جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
داء السحر والوقاية منه 12/2/1428هـ
|
|
أحمد بن حسين الفقيهي
|
الخطبة الأولى : أيها المسلمون : إن من الأمراض التي انتشرت واستشرت في زمننا هذا ، ذلكم الداء ، الذي فشا بين الرجال والنساء ، وبين الفقراء والأغنياء ، وبين العالة والرؤساء ، كم صحة بسببه ذبلت ، وسعادة سلبت ، وفرحة قتلت ، وتجارة كسدت . إنه عباد الله : داء السحرة والمشعوذين ، تلكم العزائم والرقى والعقد والطلاسم التي تؤثر في الأبدان والقلوب ، فتمرض وتقتل ، وتفرق وتهدم ، وتفسد وتدمر ، ُتري المسحور النافع ضاراً والضار نافعاً، وللسحر أنواع مختلفة وطرائف متباينة تتعدد بتعدد الاستعانات التي يستعين بها الساحر في تحقيق غرضه ، ولذا قال العلامة الشنقيطي رحمه الله :" أعلم أن السحر لا يمكن حده بحد مانع جامع ، لكثرة الأنواع المختلفة تحته ، ولا يتحقق قدر مشترك بينهما يكون جامعاً لها ، مانعاً لغيرها ، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافاً متبايناً ..." أيها المسلمون : السحر داء قديم من أدواء الأمم ، وأشهر أمم الأرض تعاطياً للسحر هم اليهود حيث ألصقوا بنبي الله سليمان عليه السلام السحر والشعوذة فكذبهم الله بقوله : " واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ، وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ، يعلمون الناس السحر ، وما أنزل على الملكين ببال هاروت وماروت وما يعلمان من احد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرق به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من احد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون". ولقد كانت العرب في الجاهلية قبل الإسلام يكثر فيهم السحرة والكهان ، ولذا رموا النبي صلى الله عليه وسلم بهما لما جاءهم بالقرآن، فجاء الإسلام وشن حرباً لا هوادة فيها على السحر والسحرة ، وسد كل طريق يؤدي إليه ، فحرم تعلمه وتعليمه وتعاطيه منعاً لضرره وحسماً لشره وأثره، قال صلى الله عليه وسلم :" اجتنبوا السبع الموبقات ... وذكر منهن السحر "، فعده واحد من الجرائم السبع المهلكات ، وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن خمر ، وقاطع رحم ، ومصدق بالسحر ، ولقد بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في تحذير أمته من السحر فقال : ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له .. رواه البزار وغيره . عباد الله : إن السحر حقيقة موجودة ، ولها تأثير في واقع الناس ولو لم يكن موجوداً وله حقيقة لما وردت النواهي عنه في الشرع ، والوعيد على فاعله ، والعقوبات الشرعية على متعاطيه ، فكم فرق السحر بين زوج وزوجته ، وبين صديق وصديقه ، وتاجر وتجارته ، وموظف ووظيفته ، قال النووي رحمه الله : "والصحيح أن السحر كله حقيقة ، وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء ، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة ". أيها المسلمون : إن خطر السحرة كبير وجرمهم مستطير يزينون للناس إتيان الشر ويهونوه عليهم ومن علامات السحرة : سؤالهم المريض عن اسمه واسم أمه ، وقد يأخذ من المريض أثر من آثاره وربما طلبوا منه حيواناً بصفات معينة ليذبح على غير هدى الله وذكره ، ومنهم من يكتب الطلاسم والعزائم التي لا تعرف قراءتها ، فاحذروا عباد الله منهم وإن كان ظاهرهم الصلاح والخير ، وأعلموا أن أولئك السحرة من كان سحره بواسطة الشياطين فإنه يكفر لأنه لا يتأتى ذلك إلا بالشرك غالباً ، ومن كان سحره بالأدوية والعقاقير ونحوها فلا يكفر ، ولكن يعتبر عاصياً متعدياً ، يقول العلامة السعدي رحمه الله : السحر يدخل في الشرك من جهتين من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن التعلق بهم ، وربما تقرب إليهم بما يحبون ، ليقوموا بخدمته ومطلوبه ، ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب ، ودعوى مشاركة الله في علمه ، وسلوك الطرق المفضية إلى ذلك. عباد الله : لقد جاء حكم الشريعة بقتل السحرة، يقول ابن تيمية رحمه الله : أكثر العلماء على أن الساحر كافر يجب قتله ، وقد