أولاً : الأخلاق وعلاقتها بالعلوم الأخرى:
- علاقة الأخلاق بالدين:
يهتم علم الأخلاق والدين بالإنسان وسنتطرق هنا لعلاقة الأخلاق في الدين الإسلامي مع التأكيد بأن معظم الديانات تهتم بالإنسان ولا يتسع المجال لمناقشة علاقة الأخلاق بكل ديانة على انفراد ولكن سيركز هذا الجهد على علاقة الدين الإسلامي بالأخلاق لما لهذا التركيز من فائدة في المجتمعات الإسلامية. يعطي الفكر الإسلامي مكانة عالية للإنسان وقد جاء قوله تعالى ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً)(<!--) تأكيداً للمكانة العالية للإنسان في الفكر والفلسفة الإسلامية.
وعلاقة الأخلاق بالدين علاقة قوية وقد ركز الإسلام على الإنسان وكرمّه بغض النظر عن جنسه أو لونه أو مستواه العلمي. وتشكل المبادئ الدينية المنظم لسلوك الفرد في السر والعلن وتوجهه وفق المنهج الديني الذي يكرم الإنسان ويهديه لما فيه صلاح الفرد والمجتمع. فالعدل والصدق والأمانة والوفاء بالعهد والرحمة والمساواة جميعها مبادئ في الدين الإسلامي تصلح لبناء المجتمع المتكامل أو مجتمع العدل والكفاية الذي يجد فيه الفرد العدل ويجد فيه ما يسد حاجته(<!--).
وهذه المبادئ تجدها في المذاهب الأخلاقية التي تسود المجتمعات ومصدر الأخلاق في الإسلام هو القرآن الكريم وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم حين يقول "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". والفلسفة الإسلامية ليست وضعية وإنما دور العقل يكمن في فهم القرآن والسنة وفهم العقيدة والشريعة والعبادات والأخلاق الإسلامية. وبعكس الفلسفة الغربية الوضعية التي تهدف إلى وضع نظرية أخلاقية(<!--).
وليس من السهل الإحاطة بجميع جوانب الفلسفة الإسلامية في هذا الجهد المتواضع ولكن يجب الإشارة إلى أن الفلسفة الإسلامية التي تحدد صلاح المجتمع على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبين أن سلوك الناس يحكمه ثلاث نزعات هي نزعة الإيثار ونرعة الاستئثار ونزعة المبادلة، وتشكل نزعة الإيثار الفضيلة وأما نزعة الاستئثار فهي الرذيلة وأما نزعة المبادلة في الحقوق أو المعادلة فيها فلا تستحق المدح أو الذم(<!--).
- علاقة الأخلاق بعلم النفس:
يبحث علم النفس في الشخصية والسلوك وصفات الشخصية ويركز على الفرد وعلاقته بالآخرين بداخل المنظمات ويهتم بكل ما يحيط الفرد من مؤثرات تنظيمية واجتماعية ويساعد في فهم الأفراد وتفسير تصرفاتهم ويسهل عمليات التوجيه والإرشاد والتدريب والإعداد للقوى البشرية بداخل المنظمات. ومن زاوية الاهتمام بالفرد وسلوكه وأخلاقياته يتفق علم النفس مع علم الأخلاق الذي يركز على المثل العليا وتعديل الصفات الفردية بحيث تنسجم مع السلوك الأخلاقي الذي يهدف إلى فعل الخير والصواب ضمن معايير المجتمع الذي يتواجد فيه الفرد(<!--).
علاقة الأخلاق بعلم الاجتماع:
يهتم علم الاجتماع بدراسة علاقة الفرد بالمجتمع وعلاقة الجماعات بداخل المجتمع ويركز على العادات والتقاليد والتنظيم والأخلاق في هذه المجتمعات. كما أن علم الاجتماع وعلم النفس وعلم السياسة ساهمت في تطوير مفاهيم السلوك الإنساني
الذي يشكل في جوانب منه السلوك المثالي الأخلاقي للأفراد. وعليه فعلاقة علم الاجتماع بعلم الأخلاق علاقة وثيقة لأنها تدرس العادات والتقاليد والأنظمة والقوانين التي تحكم سلوك الأفراد وإذا توافقت العادات والتقاليد والأنظمة والقوانين التي تحكم سلوك الأفراد مع المعايير الأخلاقية بما فيها من اعتدال تكون العلاقة واضحة وقوية بين الأخلاق وعلم الاجتماع(<!--).
