درس الاثنين 28 11 2016
تحت عنوان -----------------------------------------
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإنه مما لا شك فيه أن القرآن الكريم يزخر بالمعاني التربوية الرائعة التي لو سلطنا الضوء عليها لوجدنا فيها ما يقوِّم السلوك، ويهذب النفس الإنسانية؛ حتى تصل إلى أعلى درجات الرقي والتحضر، ومن جملة المعاني: تلك المعاني التي تشير إليها هذه الآية المباركة من سورة الحجرات، هذه السورة المليئة بالمعاني التربوية والسلوكية الراقية، والتي يسميها بعض المفسرين بـ"سورة الأخلاق"، وهذا المعنى يلوح لك عندما تقرأ هذه الآية، أن الإسلام لا يفرق بين الناس بألوانهم ولا بأصولهم ولا بأنسابهم، وإنما يُفرِّق بينهم على أساس التقوى؛ يقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13).
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية ما ملخصه: "يقول -تعالى- مخبرًا للناس أنه خلقهم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، وهما آدم وحواء، وجعلهم شعوبًا، وهي أعم من القبائل، وبعد القبائل مراتب أخر: كالفصائل، والعشائر، والعمائر، والأفخاذ، وغير ذلك.
وقيل: المراد بالشعوب بطون العَجَم، وبالقبائل بطون العرب، كما أن الأسباط بطون بني إسرائيل، فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله ومتابعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ ولهذا قال -تعالى- بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضًا، منبهًا على تساويهم في البشرية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) أي: ليحصل التعارف بينهم، كلٌ يرجع إلى قبيلته.
وقوله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) أي: إنما تتفاضلون عند الله بالتقوى لا بالأحساب".
ثم ساق -رحمه الله- مجموعة من الأحاديث النبوية التي توضح هذا المعنى وتبيِّنه أتم بيان، ومن ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: طاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة على ناقته القَصْواء يستلم الأركان بمحجن في يده، فما وجد لها مناخًا في المسجد حتى نزل -صلى الله عليه وسلم- على أيدي الرجال، فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبهم على راحلته، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلاَنِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ثم قال: (أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلكُم) (رواه الترمذي وابن حبان واللفظ له، وصححه الألباني).
في هذا اليوم الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله يقرر النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المعاني السامية، أنه لا فخر لأحد على أحد إلا بتقوى الله، مع أن الناظر في التاريخ يرى الملوك والأمراء في هذه اللحظات يفتخرون بأنسابهم وقومياتهم، ويتعاظمون ويتكبرون على الناس بما لا يعلم حقيقته إلا الله، فيا له من معلم للبشرية! فالنصر والتمكين لم يكن لأجل العرب والعروبة، ولا لأجل أن هذا الشعب هو شعب الله المختار وأن بقية الشعوب عبيد له؛ وإنما لأنهم يتقون الله، ومن يتقي الله؛ وقاه وأعانه، وسدده وهداه، وهذا تجسيد لمعنى العبودية".
وفي البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: (أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ) قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: (فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ) قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: (فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقِهُوا).
حديث آخر عند مسلم -رحمه الله- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ).
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: (انْظُرْ، فَإِنَّكَ لَيْسَ بِخَيْرٍ مِنْ أَحْمَرَ وَلا أَسْوَدَ إِلا أَنْ تَفْضُلَهُ بِتَقْوَى) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
هذه الأحاديث تقرر ميزان العدالة الذي جاء به الإسلام؛ العبرة بتقواه لله -تعالى