ثلاثتهم: حدثنا عبد العزيز بن المختار. وأخرجها مسلم[84]عن عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة. كلاهما قال: حدثنا ثابت. وأخرجها أبو نعيم[85] عن أبي بكر بن خلاد، حدثنا الحارث بن أبي أسامة. والبغوي[86] عن أحمد بن عبدالله الصالحي، أخبرنا أبو عمر بكر بن محمد المزني، حدثنا أبو بكر محمد بن عبدالله حفيد العباس بن حمزة، حدثنا أبو علي الحسين بن الفضل البجلي. كلاهما قال: حثدنا عفان. وخولف أحمد، والحارث، والحسين بن الفضل. فرواه الحسن بن المثنى، عن عفان، بلفظ: ((من ستة وعشرين)). أخرجه ابن عبدالبر[87] عن عبدالله بن محمد بن أنس، حدثنا بكر بن محمد بن العلاء، حدثنا الحسن بن المثنى بن دجانة، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا عبدالعزيز بن المختار، حدثنا ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((... ورؤيا المؤمن جزء من ستة وعشرين جزءاً من النبوة)). قال ابن عبدالبر عقب هذه الرواية: "هكذا في حديث أنس هذا، وهو حسن الإسناد" انتهى. قلت: فيه (الحسن بن المثني بن دجانة) كذا في المطبوع، ولم أقف له على ترجمة بعد طول بحث، لكن في الرجال من اسمه: (الحسن بن المثنى بن معاذ) من نبلاء الثقات[88] يروي عن (عفان بن مسلم)، فهل يكون هو، وتكون (دجانة) محرفة عن (معاذ)؟ وإلا فهو مجهول. ومع تقدير أنه هو، فروايته هذه مخالفة لرواية غير واحد من الثقات الذين رووه بلفظ "من ستة وأربعين"، فتكون رواية شاذة، ورواية جماعة الثقات هي المحفوظة، والله أعلم. وأورد ابن حجر[89]رواية "من ستة وعشرين" ثم قال: "المحفوظ من هذا الوجه كالجادة"، وهذا واضح في الحكم على الرواية المذكورة بالشذوذ. طريق حميد الطويل: أخرجها ابن أبي شيبة[90]عن العقيلي، عن حميد، وأوقف الحديث. وأخرجها أحمد[91]عن ابن أبي عدي. وأبو يعلى[92]عن محمد بن المنهال، حدثنا يزيد. وعن وهب بن بقية، أخبرنا خالد. ثلاثتهم عن حميد. قلت: هذا حديث صحيح، أخرجه الشيخان من طريق ثابت، والبخاري دون مسلم من طريق إسحاق. وقال البغوي[93]بعد إخراجه للطريق الأولى: "هذا حديث صحيح". وزعم بعضهم[94]أن الطريق الثالثة، وهي طريق (حميد الطويل عن أنس) ضعيفة، واحتج لهذا بأن حميداً كثير التدليس وقد عنعن، وهذا ليس بصواب، فقد نقل العلائي[95] عن مؤمل بن إسماعيل قوله: "عامة ما يرويه حميد عن أنس، سمعه من ثابت - يعني البناني -، عنه. "وعن أبي عبيدة الحداد، عن شعبة، قوله: لم يسمع حميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثاً، والباقي سمعها من ثابت، أو ثبته فيها ثابت. "قلت - القائل هو العلائي -:فعلى تقدير أن تكون مراسيل، قد تبين الواسطة فيها، وهو ثقة محتج به" انتهى. ثم إن للحديث طريقاً رابعة: قال البخاري[96]: "رواه ثابت وحميد وإسحاق ابن عبدالله وشعيب، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -" انتهى. قلت: تقدمت رواية ثابت، وحميد، وإسحاق، وأما رواية شعيب - وهو ابن الحبحاب - وصلهما ابن حجر[97] في كتاب "الروح" لابن منده، من طريق عبدالوارث بن سعيد، وفي الجزء الرابع من "فوائد أبي جعفر محمد بن عمرو الرزاز" من طريق سعيد بن زيد، كلاهما عن شعيب، ولفظه مثل حميد، وأشار الدارقطني إلى أن الطريقين صحيحان.