وإنه من المهم أن ندرك أن علم الاجتماع يصف الأوضاع الاجتماعية لمجموعة بشرية دون التدخل بقصد التعديل بها أو التحكم بها ولكن علم الأخلاق يدرس الفرد والجماعة بقصد الوصول إلى الاعتدال في السلوك دون تطرف أو مبالغة لأن الاعتدال والتوسط يعتبر لدى الكثير من الكتاب ممثلاً للفضيلة ومصدراً للقيم الأخلاقية التي يمكن أن تمثل الوسط بين رذيلتين.
علاقة الأخلاق بعلم البيولوجيا (الأحياء)
تعتبر سعادة الفرد إحدى القيم الأخلاقية التي يمكن للفرد بلوغها إذا توفرت لديه الحالة الصحية المناسبة وسلامة العقل والأعضاء دون إفراط في تحقيق هذه السلامة. وكما أن المواظبة على السلامة والمحافظة على صحة الجسم هي من الخير والإضرار به من الشر. ويدعم رغبة الإنسان في الحياة حاجته للبقاء مع علمه بأنه فانٍ فإنه ينتقل من غريزة الموت والفناء وكيف يواجه الإنسان بفن القدر المحتوم ألا وهو الموت . وفن مواجهة الموت تكون بعمل الخير لكل من آمن بالحياة الآخرة. ويدخل ضمن علاقة الأخلاق بعلم البيولوجي حسن التوقيت لتنفيذ الأعمال وتنظيم الشهوات وتنظيم الإشباع لهذه الشهوات(<!--).
علاقة الأخلاق بالقانون
يرى البعض أن القوانين تحدد الإطار الأخلاقي للأفراد والجماعات فحين ينص المشرع على أمر ما فإنه يحدد بذلك جواز فعل، أو عدم جوازه ( لا تقتل)، فإن هذه العبارة تعطي للحياة الإنسانية قيمة، وأهمية بالغة ، وبنفس الوقت تعطي فكرة عن احترام الإنسان وحمايته واعتبار الاعتداء على حياة الفرد جريمة يعاقب عليها القانون.
وبالرغم من وجود القوانين التي تمثل المستوى الأخلاقي الذي تعيشه الجماعات فإنه يجب أن يعاد النظر بها من حين لآخر، بحيث تكون مناسبة لتنظيم حاجات الأفراد والجماعات والضرورية. ويبدو أن أثر الأخلاق يسبق صدور القوانين أو تعديلها لأنه يمثل صوت الضمير الذي يدفع الفرد لعمل الخير وتجنب الأضرار بالآخرين حتى في غيبة القانون أو تقادمه أو تضارب مواده(<!--).
علاقة الأخلاق بالسياسة والاقتصاد
يعرف ديفيد إيستن (DAVID EASTON) السياسة بأنها التخصيص السلطوي للمصادر النادرة في المجتمع. ويعرفها البعض بأنها تحديد ( من يستفيد من ماذا، أين، ومتى، وكيف). ويتم ذلك من خلال الأنظمة السياسية وما بها من أجهزة تشريعية تعمل للفصل في أمور توجيه المصادر نحو الاستخدامات المتنافسة في الموازنة العامة، وفي تشريع القوانين الأخرى التي تنظم الحياة الاقتصادية للأفراد ودور الحكومة والقطاع الخاص في النشاطات الاقتصادية.
وتعرف القيمة الأخلاقية أو الاقتصادية بأنها الرغبة في موجود ما نظراً لما في هذا الموجود أو الشيء من صفات تبرز هذه الرغبة، وعندما تكون هذه الرغبة
مشروعة ومقبولة اجتماعياً فإنه يلاحظ تطابق الأخلاق مع المعايير السياسية والاقتصادية.
وخلاصة القول أن الأخلاق ترتبط بالدين وبعلوم النفس والاجتماع والبيولوجيا والسياسة والقانون والاقتصاد وبمختلف العلوم الأخرى نظراً لأنها مرتبطة بالإنسان وأفعاله. وهذه الأفعال تمتد لتصل مختلف أنواع المعرفة التي توصل لها الإنسان بحيث تركز الأخلاق على حسن الانتفاع من هذه المعرفة رغم أن بعض أنواع المعرفة قد يسخرها الإنسان نحو الهدم والتدمير والقتل غير المبرر وغير المشروع. وعندها تكون الأخلاق على نقيض مع تسخير المعرفة خارج الحدود التي تخدم المجتمع والتي تؤثر سلبياً في اتجاه بلوغ مجتمع العدل والكفاية لبني البشر.
