في فبراير من عام 1963 أجرت جريدة «صنداي تايمز» حوارًا مع رئيس مصر في ذلك الوقت، جمال عبدالناصر، ووجهت له سؤالًا جاء فيه: «ما أسباب تدهور العلاقات بين الجمهورية العربية المتحدة وحكومة اللواء عبد الكريم قاسم؟».
فرد «عبدالناصر» قائلًا: «حينما قامت الثورة في العراق سنة ١٩٥٨ كانت الجمهورية العربية المتحدة، تؤيدها بكل قوة ومن غير تردد، وكانت آمالنا عظيمة في أن يتحقق بها لشعب العراق أمله في حياة أفضل وفي حرية كاملة، خصوصًا بعد الخلاص من الحكم الملكي الذي كبّل العراق بقيود حلف بغداد الاستعماري، وأخضعه، رغم إرادة شعبه، لسيطرة الغرب»
وأضاف «ناصر» لـ«صنداي تايمز»: «فى ذلك الوقت كانت علاقاتنا بحكومة العراق أحسن ما تكون وأقوى، ولكن هذه العلاقات ما لبثت أن اعتراها الفتور، ثم بدأت تتعرض للأزمات، وانتهى بها الحال إلى هذا التوتر القائم والذي تعكسه عملية طرد موظفي سفارتنا في بغداد، ولم تكن الجمهورية العربية المتحدة هي التي تغيرت، وإنما تغير عبد الكريم قاسم، إن عبد الكريم قاسم انقلب على الجمهورية العربية المتحدة التي ساندته، وكان واضحًا لنا أنه انقلب على الثورة التي أعطته مكان الصدارة منها وأسلمت له قيادها، ولقد رأينا قاسم ينحرف عن الخط القومى الوطنى».
هذا الخط القومي الوطني الذي رأى «عبدالناصر» أن الحكومة العراقية برئاسة «قاسم» انحرفت عنه، كان يقابله رأي آخر في العراق يقول إن «الحكومة العراقية لم يكن لديها الرغبة في الانضمام للجمهورية العربية المتحدة كنوع من مقاومة المد الشيوعي في العراق» بالإضافة إلى «أن (قاسم) نفسه كان يريد أن يكون للعراق صفته الخاصة ووضعه المختلف ودوره الإقليمي المؤثر في المنطقة، خاصة أنه لم يأخذ الوقت الكافي لإثبات ذلك بعد قيام الثورة».
تلك المرجعيات المختلفة أدت إلى نشوب حرب بين الطرفين، ولكنها كانت حربًا من نوع آخر، إذ استغل كل نظام أدواته الإعلامية في الهجوم على الآخر، ووفقًا لمجلة «سطور» فإن «العلاقات السياسية بين العراق والجمهورية العربية المتحدة وصلت إلى مرحلة من التأزم وتبادل الشتائم عبر أجهزة الإذاعات والصحف».
ولأن القاهرة كانت الأقوى إعلاميًا، فكانت إذاعة «صوت العرب» هي المصدر الأهم والأكبر لعرض وجهة النظر «الناصرية»، وذكر موقع «الحياة» أن «مصر أشعلت الحرب الإعلامية من خلال إذاعة صوت العرب، التي تعد الصوت العربي المجلجل من المحيط إلى الخليج، وكانت لا تتوقف عن السخرية والاستهزاء بالرئيس العراقي، عبدالكريم قاسم، وخيانته للعروبة وزجه بالمناضلين الأحرار في غياهب السجون وتعذيبهم».
وكان المذيع أحمد سعيد، أحد أشهر مذيعي إذاعة «صوت العربي»، وكان مديرها في ذلك الوقت، ودائمًا ما كان يلهب حماس المصريين بالحديث عن القومية العربية ويكيل الشتائم والإهانات إلى النظام العراقي إيمانًا منه بـ«الناصرية».
وقال موقع «الحياة»: «كثيرًا ما ألهب المذيع المصري أحمد سعيد بحماسته وصوته القوي قلوب المصريين والشعوب العربية وحتى العراقيين الذين كان يصلهم صوته في عقر دارهم ويؤلبهم ضد رئيسهم».