ثبت قتل الساحر عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وغيرهم رضي الله عنهم ، أخرج الترمذي والحاكم عن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حد الساحر ضربه بالسيف .. وجاء عند الإمام احمد بسند صحيح عن بجالة رضي الله عنه قال : أتانا كتاب عمر قبل موته لسنة : أن أقتلوا كل ساحر وساحرة . قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله : الواجب قتل السحرة سواء قلنا بكفرهم أم لم نقل ، لأنهم يمرضون ويقتلون ، ويفرقون بين المرء وزوجه ، ولأنهم يسعون في الأرض فسادا ، فكان واجباً على ولي الأمر قتلهم بدون استتابة مادام انه لدفع ضرهم ، وفظاعة أمرهم ، فإن الحد لا يستتاب صاحبه ، متى قبض عليه وجب أن ينفذ فيه الحد . ا.هـ رحمه الله . عباد الله : لقد ابتلى بعض الناس في زماننا هذا بضعف الإيمان والركون إلى الشيطان ، أضناهم المرض فاتجهوا إلى السحرة والمشعوذين طلباً للشفاء ودفعاً للبلاء ولم يدر أولئك أنهم بإتيانهم السحرة قد اشتروا الغضب والخسران ، واستحقوا الوعيد والتهديد ، روى مسلم في صحيحه عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلادة أربعين ليلة ، قال النووي رحمه الله : معناه أنه لا ثواب له فيها، أما من أتى السحرة فسألهم وصدقهم فهو كافر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وروى البزار بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه أن قال: من أتى كاهناً وساحراً فصدقه بما يقول فقد كفر بما انزل على محمد صلى الله عليه وسلم. أيها المسلمون : إن الله سبحانه لم يجعل شفاء امة محمد صلى الله عليه وسلم فيما حرم عليها، وما انزل الله من داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله، وإن خير علاج للسحر أن يتقيه المرء قبل حدوثه ووقوعه فالوقاية خير من العلاج ، ومن الطرق الوقائية للسحر قبل وقوعه ما يلي : أولاً : الإكثار من ذكر الله سبحانه فهو الحصن الحصين والسبب المنيع بإذن الله من كل سوء ومكروه، فمن قرأ آية الكرسي حين يأوي إلى فراشه لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح ، ومن قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه من الشرور، جاء عند الحاكم وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله كتب كتاباً وأنزل آيتين ، ختم بهما سورة البقرة ، لا يقرآن في دار فيقر بها الشيطان ثلاث ليال ، وأما المعوذتان وسورة الإخلاص فمن تعوذ بها ثلاثاً حين يصبح وحين يمسي كفتاه من كل شيء، قال ابن القيم رحمه الله : حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس، وإذا أضيفت إلى هذه السور القرآنية والرقى الربانية أذكار الصباح والمساء وأذكار النوم وأذكار أدبار الصلوات كفت المسلم من الشرور والأذى، عباد الله : ومن الوسائل الوقائية للسحر قبل وقوعه : التصبح بسبع تمرات من تمر العجوة ، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام : من تصبح بسبع تمرات من تمر العجوة لم يصبه سم ولا سحر . متفق عليه ، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن لفظ العجوة في الحديث خرج مخرج الغالب ، فلو تصبح بغير تمر العجوة نفع بإذن الله . أيها المسلمون: ومن الوسائل الوقائية للسحر قبل وقوعه : إصلاح البيوت وتطهيرها من المعاصي والمعازف ، وعمارتها بالذكر والصلاة وتلاوة القرآن : جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، قال النووي رحمه الله : حث على النافلة في البيت لكونه أخفى وأبعد عن الرياء ، وأصون عن المحبطات ، وليتبرك البيت بذلك ، وينزل فيه الرحمة والملائكة ، وينفر منه الشيطان ا هـ . عباد الله : وإذا وقع السحر على المسلم فحرى به أن يصبر ويحتسب وتزداد ثقته بالله وتوكله عليه ، وأن يضرع إليه بالدعاء لكشف الضر ، فلا يرد القضاء إلا الدعاء ، ولا جناح عليه أن يفعل الأسباب المباحة شرعاً لدفع السحر وعلاجه ومن تلك الوسائل : أولاً : الإكثار من ذكر الله والمحافظة على بعض الأوراد والأدعية الواردة يقول العلامة ابن باز رحمه الله : ومن الأدعية الثابتة في علاج الأمراض من السحر