الآثار المترتبة على الأخلاق الحسنة
الأثر الأوّل : تكامل الإيمان :
ذلك لأنّ الدين الإسلامي في نظر أهل البيت ( عليهم السلام ) ليس مجرد علاقة بين العبد وربّه ، وإنّما هو علاقة بين العبد وبين أخيه العبد ، ولم تتم علاقة الإنسان مع ربّه لم تقبل أعماله وعباداته إلاّ إذا تمّت علاقة مع أخيه الإنسان .
عن الإمام الباقر ( علية السلام ) : ( إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ) .
وفي الخبر ذكرت امرأة عند الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) وأحسن الثناء عليها من جهة صيامها وقيامها ، فقال الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : ( كيف تعاملها مع جيرانها ) ؟ قيل : هي امرأة تسب وتشتم ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( لا حاجة لله في قيامها وصيامها ) .
وفي خبر آخر سمع الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في نهار رمضان امرأة تشتم جاريتها أو جارتها ، فدعا بطعام وقال لها : ( كلي ) ، قالت : يا رسول الله ، كيف آكل وأنا صائمة ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( وكيف تكوني صائمة وقد شتمتِ جارتك ( !
يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( من أراد أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل ، فلينظر هل منعته عن الفحشاء والمنكر ، فبقدر ما تمنعه تقبل منه ( .
الأثر الثاني : مضاعفة الحسنات وغفران السيئات :
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( إنّ صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم )
وعنه ( صلى الله عليه وآله ) : ( ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق )
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( ما تقدّم المؤمن على الله عز وجل بعمل بعد الفرائض أحب إلى الله تعالى من أن يصنع الناس بخلقه ) ، وعنه ( عليه السلام ) : ( إنّ الخلق الحسن ليميت الخطيئة كما تميت الشمس الجليد ( .
الأثر الثالث : السعادة الأبدية من خلال الفوز بالجنّة والنجاة من النار :
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( أكثر ما تلج به أمّتي الجنّة تقوى الله وحسن الخلق يعمّران الديار ويزيدان في الأعمار ( .
وجاء في الأثر أنّ الله تعالى أدخل كافراً الجنّة لأنّ أربعين رجل شهدوا له بحسن الخلق .
وقد قال العارفون قديماً : حسن الخلق حسنة لا تضر معها كثرة السيئات ، وسوء الخلق سيئة لا تنفع معها كثرة الحسنات .
والسؤال الذي نحاول الإجابة عليه من خلال هذه السطور المتواضعة : لماذا تترتّب على الأخلاق الحسنة مثل هذه الآثار العظيمة ؟ إنّه ومن خلال معرفة قيمة الأخلاق في نظر الإسلام يتجلّى لنا الجواب الأمثل على هذا السؤال ، ففي نظر الدين الإسلامي لا تشكّل الأخلاق الحسنة جانباً مهمّاً من جوانب الدين فحسب ، وإنّما هي تشكّل العمق والواقعية .
لماذا بعث الرسول ؟ ولماذا أنزل القرآن ؟ ولماذا ختمت الشرائع بشريعة الإسلام ؟ الجواب : يقول الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) : ( إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق)
وفي رواية : جاء رجل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من بين يديه فقال : يا رسول الله ما الدين ؟ فقال : ( حسن الخلق ) ، ثمّ أتاه من قبل يمينه فقال : يا رسول الله ما الدين ؟ فقال : ( حسن الخلق ) ، ثمّ أتاه من قبل شماله فقال : يا رسول الله ما الدين ؟ فقال : ( حسن الخلق ) ... ، وفي الخبر : الدين المعاملة .
فالدين الإسلامي وإن تركّب من أصول تشكِّل جانب الاعتقاد ، وفروع تشكّل جانب العمل ، إلاّ أنّه في نظر أهل البيت ( عليهم السلام ) ينصهر مع حقيقة واحدة ، وهي حقيقة الخلق الحسن والنبيل .
