مشاهد من طفولة الستينيات

الحلاق الطبيب

 

تطور كثيرا حلاق القرية الذى أحب كنت أححب أن أراقبه فى قريتنا أثناء زياراتى المتباعدة لها. كنت أحب و لا أدرى أى أسباب لتلك الهواية الغريبة التى كنت أستمتع بها أشد الإستمتاع .

و لكن أصارحكم أن مشهد حلاق القرية و هو يعمل مفترشا الأرض, جالس القرفصاء, و من أمامه جلس الفلاح المصرى الفصيح مستسلما أمام الحلاق الطبيب, و قد ربط منديلا يقترب من حجم الفوطة المتوسطة, على جبهة الفلاح "الزبون"، وقد عقد عقدة عند منتصف الجبهة, عقدة يتوسطها مفتاح باب الدار, لا يقل طوله عن عشرين سنتيمترا, ثم يلف الحلاق الذى تعلم مهنته عن طريقة أجداده, وما من شك أن شجرة العائلة تمتد حتى أجدادنا الفراعنة، يلف المفتاح بقوة ليعتصر جبهة الزبون حتى يتورد وجه الفلاح الذى كان شاحبا, و يتألم الفلاح لثوانى معدودة, يفك بعدها الحلاق الطبيب المنديل عن جبهته, فيبتسم الفلاح و يسحب شهيقا عميييييقا....... ثم يمد وجهه إلى الإمام فى إستسلام تام لموسى الحلاق الذى ربط نوعا من الجلود فى رقبة الزبون و "هات" يا سن للموسى... ثم يبدأ بعد ذلك عمله فى حلاقة ذقن الفلاح...الذى فى الغالب الأعم تنتظره مناسبة سعيدة هذا المساء..اما سهراية سمر فى الحقل..أو سهرة حلال فوق فرن الدار الدافئ، عندما يتأكد الظلام..ويتعمق شخير الأبناء.

حيرة

كنت أحتار و أنا فى هذه السن المبكرة, وأنا أبحث عن تفسير لما أراه أمامى, خاصة أن تلك المشاهد لم أكن أألفها بسبب بعدى عن حياة القرية ووجودى فى مجتمع المدينة بعيدا عن هذه الأجواء, و أن كنت صادفتها بعد ذلك مرارا فى أماكن فى قلب القاهرة, و لكن متوارية أسفل كوبرى, أو فى فضاء منطقة شعبية نائية من تلك التى أصطلح على تسميتها بالعشوائيات!!

وصفة جدتى

و كانت دهشتى عظيمة، أن أعرف أن ما يفعله حلاق القرية هو حل شعبى فولكلورى ـ قد يكون له أصل طبى ـ لمرض الصداع المزمن الناتج عن عمل شاق، مضن.. وأن المراد هو صعود وتدفق الدماء بسرعة وبغزارة إلى منطقة الجبهة !!

كاريكاتير

و كانت متعتى تتصاعد وأنا أشاهد حلاق القرية, الذى كنت مبهورا بطريقة آداءه لعمله، حتى ضبطنى إثنان من كبار فنانى الكاريكاتير فى مجلة صباح الخير العريقة أثناء الفترة التى قضيتها فيها محررا شابا, هما على وجه التحديد صديقى الكبيرين الراحل رءوف عياد، ومحمد حاكم الصغير ـ وهما من عمالقة فن الكاريكاتير فى مصر ـ ضبطانى و أنا أرسم حلاق القرية بعد نحو عشرين عاما من مشاهدتى و أنا طفل صغير, و قد وجدا فى الرسم بخبرتيهما مدى تأثرى بهذه الشخصية الفولكلورية ـ التى كانت أحد مظاهر موالد مصر ـ حيث رسمت شخصية الحلاق ـ بحسب تفسيرهما ـ تعبر عن أصالة وشموخ وخطوط بالغت فى امتدادها، لتعبر عن عمر الظاهرة وتغلغلها فى تاريخنا وتراثنا.

ع الزيرو ‍

أعود للقول أن متعتى كانت تتأكد، وأنا أتأمل حلاق القرية أثناء حلاقته لأطفال صغار من قريتى، كان يحلق لهم مستعينا بماكينة الحلاقة البدائية ـ يعنى ع الزيرو ـ ثم يترك خط رفيع من الشعر عند القفا، وكذلك قصة صغيرة فى الأمام عند الجبهة، أما الباقى؛ فكان يلمع تحت أشعة الشمس، من دون أن يكون فيه " ريحة الشعر " وهى التقليعة التى تشبه الموضة التى سادت ملاعب كرة القدم فى السنوات الأخيرة.

ومرة أخرى كان لابد أن أسأل، وعرفت أن أطفال ورجال القرية يرتدون الطواقى، وأنهم عندما يرتدونها فان الطاقية تلتحم بالرأس حتى الأماكن التى ترك فيها الحلاق بذكائه بعض الشعر، فيبدو الشعر وكأنه مكتمل من أسفل الطاقية.  أما لماذا كان يتم حلاقة الشعر على الرغم من الحرص على إظهاره كاملاً ، فأتصور الآن أن الأمر كان يتعلق بمسألة النظافة الشخصية ، والتخلص من حشرات الرأس التى كانت سائدة قى تلك الفترة بسبب ندرة المياع النظيفة وحياة العمل فى الحقل وهى حياة قاسية بكل المقاييس ،لم تكن تترك الأطفال إلا لبعض الوقت لممارسة بعض الألعاب الشعبية خاصة فى الليالى القمرية.

