قلت مبكراً إن الجنرال الذي أشرف على أكبر عملية نصب علمي، مستخدماً أكذوبة اختراع المؤسسة العسكرية جهازاً للقضاء على الإيدز، وتحويل الفيروسات إلى ثروة غذائية، فيما عرف باسم "ثورة اللواء عبد العاطي كفتة العلمية"، هو آخر شخص يمكن أن يحترم العلم، ويقدّر العلماء، ذلك أن العدو الأول للطاغية، أي طاغية، هو العلم والفهم.
منذ الفيلسوف سقراط، شهيد العلم والفكر، قبل خمسة قرون من ميلاد المسيح، والأنظمة المستبدة تحرص على تغييب شمس العلم والإدراك عن شعوبها، كي تبقى بليدة عاجزة عن التمييز بين الزائف والحقيقي، ومن ثم يسهل قيادها.
تغييب العلم يتم عبر طريقين: إما إهماله واحتقاره ومحاربة المعلمين، أو: فرض نمط من التعليم الفاسد، المزيف، وتدعيمه ونشره، وفقاً للقاعدة التي تقول إن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من الأسواق.
عبد الفتاح السيسي الذي أتحدى أن يكون قادراً على كتابة خمس جمل بلغة عربية سليمة، أو حتى قراءتها، من دون إخطاء، هو آخر شخص في مصر يمكن أن يتحدث في العلم، فما بالك عندما يعيش في دور "طبيب الفلاسفة" أكثر وأكثر، ويفتي ويمارس التنظير في الفرق بين العلم والمعرفة!! أغلب الظن لو كان سقراط بيننا لانتحر غرقاً في تفريعة قناة السويس الجديدة.
منذ البداية لجأ السيسي إلى الأسطورة والخرافة وعالم الهلاوس والأحلام الاصطناعية، لكي يأتي بما يحقق له هيمنة "روحية" على جمهور، قتلوا بداخله القدرة على التمييز بين العلم والجهل، وبين الوهم والحقيقة، فكيف يمكن أن يصدق أحد أن نظاماً بهذه القيمة الفكرية والعقلية المتناهية في الصغر، مهتم أو منشغل بالبحث العلمي والعلماء؟
السيسي صادق مع نفسه تماماً حين يقول ماذا يفعل العلم في وطن ضائع!
هو لا يريد العلم، ولا يعبأ بالوطن الضائع، بل إنه يحبه هكذا، ضائعاً وغائباً ومغيباً، كي يبرر حكمه له بالسيف والعمامة الكهنوتية، والأحجبة ودخان بخور الشعوذة والدجل.. وبالتالي غير قادر على محاسبته أو مساءلته، أو الصياح في وجهه.
السيسي يستثمر في الجهل وفي الفقر وفي العوز، يفضل دائماً الظهور بين المرضى والمحتاجين. يستخدمهم أدوات للتسول والابتزاز والشعوذة. منذ الدراما الرخيصة التي بنيت على "حلق الحاجة زينب" مروراً بالطفل المريض بالسرطان، الذي افترسوا آدميته ولم يرحموا مرضه، عندما استعملوه تميمة حظ، أو "حجاب شعوذة" في جيب الجنرال الفاشل، وهو يبيع وهم "القناة الجديدة" التي ستغرق مصر بالعملة الصعبة، وليس انتهاء بالسيدة المسكينة التي صنعوها تلفزيونياً، خصيصاً كي يستقبلها الجنرال في قصره، ويظهر في دور رجل البر والإحسان.
كان مهيناً لآدمية السيدة التي ظهرت على الشاشات تدفع عربة يدوية لنقل البضائع في الإسكندرية، أن تفوز بجائزة الإبداع الفكري، فيما يسمى "مؤتمر شباب السيسي"؛ فالسيدة التي تبدو في ملامحها علامات المرض، وتنطق الكلمات بصعوبة، ولم تتعلم، غلبها النعاس، وهي تجلس بجوار جنرال الإنسانية المزيفة، ولم ترحمها عدسات المصورين، وهي تغط في نومها، بينما الزعيم يعلن منحها جائزة الإبداع.
يذكرك مشهد السيدة بلحظة صعود عبد الفتاح السيسي على ظهر المركب الملكية "المحروسة" في افتتاح تفريعة القناة، ممسكاً بطفل مريض بالسرطان، يبتز به الناس، كما يفعل خاطفو الأطفال ومدّعو العاهات عند إشارات المرور، ليقول للعالم: أنا إنسان.. أنا رسول الإنسانية.. أنا المدني الحساس الرقيق العطوف.
ساحة النقاش