الخلق الحسن الذي يمكن أن يظفر به الإنسان في علاقته مع الله تعالى من خلال معرفته ومعرفة صفاته وأسمائه ، ومن خلال الالتزام بتطبيق جميع أوامره ونواهيه ، وفي علاقته مع الناس من خلال ترك جمع الصفات السيّئة والاتصاف بجمع الصفات النبيلة والفاضلة .
رحابة التعاليم الأخلاقية :
ولأنّ الأخلاق الحسنة تشكّل عمق الدين ، والتعاليم الإسلامية تحث المسلم نحو حسن الخلق ليس مع إخوانه المسلمين فحسب ؛ بل حتّى مع المخالفين له في المنهج والاعتقاد ، يقول الله تعالى : ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) الممتحنة : 8 .
ويقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( ألا ومن ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئاً على غير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة) .
وجاء في عهد الإمام علي ( عليه السلام ) : ( وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم ، واللطف عليهم ، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم ، فإنّهم صنفان : إمّا أخ لك في الدين ، وإمّا نظير لك في الخلق ( .
ويقول ( عليه السلام ) : ( يا مالك ، الناس ينقسمون إلى قسمين :
القسم الأوّل : وهم الذين يتّفقون معك في الفكر والعقيدة ، وعليك أن تحترمهم وتقدرّهم لوحدة الفكر والهدف .
القسم الثاني : وهم الذين يختلفون معك في العقيدة ، وعليك أن تحترمهم وأن لا تعتدي عليهم ، لأنّهم بشر يملكون مشاعر وأحاسيس ، فهم وإن اختلفوا معك في الاعتقاد إلاّ أنّ هذا الاختلاف يجب أن لا يكون مسوقاً لسوء الخلق ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) لشيعته : ( ردّوا الأمانة إلى أهلها وإن كانوا مجوساً ) .
وقال له أحد أصحابه واتباعه : وقع لي مال عند يهودي فكابرني عليه وحلف ، ثمّ وقع له عندي مال فهل آخذه عوضاً وأجحده وأحلف عليه كما صنع ؟ فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( إذا خانك فلا تخنه ، ولا تدخل فيما عبته عليه) .
أهل البيت ورحابة الخلق :
وقد سجّل لنا التاريخ وقائع كثيرة تتجلّى لنا من خلالها رحابة الإسلام في تعاليمه الخلقية ، فهذه أخلاق أهل البيت ( عليهم السلام ) شاهدةً بعد أن جسّدت لنا معنى أن يحافظ الإنسان على قيمه وأخلاقه حتّى مع المخالف في المذهب والدين .
فقد شكا يهودي علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) للخليفة عمر ، فقال عمر لعلي ( عليه السلام ) : قم يا أبا الحسن واجلس بجنب خصمك اليهودي ، ففعل الإمام علي ( عليه السلام ) وعلى وجهه علامة التأثّر ، فلمّا فصل عمر قال للإمام علي ( عليه السلام ) : أكرهت أن تساوي خصمك ؟
قال : ( لا ، ولكن تألّمت لأنّك ناديتني بالكنية ، فلم تساوي بيننا ، فخشيت أن يظن اليهودي أنّ العدل ضاع بين المسلمين ) . وعن الإمام الباقر عن أبيه ( عليهما السلام ) : ( إنّ علياً ( عليه السلام ) صاحب ذمّياً ، فقال الذمّي أين تريد يا عبد الله ؟ قال : أريد الكوفة ، فلمّا عدل الطريق بالذمّي عدل معه علي ( عليه السلام ) .
فقال له الذمّي : أليس زعمت تريد الكوفة ؟ قال ( عليه السلام ) : بلى .
فقال الذمّي : فقد تركت الطريق ، فقال ( عليه السلام ) : علمت .
فقال له : فلم عدلت معي وقد علمت ذلك ؟ فقال ( عليه السلام ) : هذا من تمام حسن الصحبة ، أن يشيع الرجل صاحبه هنيهة إذا فارقه ، بكذا أمرنا نبينا ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال له : بهذا ؟ فقال : نعم .
فقال الذمّي : لا جرم إنّما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة ، وأنا أشهد أنّي على دينك ، فرجع الذمّي مع علي ( عليه السلام ) وأسلم ) .