وغيره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقي بها أصحابه : اللهم رب الناس ، أذهب البأس ، وأشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقماً . البخاري ، وكذلك الرقية التي رقى بها جبرائيل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله : بسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، ومن شر كل نفس أو عين حاسد ، الله يشفيك ، بسم الله أرقيك . مسلم ، يقول ابن القيم رحمه الله : من انفع علاجات السحر الأدوية الإلهية ، بل هي أدويته النافعة ، فالقلب إذا كان ممتلئاً من الله مغموراً بذكره ، وله من الدعوات والأذكار والتعوذ ورد لا يخل به يطابق فيه قلبه لسانه ، كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له ، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه ، ثم أضاف رحمه الله موضحاً من يتأثرون بالسحر: وعند السحرة أن سحرهم إنما يتم تأثيره في القلوب الضعيفة المقفلة والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات ، ولهذا فإن غالب ما يؤثر في النساء ، والصبيان والجهال ، وأهل البوادي ومن ضعف حظه من الدين والتوكل ، والتوحيد ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية والتعوذات النبوية .. ا هـ . أيها المسلمون: ومن وسائل علاج السحر بعد وقوعه الرقى والتعاويذ الشرعية قال صلى الله عليه وسلم : لا بأس بالرقى ما لم تكن شرك، والرقية لا تكون مشروعة إلا بثلاثة شروط : الأول : ألا يكون فيها شرك ، بل تكون بالقرآن وبما هو نافع . الثاني : أن تكون باللغة العربية أو ما يفقه معناه . الثالث : أن يكون قلب الشخص معلقاً بالله ، ولا يعتقد كونها مؤثرة بنفسها . عباد الله: الرقية ليست خاصة بأناس دون غيرهم ، ولا يلزم أن يكون الراقي معروفاً أو مشهوراً أو ممن اتخذ هذا الأمر حرفة يستدر من خلالها أموال الناس ، بل القرآن شفاء من كل مرض وداء ... يقول سبحانه : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا . أيها المسلمون: ومن طرق علاج السحر بعد وقوعه بذل الجهود في معرفة موضع السحر ، واستخراجه وإبطاله ، والاستعانة على ذلك بالدعاء والتضرع لله ، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سأل ربه - حين سحر - فدل على مكان السحر . وهاهنا يرد سؤال مهم حول حكم الذهاب للسحرة للتعرف منهم على الساحر ومكان السحر؟ ويجيب على هذا السؤال العلامة ابن باز رحمه الله بقوله : وأما علاج السحر بعمل السحرة الذي هو التقرب إلى الجن بالذبح أو غيره من القربات ، فهذا لا يجوز ، لأنه من عمل الشياطين ، بل من الشرك الأكبر فالواجب الحذر من ذلك ، كما لا يجوز علاج السحر بسؤال الكهنة والعرافين والمشعوذين واستعمال ما يقولون ، لأنهم لا يُؤمنون ولأنهم كذبة فجرة يدعون علم الغيب ويلبسون على الناس ، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من إتيانهم وسؤالهم ... ا . هـ رحمه الله . بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ، ونفعنا بما فيها .. الخطبة الثانية : عباد الله : إن من عظيم ما يندي له الجبين ، ويأسى عليه صاحب القلب السليم ، أن تغزو الخرافة والشعوذة أهل التوحيد في دورهم ، يتربى عليها أطفالهم ، ويتأثر بها نساؤهم ، وإننا اليوم في زمن كثر فيه هؤلاء الأدعياء الدجاجلة من السحرة والمشعوذين ، وقد وجدوا لهم وللأسف عزاً ومكاناً وانتشاراً في بعض وسائل الإعلام وبعض القنوات الفضائية التي فتحت أبوابها وشاشاتها من أجل الترويج للسحر والسحرة ، فتراهم يأتون الناس من باب العلاج الشعبي ، أو من باب التأليف بين الزوجين ، أو من باب قضاء ديون المديونين ، ويتناهى قبح تلك الفضائيات حين تجري اللقاءات والمقابلات مع السحرة والمشعوذين ، لتلميع صورتهم وتحسينها لدى المشاهدين حيث يخبر الساحر انه تعاطى السحر من أجل نفع الناس وتفريج كربهم ومساعدتهم ، ويستشهد بآيات وأذكار يزعم انه يعالج بها فيلبس بها على عقول المشاهدين ، فهم في الحقيقة يحملون السم الزعاف حيث يفرقون ويفسدون ، ويشتتون ، ولا يجمعون ، قاتلهم الله أنى يأفكون . عباد الله : صلوا على الرحمة المهداة ..
|