السعادة مطلب كل حي، والكل في هذه الدنيا يبحث عن السعادة، الغني والفقير، الصغير والكبير، الملك والعبد، المسلم والكافر.
والفرق بين المؤمن والكافر، أن الكافر يبحث عن السعادة في الدنيا، أما المؤمن فمبتغاه سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة. فما هي السعادة ؟ وكيف نعيشها ؟ وما هي معادلاتها ؟ هذا هو موضوع حديثنا في هذا الفصل، وكمدخل للحديث سأبدأ بإحصائية، ليعرف كل منّا قيمة ما عنده.
معادلة المقارنة
سألت نفسي مرة، أيهما أفضل، أن أقارن نفسي بمن هم أفضل مني، أم أقارن نفسي بمن هو دوني؟
وبعد تأمل ونظر، علمتني الحياة أن أنظر إلى من هو دوني، في أمور الدنيا والمعاش، وأن أنظر في أمور الآخرة إلى من هو فوقي.
وفي أمور التخطيط والإنجاز، قارن نفسك بمن هو أفضل منك بنسبة قليلة، أما في باب النعم الرانية عليك، فقارن نفسك بمن هم دونك، ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذرّ بهذه الوصية «يا أبا ذر .. انظر إلى من هو تحتك، ولا تنظر إلى ما هو فوقك، فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عندك» رواه ابن حبان (والحديث رغم ضعفه إلا أن فيه معنى جميلاً).
«حسبك من السعادة ضمير تقي ونفس هادئة وقلب شريف» المنفلوطي
السعادة في العطاء
قرأت في كتب الفلسفة، الإسلامي منها والغربي، لأكتشف أنهم اختلفوا في كلّ شيء حتى ما يتعلّق بالله تعالى، من ذات وأسماء وصفات وأفعال، لكنهم أجمعوا على أن أعلى درجات السعادة تأتي من العطاء، وليس من الأخذ، وتأتي من البذل، وليس من الاسترخاء والاستلقاء على شاطئ البحر، دون التفكير في شيء.
إذن السعادة تكمن في العطاء، وقد يكون العطاء مالاً أو علماً أو نصرة لمظلوم، أو إعانة لمحتاج، أو مشياً في حاجة إنسان.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم» الطبراني
لا عطاء بلا تعب
فإذا قلنا إن أعلى درجات السعادة تأتي من العطاء، فهذا يقتضي أن أتعب، فإذا أردت أن أتصدق، فلا بد أن أعمل، وأبذل جهداً حتى أحصل على المال، فالعمل والبذل فيه تعب، وحتى إذا أردت أن أفيد الناس علماً وحكمة، فلا بدّ من التعب وبذل الجهد، وأنا شخصياً ربما أجلس سنوات حتى أخرج كتاباً يليق بالقارئين، وكم أتذكر الليالي التي أذّن فيها الفجر، وأنا متيقظ، أقرأ وأكتب وألخّص، لكن كل هذا التعب يزول عندما أجد على مكتبي النسخة الأولى من الكتاب.
«تتوقف السعادة على ما تستطيع اعطاءه لا على ما تستطيع الحصول عليه» غاندي
من يصنع حياتك ؟
علمتني الحياة أن حياتي من صنع أفكاري، وأنت كذلك حياتك من صنع أفكارك، وهي مجموع قراراتك، فإذا نظرت للبذل والتعب على أنه تعاسة وعلامة شقاء، فسأعيش في تعاسة، ولن أذوق طعم السعادة، وعندما تفكّر في الثمرة والفائدة التي ستحققها، ولو بعد سنين، عندها ستجد لذة للتعب، وحلاوة للسهر، لأن التعب والسهر وكل الجهد الذي سأبذله إنما هو باتجاه هدف، وتحقيق الهدف هو الذي سيجلب لي السعادة.
قراراتي تشكّل حياتي
أيضاً تعلمت أن حياتي التي أعيشها هي في النهاية نتيجة لمجموع القرارات التي اتخذتها، فالذي فشل في حياته هو من قرر أن يفشل، لأن الفشل ليس حتمياً، بل هو نتيجة لالتوقف عن المحاولات، تماماً كالذي يقرر أن لا يدرس، وتكون النتيجة الرسوب في الامتحان، فهذا الراسب هو من قرر أن يرسب، ولم يتخذ أحد عنه القرار، وقِس على هذه القاعدة كثيراً من الأمور التي تحدث في حياتنا، كالذي غضب وصرخ وحطم ما حوله، هو من قرر أن يغضب ويصرخ ويحطّم ما حوله.
النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من سارقات السعادة
في الحديث الآتي يلخّص لنا النبي صلى الله عليه وسلم أسباب التعاسة والشقاء في الدنيا، ويستعيذ بالله أن يدركه شيء منها، فيسلبه السعادة والهناء، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .. فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» رواه البخاري.
أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ
ما الفرق بين الهمّ والحزن ؟ الحزن يكون على أمر حصل في الماضي وانتهى، أما الهمّ فمتعلق بالأمور المستقبلية، فأنت عندما تكون قلقاً على المستقبل تكون مهموماً، وعندما تتألم لأمر قد مضى، تكزن محزوناً.
أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ
ما الفرق بين العجز والكسل ؟ العجز يكون بغير إرادة مني، ككبر السن أوالمرض، أما الكسل فيكون بإرادتي واختياري، وَالْعَجْز وَالْكَسَل، هما سبب الفشل في الغالب، وسبب الإخفاق في الحياة.
أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَالْجُبْنِ
الجبن نقيض الشجاعة، والبخل نقيض الجود والكرم، وكلاهما يورثان الطمع والحرص على الدنيا، لأن الجبن يمنع الإنسان من الجهاد مخافة الموت، والبخل يمنع الإنسان من الإنفاق مخافة الفقر، وكلاهما سبب للشقاء، لأجل ذلك تكفّل الله بهذين الأمرين، بالأجل فقال «إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ » يونس : 49
وتكفل بالرزق فقال «وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ» الذاريات : 22
أَعُوذُ بِكَ مِنْ َضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ
َضَلَعِ الدَّيْنِ: أي أعوذ بك أن تكثر عليّ الديون إلى درجة أعجز فيها عن السداد، لأن الدين كما تقول العامة «همّ في الليل، وذلّ في النهار» وهل سعيد من هذا حاله ؟!
وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ: أي شدة تسلطهم وجبروتهم، كأن يُبتلى المرء بحاكم ظالم، أو رئيس سيئ، لا يتقن إلا فنون الإذلال للآخرين، ومعلوم أن شدّة الدين وقهر الرجال، من أكثر ما يزعج الرجال لأنهما يؤديان إلى فقدان السيطرة والتحكم، وهذا يؤدي الى شعور بالذل والعجز.