وممّا ينقل في ذلك أنّ ابن عباس أمر غلامه بعد سلخ شاة أن يبدأ بجاره اليهودي ، وكرّر أمره له حتّى قال الغلام : كم تقول ذلك ؟ فقال : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يزل يوصينا بالجار ، حتّى خشينا أنّه سيورّثه .
ليس من العجب أن تتمتّع الشريعة الإسلامية بهذه التعاليم العالية ، فالخلق الحسن يشكّل واقع الدين ، والإنسان مطالب بحفظ دينه وتديّنه في كل الأحوال وعلى جميع الأصعدة في معاملاته وأخلاقه ، سواء كان التعامل مع الموافق في المذهب والاعتقاد أو لم يكن .
ثانياً : التطور التاريخي لعلم الأخلاق:
الأخلاق عند اليونان:
يعيد المؤرخون الفضل للفلاسفة اليونان في تأسيس علم الأخلاق مستشهدين بنظرية أرسطو الأخلاقية بين عامي (425 – 325) ق.م.
ويؤكد هذا القول العديد من الكتاب الذين اهتموا بالفلسفة الغربية وتتبع بداياتها. ويرون أن الفلاسفة اليونان أقاموا فلسفتهم على أساس العقل والمنطق والتجربة والابتعاد عن الدين وتحاشيه(<!--).
ويرى العديد من المؤرخين أن لسقراط مساهمة كبيرة في تأسيس علم الأخلاق وفي رده على السوفسطائية معتبراً آراء السوفسطائية تهدف لزعزعة المبادئ الأخلاقية والاجتماعية الأمر الذي جعل سقراط يستهدف الإنسان وسلوكه في فلسفته(<!--). وفي القرن الخامس قبل الميلاد ظهرت في اليونان مجموعة من المعلمين المحترفين للفلسفة والخطابة عرفت باسم "السوفسطائية" وكان من أشهرهم بروتوجوراس الذي اعتبر أن الأخلاق نسبية في قوله المشهور "الإنسان مقياس الأشياء جميعاً"(<!--).
وقد ورد هذا القول في دستور مدينة ثوديوم اليونانية ويستفاد من آراء السوفسطائية أنها أقامت المعرفة على الأساس الحسي وهذه النقطة التي هاجمها سقراط والذي اعتبر أن المعرفة يجب أن تقام على أساس العقل والتجربة. هذا فضلاً عن اعتبار الحقائق نسبية نظراً لاستنادها على المعرفة الحسية والتي تعتبر كذلك نسبية نظراً لأنها مستمدة من مبدأ الذاتية والتي يشكل الإنسان مقياساً لكل شيء فيها. ومبدأ الذاتية لدى الإنسان يجعل مفهوم الخير ما هو خير بالنسبة له وبهذا يحقق المبدأ الثاني للسوفسطائية وهو نسبية الخير والأخلاق(<!--).
واهتمت فلسفة سقراط في بحث علاقة الإنسان بالإنسان ويرى أن الأخلاق تكون صحيحة إذا أُسست على علم لدرجة أنه اعتبر "العلم فضيلة" تصلح لأن تكون أساس المعاملات بين الناس وقد انقسم أتباع سقراط الذي عاش ما بين (469 – 399 ق.م) إلى فريقين هم : أولاً : الكلبيون (Cynics) وثانياً: القورينائيون نسبة إلى مدينة قورينا من مدن برقة في شمال أفريقية.
ويرى الكلبيون أن ضبط اللذة والميل نحو الزهد في الحياة يحقق السعادة وأن الانهماك في اللذة لا يؤدي لصلاح المجتمع وكانوا يدعون إلى لبس الخشن من الثياب والزهد في المأكل والمشرب وعلى العكس منهم نرى القورينائيين يميلون إلى طلب اللذة والفرار من الألم وأن السعادة في طلب اللذة إذا كانت أكبر من الألم الذي ينشأ عند إشباع لذة معينة(<!--).
ويقع الكثير ممن تأثروا بالفلسفة اليونانية بخطأ التعميم في اعتبار أن اليونان هم أول من أسس علم الأخلاق، والصحيح أن اليونان هم أول من أسس علم الأخلاق الغربية. ومن اليونان امتد تأثير المبادئ الأخلاقية كجزء من الفلسفة اليونانية يشمل الحضارة الغربية في فرنسا وبريطانيا وأوروبا والولايات المتحدة(<!--).
