قبل أسابيع، تحدثت عن "مصر البوتينية"، تلك التي بدت سوفييتية أكثر من روسيا نفسها، وكأنه بشكل درامي مثير، اكتشفت مصر السيسية أن "الشيوعية هي الحل"، وراحت جيوش إعلام وثقافة الجنرال تبشّر بالفكر الأحمر، وانطلق سباق محموم نحو "بَلْشفة" الدماغ المصرية، بترويج أن روسيا بوتين هي الخير كله. وتحوّل الجميع، من رأس الدولة، ممثلاً في السيسي ووزير خارجيته، إلى مؤخرتها الإعلامية، إلى دعاة ومبشرين بالأفكار والمبادئ والطموحات السوفييتية القديمة التي لم يعد يتذكّرها الروس أنفسهم. بضغطة زر، أصبح بوتين في مصر زعيماً وقائداً لمحور الخير، في مواجهة محور الشر الذي يضم أميركا والسعودية وقطر وتركيا، وكل من يرفض الغزو الروسي لسورية، من أجل القضاء على ثورة شعبها، والحفاظ على الحكم الطائفي العائلي برئاسة بشار الأسد.كان ذلك قبل فضيحة تفجير طائرة الركاب الروسية في سيناء، وما أعقبه من إجراءات روسية مهينة، وجارحة للكرامة الوطنية، حيث بدا جنرال مصر الصغير، العائش في بهجة ودفء المعطف البوتيني، منبوذا، كتلميذ بليد، ينفذ عقوبة التكدير والإبعاد، حيث كانت ذروة الإهانة مع قرار روسي بحرمان أسطول الناقل الجوي الرسمي المصري من دخول روسيا.سياسة العقاب والتكدير أتت أكلها سريعا، بإذعان قاهرة عبد الفتاح السيسي للمشيئة الروسية، من دون مجادلة، حيث قرّر الروس توقيع اتفاقية ثنائية، بشأن مشروع نووي في الضبعة، مع عبد الفتاح السيسي منفرداً، في بلد لا يعرف أي شكل من الرقابة والمناقشة البرلمانية لأمور بهذا القدر من الخطورة.الآن، ومع حادث إسقاط المقاتلة الروسية، في الأجواء التركية، صارت مصر السيسية أكثر احمراراً، إذ تضع على وجهها مساحيق بلشفية فاقعة، وثقيلة، حتى يكاد المستمع للراديو يشعر أنهم غيروا "صوت العرب" إلى "صوت روسيا الاتحادية"، ناهيك عن دعواتٍ، تنطلق من فضائيات السيسي، تطالب بالحشد الشعبي في مصر دفاعاً عن روسيا، ويكاد يصل الجنون ببعضهم إلى المطالبة بإنشاء صندوق "تحيا روسيا"، لدعم المجهود الحربي الروسي ضد "الأعداء الأتراك والقطريين والسعوديين والأميركيين والأوروبيين".تشعر لوهله أن ماكينات الهلوسة الوطنية في "عالم سيسي" قرّرت أن تنقل تفويضها الشهير بالقتل وسفك الدماء، تحت ذريعة "مواجهة العنف والإرهاب المحتمل" من جنرال مصر الصغير، إلى قيصر روسيا الكبير، بل تكاد الدبلوماسية المصرية نفسها تجري تعديلا على خطاب "مسافة السكة" الكوميدي، بحيث تعلن أن المقصود به هو الشقيقة الكبرى، روسيا، وليس الأوغاد، من الدول العربية الصديقة للعدو التركي.على ضوء ذلك، لن يكون غريباً أن تتم الدعوة لمليونية في ميادين مصر، يقودها "ناصريو افرم يا سيسي" و"يسار كل أخ روسي أخي" لمنح فلاديمير بوتين "التفويض والأمر"، لكي يرد على أنقرة، بقتل أكبر عدد ممكن من الشعوب العربية، في اللاذقية وسيناء وبنغازي، وكل أرض عربية تُسمٓع فيها أصواتٌ تعترض على جرائم الانقلابات والثورات المضادة، بمواجهة الربيع العربي.ولن يكون مفاجئاً إذا حملت الصفحات الأولى من جرائد السيسي خبراً، عن مواطن أطلق على مولوده اسم "بوتين" أو "لينين"، تعبيرا عن وطنية فيّاضة، وحب جارف لمصر، لا يعادله إلا حب ذلك الشخص الذي أطلق على مولودته اسم "رافال"، وذاك الذي رزقه الله بغلامٍ، فجعله "سيسي"السيكولوجية الرخيصة، المنسحقة أمام رغبات كل من يقدم دعماً لسلطة الانقلاب، لا تتصور أن هناك شعوباً ودولاً تمارس شيئاً اسمه "السيادة" على أراضيها وسماواتها، ولا تصدّق أن هناك من لا يزال يحتفظ بالقدرة على الإحساس بالكرامة. لذا لم يتحمل أصحابها رد الفعل التركي، المحترم والقوي، على المجون الجوي الروسي داخل حدودها، بحجة أن ما تسمى "الحرب على الإرهاب" كفارة لما قبلها، وما بعدها من جرائم ضد الإنسانية، فكانت الهجمة المسعورة على تركيا، من القاهرة الرسمية، أشرس بكثير من ردود الأفعال الروسية.هذه السيكولوجية، أيضا، لا يوجد غيرها، لتفسير حالة الصمت الذي ران على من لوّنوا وجوههم وأهرامهم بالعلم الفرنسي، بعد ضربات الإرهاب في باريس، حيال الجريمة ضد الإنسانية التي ارتكبتها فرنسا ضد أطفال مدرسة الموصل، وأسفرت عن استشهاد عشرات منهم أمس.
قصاقيص الصحافة البيضاء
متابعة مقالات تترجم وتلخص أحداث مصر والعالم وكذلك مواضيع أخرى متنوعة »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
33,096
ساحة النقاش