2- حديث عبادة: روي من طريق شعبة وسعيد بن أبي مريم، كلاهما عن قتادة، عن أنس، عن عبادة. فطريق شعبة: أخرجها الطيالسي[98] عنه، بلفظ: ((رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)). ومن طريقه: الترمذي[99]والبيهقي[100] وقال مسلم[101] حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر وأبو داود. (ح) وحدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي. كلهم عن شعبة. (ح) وحدثنا عبيد الله بن معاذ- واللفظ له-، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، به. وأخرجها ابن أبي شيبة[102]قال: حدثنا شبابة بن سوار. وقال الدارمي[103] أخبرنا الأسود بن عامر. وقال أحمد[104] حدثنا محمد بن جعفر. وقال أيضاً[105] حدثنا عبد الرحمن- بن مهدي-. وقال كذلك[106] حدثنا حجاج. وقال البخاري[107] حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر. وقال أبو داود[108] حدثنا محمد بن كثير. وقال النسائي[109] أخبرنا إسماعيل بن مسعود، حدثنا بشر. وقال البزار[110]: حدثنا محمد بن المثنى، أخبرنا محمد بن جعفر. وقال أبو يعلى[111]: حدثنا أحمد، حدثنا شبابة. وقال الشاشي[112]: حدثنا عيسى بن أحمد وعلي بن سهل بن المغيرة، قالا: حدثنا شبابة. وقال أيضاً[113]: حدثنا أبو مسلم، حدثنا عمرو بن مرزوق. وقال البيهقي[114]: أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي، أخبرنا عبدالله بن محمد بن الحسن الشرقي، حدثنا محمد بن يحيى الذهلي، حدثنا عبدالرحمن بن مهدي. قال الجميع: حدثنا شعبة. وطريق سعيد بن أبي مريم: أخرجها أحمد[115] عن روح، عنه. والطحاوي[116] عن علي بن شيبة، حدثنا روح. قلت: هذا حديث صحيح، أخرجه الشيحان. وقال الترمذي[117]: "حديث عبادة حديث صحيح".
3- حديث أبي هريرة: رواه عنه: عبد الرحمن بن هرمز (الأعرج)، وسعيد ابن المسيب، ومحمد بن سيرين، وأبو صالح السمان (ذكوان)، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهمام بن منبه، وسليمان بن عريب. طريق الأعرج: أخرجها مالك[118] عن أبي الزناد، عنه. ولفظه: "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة". وقال الشافعي[119] أخبرنا مالك، به. طريق سعيد بن المسيب: أخرجها عبد الرزاق[120] عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب. ومن طريق عبد الرزاق: أحمد[121]ومسلم[122]والبيهقي[123] وأخرجها ابن أبي شيبة[124]وأحمد[125] عن عبد الأعلى. وقال ابن ماجة[126] حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، به. وأخرجها البخاري[127]قال: حدثنا يحيى بن قزعة، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن ابن المسيب. طريق محمد بن سيرين: أخرجها عبدالرزاق[128] عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين. ومن طريقة: أحمد[129]، ومسلم[130]، والحاكم[131]، والبيهقي[132]، والبغوي[133]. وأخرجها أحمد[134] عن يزيد، أخبرنا هشام - بن حسان -. والبخاري[135] عن عبدالله بن صباح، حدثنا معتمر قال: سمعت عوفاً. والترمذي[136] عن نصر بن علي، حدثنا عبدالوهاب الثقفي، حدثنا أيوب. وابن ماجة[137] عن أحمد بن عمرو بن السرح المصري، حدثنا بشر بن بكر، حدثنا الأوزاعي. وقال الطبراني[138] حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا إبراهيم بن راشد الأدمي، حدثنا أبو ربيعة، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني وحبيب بن الشهيد وهشام بن حسان. وقال أيضاً[139] حدثنا أحمد بن خليد الحلبي، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن معمر، عن قتادة وأيوب. وأخرجها الطحاوي[140]عن علي بن معبد، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ويزيد بن هارون، عن هشام بن حسان. وابن عبد البر[141]عن عبد الوارث