والمتتبع لتاريخ الحضارة في الشرق يجد أن الفلسلفة الهندية والصينية والمصرية قد سبقت اليونان في معالجة مفهوم ومبادئ الأخلاق، وعليه فإنه لابد من الإشارة وبشكل مختصر لمساهمة الفراعنة والهنود والصينيين في مجال علم الأخلاق .. والتأكيد أن الحضارات القديمة في الشرق بعضها قد أثر أو تأثر بالدين.
- أخلاق قدماء المصريين:
يلاحظ من البقايا الأثرية والمخطوطات والبرديات أنها تشتمل على النصائح والحكم ومن أشهر البرديات البردية المسماة نصائح "بتاح حوتب" الذي كان وزيراً للملك "رزكاع – اسيس" من ملوك الأسرة الخامسة. والنسخة الأصلية محفوظة في متحف اللوفر في باريس وسوف أعود لذكر بعض النصائح الأخلاقية من هذه البردية.
وهناك نص يقول "لم أرتكب إثماً ضد الرجال ولم يشعر أحد بالجوع ولم أسبب بكاء أحد، وما أمرت بقتل نفس، ولو ارتكبت جريمة القتل بنفسي، ولم أسرق أي شخص وما جعلت الناس تخافني... وكنت أمد الجائع بالخبز، وأروي العطشان بالماء، وكنت أكسي العراة" ويريد صاحب هذا النص المغفرة من الآلهة. (<!--)
- ومن نصائح "بتاح حوتب" لابنه، ما يلي:
"لا يداخلنك الغرور بسبب عملك ولا تتعال وتنتفخ أوداجك لأنك رجل عالم...
- استشر الجاهل كما تستشير العالم لأنه ما من أحد يستطيع الوصول إلى آخر حدود الفن ولا يوجد الفنان الذي يبلغ الكمال في إجادته...". (<!--)
وتشمل نصائح "بتاح حوتب" النصائح التي تحث على الالتزام بالحق والاستماع لشكوى المظلوم وطاعة الوالدين. وتعتبر نصائح "بتاح حوتب" من أقدم مصادر الأدب في العالم لأنها تركز على أدب السلوك في الضيافة والأمانة في نقل الرسائل، والتحذير من الشراهة والكرم مع الأصدقاء واحترام الرؤساء وغيرها لا يتسع المجال لذكرها(<!--).
ومن الحكماء المصريين القدماء " امينوبي" الذي يلاحظ في حكمه ونصائحه التدين والتواضع ومن أقواله : "لا تندفعن بقلبك وراء الثروة، إذ لا يمكن تجاهل الحظ، فكل إنسان مقدر له ساعته، ويجب عليك أن تتعبد لله، قل امنحني السلام والصحة، ... وأن الممقوت من الله من يُزور في الكلام، و يؤدي شهادة كذباً، ولا تستغلن قلمك في الباطل ..." (<!--).
ويبدو أن الحياة المصرية القديمة تأثرت أكبر تأثير بالدين الذي تمحور حول إلهين هما إله الشمس راع وإله النيل أوزريس. ويظهر هذا في النصوص الإهرامية التي يعود تاريخ أقدمها إلى (3400 ق.م).
ويعود تاريخ الأسر ابتداء من الأسرة الأولى (3400 ق.م) حتى الأسرة (26) التي دامت من (363 ق.م – 500 ق.م). وهذه الأسر تمثل تاريخ الدولة القديمة وعهد الإقطاع ثم الإصلاح وبدأ الغزو الفارسي ( 525 ق.م) والغزو اليوناني (332 ق.م) ثم الغزو الروماني (30 ق.م). " وفي الأخلاق وفي وجهتهم نحو الحياة استمر الحكماء في المحافظة على روح النظرة السليمة لأرفع المثل العليا(<!--) العملية(<!--). وهنا يتم تحذير الشباب من المرأة الأجنبية ويبين أخطار سوء الخلق ويشرح الخطيئة التي يمكن أن يقع بها الشاب نتيجة إغوائه من المرأة. ويذكر كذلك أن الثروة الحقيقة هي الثروة التي يكونها الفرد بعمله وليست الموروثة.