ويبدو أن «سعيد» كان يقوم بدور مبالغ فيه، حتى أن مجلة «سطور» ذكرت أن ناظم الطبقجلي، عميد ركن في الجيش العراقي وعضو في تنظيم الضباط الوطنيين في العراق الذي قام بالإطاحة بالحكم الملك «اشتكي لزوجته التي كانت تزوره في السجن، وطلب منها أن توصل رسالة إلى جمال عبدالناصر تترجاه أن يخفف أحمد سعيد في صوت العرب من سب عبد الكريم قاسم، باسم الدفاع عن ناظم الطبقجلي، والذي أعدم عام 1959».
ما فعله «سعيد» استفز الكثير من العراقيين، خاصة أن البعض في العراق كان بدأ يستمع إليه ويتأثر بالاتهامات التي يكيلها للنظام العراقي، فقرروا الانتقام منه على طريقتهم الخاصة.
وذكر موقع «الحياة» أن «العراقيين سربوا معلومات لصوت العرب مفادها اعتقال شخصيتين مهمتين في النضال العروبي، الأولى هي المناضلة القومية حُسنة ملص، أما الثانية فهو العروبي الكبير، عباس بيزة».
في اليوم التالي ودون أن يتأكد «سعيد» من الخبر ثارت ثائرته وأقام الدنيا، وظل يردد بحماس وبثورة عارمة: «كلنا حُسنة ملص» و«كلنا عباس بيزة»، و«إذا ماتت حُسنة ملص فكلنا حسُنة ملص، كلنا حُسنة ملص، كلنا عباس بيزة، من المحيط إلى الخليج».
وذكر موقع «الحياة» أن «العراقيون الذي يستمعون إلى بث صوت العرب، في ذلك الوقت، ويقفون ضد النظام العراقي يعرفون حقيقة (حُسنة)، وعباس، فغرقوا في دهشة ضاحكة إزاء ذلك الخبر الصادم، واستعادت ذاكرتهم كل الأخبار التي كانت تبثها صوت العرب، وتشككوا فيها».
والحقيقة المثيرة للدهشة أن الخبر كان «مقلبًا محكمًا» من العراقيين، للإذاعة ومذيعها، فـ«حُسنة» لم تكن سوى «عاملة جنس» و«عباس» لم يكن سوى «قواد»، وكانا مشهوران لدرجة كبيرة بين العراقيين والجميع في العراق يعلم من هي «حسنة»، ومن هو «عباس».
وذكر الكاتب العراقي خضر سليم البصون، في مقال نشره موقع «إيلاف» في 2013، بعنوان: « شارع الذكريات (4): إذاعة صوت العرب والمقلب العراقي»، تلك الحادثة بتفاصيلها من ذاكرة طفولته حيث كان شاهد عيان عليها، قائلًا: «كانت إذاعة صوت العرب البوق الذي استعمله عبد الناصر للهجوم على الأنظمة المناوئة له، وكان أحمد سعيد أشهر مذيع مصري في حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي مديرا لها، وبطبيعة عمل والدي الصحفي كان يستمع إلى هذه الإذاعة والى ما يقوله أحمد سعيد وهو يقدح يوميا مسبات وشتائم لعبد الكريم قاسم والشيوعيين على الأخص».
وأضاف: «في مساء أحد الأيام وهو يستمع إلى أحمد سعيد وهو يصرخ، بدأ والدي يضحك بلا توقف وينادي لوالدتي أن تأتي وتستمع لما يقوله هذا المذيع المصري، عند وصول والدتي إلى المذياع بدأت هي الأخرى بالضحك وأنا لا أفهم ماذا يجري، كان صوت أحمد سعيد يلعلع بفاجعة اعتقال سلطات عبد الكريم قاسم الرفيقة المناضلة القومية الشريفة، حسنة ملص، والمناضل العروبي العنيد، عباس بيزة».
وتابع: «بدأت أسألهم :لماذا تضحكون؟ لماذا تضحكون؟، فأجابني والدي مبتسمًا أن هذا مقلب عراقي أصلي بلعه أحمد سعيد، فلما استفسرت ماذا يعني، أخبرني واأا طفل بريء، وبصورة معينة، بأن كل العراقيين يعرفون أن حسنة ملص هي عاهرة وقوادة بدرجة امتياز وعباس بيزة قواد».
ساحة النقاش