بكام؟

وكان يكمل هذا المشهد الفولكلورى الذى كان يجذبنى فى هذا السن المبكر بعيداً حتى عن حياة القرية وإمتطاء الحمار وركوب "النورج" واللعب بالكرة البالون ،كان يشدنى منظر "الأجر" أى المقابل الذى كان يحصل عليه الحلاق ، وكان مشاعاً لرؤية المارة ، فقد كان إلى جواره سلة من الخوص تمتلأ – ليس إلى درجة الوفرة – ببعض كيزان الذرة الأخضر ، والبيض البلدى الذى لا يزيد حجم الواحدة عن حجم الليمونة المتوسطة ، وبعض الغلال فى مواسم الحصاد..

الجذور

    أذكر واعذروا لى هذا الإستطراد ، فالذكريات حميمة ،متدفئة كشلال انطلق من ساقية ، أقل حركة تديره ، وأقل دوران له يروى الأرض العطشة ، وتنبت عنه أفكار وذكريات خضراء بها طعم الخير ،ونقاء الأصالة ،وعمق الجذور ..

أمان الطيبين

أذكر اننى استسلمت مرة لموس حلاق القرية ، ولكنه لم يكن الحلاق الذى يفترش الأرض ، بل كان له "دكاناً" له باب عريض جداً ، عتيق جداً من الخشب ، يغلق عن طريق لوح من الخشب يأتى من أعلى اليمين ليهبط إلى أسفل يسار الضلفة اليسرى .. بس .. هذا هو كل عوامل الأمان فى قرى كانت تتمتع بكامل الأمن والأمان .

     استسلمت لحلاق القرية بعد أن شددت عليه أمى ألا يحلق "زيرو" ، حتى لا يضحك أولاد مصر ، وبدأ الرجل فى عمله حتى كاد ينتهى ، وكان عليه أن يساوى السوالف ، فأراد أن يسن الموس ، ورأيته محتارأً ، حتى اكتشفت أن الزبون عليه أن يمسك الجلدة ويشد ، حتى يسن الحلاق الموس، وأمام التوصية الزائدة على الزبون الذى هو أنا ، فما كان من الحلاق لأال أن استدعى طفل صغير من أبناء القرية ليساعده ، فلم يكن هناك ما يسمى ب"صبى" الحلاق ، فالحلاق يفتح المحل وينظفه ، ويشحن العدة بمساعدة الزبون ، ويأخذ اللى فيه نصيب ، ثم يغلق بالضبة دون المفتاح ويروح !

 

  أتذكر جيداً ان حلاق القرية الذى جلست أمامه جمع فى أثناء حلاقته لى أكبر كم من المعلومات عن مصر وناس مصر ، عن المنطقة التى أسكنها ، وعن "الشراقوة" الذين يسكنون معنا .. بل وعن مدرستى وماذا ترتدى مدرسات مصر ....

بلد الكباب والكفتة ع السيخ

أشياء كثيرة فسرتها على أنها فضول من قروى تجاه زبون متميز جاء من مصر أم الدنيا ، بلد الكباب والكفتة ع السيخ كما قيل لى!

  ولم أكن حتى هذا التاريخ قد ذقت الكباب ، ولكن يادوب شممت رائحة الكفتة ع السيخ ،وشاهدت الكبابجى على ناصية شارعنا و هو يعجنها ويحيطها بالسيخ مبللة بماء البصل والتوابل .

أى أن ما حسدنى عليه حلاق القرية كان محض خيال!!

هل هو كثير الكلام؟

ومرت سنوات .. تقلبت فيها على عدة حلاقين ، ولم يكن لى ملاحظة عليهم جميعاً سوى أن الإتهام الموجه لمن يمتهن مهنة الحلاق من كونه كثير الكلام ، ينطبق على معظم أبناء هذه المهنة ، وإن كنت وجدت لها عائد إيجابى هى أن معظم الحلاقين متكلمين جيدين ، وعلى درجة مقبولة جداً من الإلمام بمعارف وخبرات كثيرة ، لدرجة أن بعضهم يتكلم فى أمور فنية جداً ، وكثيراً ما تثبت الأيام أنهم يقولون الصواب !

وهذا طبعاً يعود إلى حواراتهم الممتدة مع زبائن من أهل العلم والخبرة .

أما الإكتشاف فهو أننى لاحظت أن غالبية الزبائن يحبون التحدث حتى عن أعمالهم ومتاعبهم ومشكلاتهم مع حلاقيهم!

 

  و زادت دهشتى عندما كنت أشاهد فيلماً أميريكياً ووجدت بطله الذى لا يحضرنى اسمه ، ولا اسم العمل ، يقول حكمة توقفت أمامها كثيراً وهى أنه عندما يضيق الرجل بالمشكلات ، فإنه عليه أن يتوجه إلى أحد اثنين: صديقته أو حلاقه الخاص .

 والأمر يحتاج إلى خبير نفسى من الطراز الممتاز ليحلل تلك الظاهرة فالمثل أو الحكمة تجاهلت الزوجة ،والأخوة والزملاء ، وحددت فقط الصديقة والحلاق!

عموما فان " سلو بلدهم كده " !

المصدر: طاهر البهى
taheralbahey

طاهر البهي الموقع الرسمي

  • Currently 80/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
26 تصويتات / 493 مشاهدة

ساحة النقاش

طاهر البهى

taheralbahey
الكاتب الصحفى مقالات وتحقيقات واخبار وصور حصرية انفرادات في الفن والادب وشئون المرأة تحقيقات اجتماعية مصورة حوارات حصرية تحميل كتب الكاتب طاهر البهي pdf مجانا »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

252,915