يدير عبد الفتاح السيسي مصر، كما يدير توفيق عكاشة ستوديو قناته، وكما يدير أحمد الزند مرفق العدالة. في ستوديو "الدولة العكاشية"، القائد هو المذيع وهو الضيف وهو المدير وهو المنفّذ وهو الآمر الناهي، المعاقب المكافئ. وفي مرفق العدالة، تجد الزند هو وزير العدل، وهو رئيس نادي القضاة، هو شيخ القبيلة، هو الحكومة والمعارضة، هو كل شيء. أداء عبد الفتاح السيسي منذ اليوم الأول، محاكاة بليدة لعكاشة في الاستوديو، والزند في القضاء، هو كل شيء، وبيده كل شيء، يقرّب هذا ويبعد ذاك، هو الناقد والمنقود، هو السلطة والمعارضة، وهو الحكم بينهما، رئيس كل شيء ومديره، هو العرّاف والسيّاف، هو الكاهن والطبيب والمحاسب والمتحدث والمستمع. كل من يشكل إزعاجاً له، أو يمثّل تهديداً لسلطانه، يبعده أو يقصيه أو يبيده، إنْ لزم الأمر، ولا يكتفي بذلك، بل يحرص، طوال الوقت، على نقل بثّ هذه الروح الانتقامية الشريرة في كل أتباعه ومؤيديه، لتتحوّل نزعة الإقصاء والهيمنة إلى ما يماثل النشاط الاحتلالي الاستيطاني، للتخلّص من سكان البلاد الأصليين. المصري المعارض، في نظر ولاية السيسي، كالهندي الأحمر بالنسبة للغزاة الذين فتحوا أميركا، وكالفلسطيني لدى المستعمر الصهيوني، إما أن يرضى بحكم المحتل، ويقبل بما يجود به من فتات، أو فليُقتل أو ليرحل، فكل الجهد مكرّس لتغيير جذري في ديموغرافية المجتمع، وصولاً إلى محو التاريخ، وابتداء تاريخ جديد. وتأتي حزمة قرارات عبد الفتاح السيسي الأخيرة، من قراره توجيه حكومته لتقديم قانون للإرهاب، من شأنه أن ينسف حق التقاضي ويسمح له بإعدام من يشاء وتصفية من يشاء، وصولاً إلى قراره الجمهوري الشخصي بمنح نفسه حق التخلّص من رؤساء الهيئات الرقابية التي حصّنها الدستور، بإعفائهم من مناصبهم، من دون الحاجة للعودة إلى البرلمان، لتؤكد أنه يتحوّل سريعاً جداً إلى حالة الحاكم بأمر الله الذي فعل بمصر الأفاعيل، حتى مات مجنوناً فوق قمة جبل، لم يعلم بموته أحد. لا يختلف اللامعقول واللاإنساني الذي تعيشه مصر مع السيسي، عمّا عاشته مع الحاكم بأمر الله، وغالباً ما يبدأ اللامعقول صغيراً، ثم يتضخّم ويتحوّل إلى محيط هادر من الجنون. وأذكر أنه حين أعلنت سلطات عبد الفتاح السيسي القبض على طالب جامعي، بتهمة حيازة نسخة من رواية 1984 للكاتب جورج أورويل، اعتبر كثيرون ذلك هو اللامعقول، غير أني توقّعت ما هو أبعد وتساءلت: متى يحرّم السيسي أكل الملوخية، كما فعل الحاكم بأمر الله قريباً، الذي بدأ، مثله، معتبراً نفسه حكيماً فيلسوفاً، وانتهى به الأمر مدّعياً النبوّة والألوهية. فكما لم يبخل الزمن على الحاكم بأمر الله بمثقفين يغرقونه بمدائح خارقة لحدود العقل والنقل معاً، لا تخلو مصر، الآن، من فقهاء وشعراء سلاطين يفعلون الشيء نفسه. والحاصل أن عبد الفتاح السيسي يعرف أنه مستولٍ على سلطة مسروقة، انتزعها بالقتل والكذب، ويجري بها وحيداً، هارباً إلى الأمام، كلما اعترضه أحد صرعه، وكلما اشتَمَّ رائحة الخطر من أحد رجاله، تخلّص منه، وقراره الأخير، المفصّل خصيصاً للتخلّص من كل صور المحاسبة والرقابة على أدائه، ممثّلة في شخص المستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، هذا القرار يكشف عن أن السيسي بات لا يثق في أحد، وهو في سبيل الاحتفاظ بالسلطة المطلقة، لن يمانع في إفناء الجميع، من شركائه المقرّبين. وواقع الأمر أنه يركض هارباً بها بسرعة مجنونة، حتى أوشك أن تنقطع أنفاسه، ولا يعلم أحد متى تسقط منه، أو سيسقط بها هو، أيهما أقرب، غير أن المؤكد أن قصص التاريخ تنبئنا بأن الطغاة يبيدون كل من يستشعرون من وجودهم خطراً، يتخلّصون منهم واحداً تلو الآخر، حتى تضيق الدائرة، فلا يبقى للطاغية إلا ظله، فيقوده جنونه إلى إطلاق الرصاص عليه. والأمر نفسه ينسحب على جمهور ولاية السيسي، الإقصائية الإحلالية، ستظل تفعل كل شيء لإفناء ما دونها من السكان، حتى يصل بها الأمر، لكي تقتل بعضها البعض، وتأكل نفسها، حين لا تجد مزيداً من الضحايا، تمارس فيهم وحشيتها.
قصاقيص الصحافة البيضاء
متابعة مقالات تترجم وتلخص أحداث مصر والعالم وكذلك مواضيع أخرى متنوعة »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
33,098
ساحة النقاش