بين الستينات والألفية الثالثة (3ـ3)
عيـــــــــد البلاك بيرى!
وفى المساء نستمع إلى "هليلة" لنتكشف – وبالتحديد أنا الذى اكتشف فالجميع كان يعلم ما ينتظر – أن البضاعة وصلت.. بضاعة إيه يا جماعة..
بتاعة العيد.. وصلت من مصر "ألم أقل لكم أنها أم الدنيا؟"
ساعات ورقية، بمب، صواريخ، حرب أطاليا ( نوع من المفرقعات )، ويبدأ الزن على الأهل طلباً للنقود.. وتضاء سماء القرية بفعل الصواريخ القرطاسية، ويزقزق سكون الليل بحرب أطاليا، أما البمب فكنا ننتظر به حتى صباح أول أيام العيد احتراماً للكبار والعجائز-وما أكثر عجائز القرية الذين امتد بهم العمر إلى ما بعد المائة، بل أن الحاجة "يمن" كان الكل يؤكد أن عمرها تعدى المائة وعشرين عاماً على الرغم أننا كنا نراها تمص القصب بأسنانها الخضراء كما يسمونها بعد أن ظهرت لها أسنان جديدة.
زيارة المقابر
فى صباح أول أيام العيد تذهب أمهاتنا لقراءة الفاتحة ترحماً على موتى الأسرة فى المقابر، فيما نأكل نحن المكرونة بالصلصة من بائعة تفترش الأرض، ولم نسمع أبداً عن أحد الآكلين أنه أصيب بسوء من جراء تناوله المكرونة من "الست الشامية" هكذا كان اسمها، ولم يتح لى أن أسأل وقتها عما إذا كانت من أصل شامى كما يقول لقبها أم لا؟
نزهة الى الحقل
ثم نذهب إلى الحقول، نركب "النورج" الذى يديره صاحبه خدمة مجانية ومحبة لأهل قريته، أما "الحمير" ولا مؤاخذة، فعلى قفا من يركب، وتستطيع أن تمتطى ظهر أى حمار- ولا مؤاخذة برضه- دون أن يشخط فيك صاحبه.
ونلعب الكرة، والكرة هناك كانت مصنوعة من بالونتين واحدة داخل الأخرى، ثم يضعون فوقها بقايا قماش ومن فوق القماش خيوط كثيفة، ثم من فوق هذا كله "فردة شراب" ويصبح عندك كورة أحلى من كور حسن شحاتة!
غديوة!
أما عن العيد فى الأحياء الشعبية فى تلك الفترة فقد كانت تحمل طقوس وعادات الأجداد- ومن أهم سمات ذلك، أن الأطفال كانوا يشاركون مؤذنى المساجد فى تكبيرات العيد طوال ليلة العيد، فى حين يسهر كثير منهم أمام منزل أحدهم وهم يفترشون السجاد فى الشارع، ويتطوع كثير من الأمهات بامدادهم بأطباق الكعك والترمس وأكواب الشاى- قبل تغلغل المياه الغازية حالياً كمشروب رسمى للمصريين! ويقضون ليلة العيد فى سرد الحكايات والطرائف المضحكة، المهذبة، حتى أن الأمهات والفتيات دون سن الزواج كن يتسلين بحكايات الأبناء أسفل النوفذ الطينية، وهن يقمن بما يسمى تنظيفة العيد، وكانت تستمر طوال الليل، حينما يحلو للأمهات تغيير أماكن الأثاث كنوع من التفاؤل ولإضفاء جوالبهجة على الأسرة، وخاصة الأب الذى دفع "دم قلبه" فى ملابس و لوازم كعك العيد.
صباحك عيد
فى صباح يوم العيد يحرص الأبناء على أداء صلاة العيد إلى جوار الآباء وهم يرتدون ملابس العيد الجديدة.
بعدها يبدأ التزاحم على شراء ألعاب العيد من مسدسات بلاستيكية، وفئران "بتمشى"، هذا قبل وصول ألعاب الكمبيوتر و"البلاى ستيشن" و " الوى " ، ثم ركوب عربات الكارو إلى الحدائق العامة، أو إلى شاطئ النيل للفوز برحلة نيلية، أوالذهاب إلى منطقة الأهرامات بفضل عيدية الأهل والجيران.. هذا هو عيد مصر.
البلاك بيرى!
كان هذا هو عيدنا.. أما الآن فهو عيد التجمع أمام المول، والعيدية بالرنات و"الماسدجز"، والسهر أمام الدش حتى الصباح، والتجمع عبر "الشات" و"النت كافيه".
اعرفوا ماضيكم
مرة أخرى.. قد يكون عيدكم أيها الشباب الجميل أجمل، وقد تكون متعتكم أعمق، ولكن من حقكم علينا أن تعرفوا كيف كان عيد من آباءكم..وعليكم أن تختاروا.. الاختيار ليس صعباً فقط، بل هو مستحيل، لأن الزمن لا يعود أبداً إلى الوراء.. قد تعود البيجاما لتصبح هى موضة ليلة العيد، ربما إذا ارتداها أحمد عز أو منة شلبى فى فيلم سينمائى، وقد يعود "حرب أطاليا" وتسمح به الحكومة بعد أن خلده أحمد السقا فى احد افلامه، ومن حسن حظنا أن الكعك لا يزال على قيد الحياة.. حتى عربات "الكارو" أحياناً تلمح واحدة شاردة منها الى جوار توك توك هربان من لجنة.. ولكن الذى لن يعود هو..
طفولتنا نحن، مثلما لن يعود ظلام القرية وبراءة أهلها الطيبين.
يا نيلنا ميتك سكر
وزرعك في الغيطان نور
تعيش يا نيل و تتهنى
ونحيي لك ليالي العيد
ساحة النقاش