بن سفيان، حدثني قاسم بن أصبغ، حدثني مضر بن محمد المكي، حدثني إبراهيم بن عثمان بن زياد المصيصي، حدثني مخلد ابن حسين، عن هشام بن حسان. وابن عدي[142]قال: حدثنا علي بن سعيد الرازي، حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا عبد الله بن عيسى، عن يونس. سبعتهم عن ابن سيرين. وطريق ابن عدي خاصة ضعيفة، فيها (عبدالله بن عيسى) وهو ابو خلف الخزاز، وقد اختلف عليه في هذا الحديث، فرواه محمد بن عبدالأعلى عنه بلفظ: "ستة وأربعين" كما تقدم، ورواه محمد بن مرادس عنه بلفظ: "أربعين". أخرجه البزار[143] عن محمد بن مرداس، حدثنا أبو خلف، عن يونس، عن محمد، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رؤيا العبد المؤمن جزء من أربعين جزءاً من النبوة". وهذه رواية ضعيفة منكرة، والآفة فيها من أبي خلف هذا، فقد قال عنه أبو زرعة: منكر الحديث. وقال ابن عدي: يروي عن يونس وداود بن أبي هند ما لا يوافقه عليه الثقات، أحاديثه أفراد كلها. وقال النسائي: ليس بثقة[144]. وقال الهيثمي[145] بعد أن أورد حديثه: "فيه: عبدالله بن عيسى الخزاز، وهو ضعيف". طريق أبي صالح: أخرجها ابن أبي شيبة[146] وأحمد[147]، قالا: حدثنا عبدالله بن نمير، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح. وأخرجها مسلم[148] قال: حدثنا إسماعيل بن الخليل، أخبرنا على بن مسهر، عن الأعمش. (ح) وحدثنا ابن نمير، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش. طريق أبي سلمة: أخرجها أحمد[149] عن عبدالصمد، حدثني أبي، حدثنا حسين. وأخرجها مسلم[150]عن يحيى بن يحيى، أخبرنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير. وأخرجها مسلم[151]أيضاً عن محمد بن المثنى، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا علي (يعني: ابن المبارك). (ح) وحدثنا أحمد بن المنذر، حدثنا عبد الصمد، حدثنا حرب (يعني: ابن شداد). وأخرجها ابن عدي[152]عن عبيد الله بن جعفر بن أعين، حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير. أربعتهم عن يحيى بن أبي كثير. وأخرجها أحمد[153]عن يحيى (يعني: ابن سعيد). والطحاوي[154]عن ابن أبي داود، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد. وأخرجها البغوي[155]قال: أخبرنا أبو عبد الله الخرقي، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري حدثنا أحمد بن علي الكشميهني، حدثنا علي بن حجر، حدثنا إسماعيل بن جعفر. كلاهما عن محمد بن عمرو. و (يحيى بن أبي كثير) و(محمد بن عمرو) عن أبي سلمة، به. طريق همام بن منبه: أخرجها أحمد[156]عن عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه. وأخرجها مسلم[157] قال:حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبدالرزاق. قلت: هذا الحديث من طريق سعيد بن المسيب وابن سيرين أخرجه الشيخان، ومن طريق همام بن منبه وأبي سلمة وأبي صالح أخرجه مسلم، ومن طريق عبدالرحمن الأعرج إسناده صحيح، ورجاله أئمة ثقات. وقال الترمذي[158] بعد إيراده الحديث من طريق ابن سيرين: "هذا حديث حسن صحيح". وقال الحاكم[159] أيضاً: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقة الذهبي. وقد وهما، فقد سبق إخراج الشيخين له من عدة طرق. وأخرجه البغوي[160] من طريق أبي سلمة، وقال: صحيح. طريق سليمان بن عريب: أخرجها البزار[161] عن إبراهيم بن زياد الصائغ. والطبراني[162] عن محمد بن عبدالله الحضرمي. قال: حدثنا علي بن حكيم، حدثنا عمرو بن هاشم أبو مالك الجنبي. وأخرجها ابن عبدالبر[163] عن خلف بن قاسم، حدثنا ابن أبي العقب، حدثنا أبو زرعة الدمشقي، حدثنا بن خالد الوهبي[164]. كلاهما عن محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن الأعرج، عن سليمان بن عريب، عن أبي هريرة رض