ويعود تاريخ وصايا (بتاح حوتب) إلى (2880 ق.م) بينما وجدت بردية يعود تاريخها إلى أكثر من (3500 سنة) قبل الميلاد، وقد صورت البردية نظرة متشائمة للكاتب، وهذه البردية محفوظة في متحف (ليدن – هولندا). وتمثل مجموعة الوصايا العلاقات الأسرية القوية وتعرض دقائق خلقية عالية القيمة. ويقال أن حكم امينوبي تدل على انتشار التعاليم الخلقية المصرية في فلسطين وغيرها، ويبدو فيها الحديث عن العلاقة بين الله والإنسان. (<!--)
- الأخلاق الهندية:
يرتبط موضوع الأخلاق في الهند بالنظام الاجتماعي وبالمفاهيم الدينية. ويتكون المجتمع الهندي من أربعة طبقات، هي :1- البراهمية. 2- الجند. 3- التجار والصناع. 4- الخدم والعبيد. وتربط هذه الطبقات بنظام اجتماعي يحدد المعايير الأخلاقية لكل طبقة، ويرى البعض أن أساس الطبقات هو العرق وأن بعض الطبقات تنتمي للجنس الآري، مثل: طبقة البراهمة. بينما يرى البعض الآخر أن أساس الطبقات هو تقسيم العمل بداخل المجتمع والعمل على توحيدة وتسمى طبقة الجند (الآكشرية)، وتمتاز بالقوة وبصلاح أفرادها كقادة وقضاه وحكاماً للناس. أما طبقة التجار والصناع (الوليشية) فعليهم الاهتمام بتجارتهم وأن يتزوجوا من طبقتهم ومعرفة كل ما يمت لتجارتهم بصلة، مثل: اللغات والأجور وما تحفظ به السلع. وأما الطبقة الرابعة وتسمى الشودرا أو طبقة ( الخدم والعبيد)، فعلى أفرادها الامتثال لأوامر البراهمة ولا يحق لهم جمع الثروات أو التطاول على أفراد الطبقات الأخرى، وإذا تعرض أحدهم بسوء لأي فرد من طبقة البراهمة يعاقب عقاباً جسدياً صارماً(<!--).
وأهم معتقدات الهندوسية تشمل الكارما ( قانون جزاء الأعمال) وتناسخ الأرواح والانطلاق ووحدة الوجود. ولا شك أن كل من هذه المفاهيم يرتبط بأخلاقيات محددة تنظم سلوك من يؤمن بها ومن الصور الأخلاقية للبراهمة زيادة الصوم وتعذيب النفس خلال دورات الحياة، ففي الدورة الثانية يكون عائلة، وفي الدورة الثالثة يكرس نفسه لخدمة المجتمع هو وزوجته. وتتسم دورات حياته الأربعة والتي تبلغ كل دورة منه (25) سنة بالزهد في الحياة(<!--). وتعكس مفهوم تبعية المرأة للرجل وتحديد أدوار المرأة في خدمة الرجل والعناية في البيت وتربية الأطفال. ركز بوذا على التدريب الأخلاقي وشعار أتباعه ضبط النفس من الشهوات وتنازل أتباعه عن أموالهم وعقاراتهم. واحترام الحياة للكائنات الحية(<!--).
ويذكر البوذيون أربعة حقائق هي: 1- وجود الألم في الولادة والمرض والموت ومتاعب الحياة. 2- وجود سبب للألم ويكمن هذا السبب في الشهوة.
3- وهذا السبب قابل للزوال. 4- والوسيلة لزوال السبب موجودة عن طريق "الشعور الصائب، القول الحق، السلوك الحسن، الحياة الفضلى، السعي المشكور، الذكرى الصالحة، التأمل الصحيح"(<!--).ويلخص بوذا وصاياه العشرة كما يلي: (<!--)
يجب ألا تقضي على حياة.
يجيب ألا تأخذ ما لا يعطى إليك.
يجب ألا تقول ما هو غير صحيح.
يجب ألا تستعمل شراباً مسكراً.
يجب ألا تباشر علاقة جنسية محرمة.
يجب ألا تأكل في الليل طعاماً نضج في غير أوانه.
يجب ألا تكلل رأسك بالزهر وألا تستعمل العطور.
يجب ألا تقتني المقاعد والمساند الفخمة.
يجب ألا تحضر حفلة رقص أو غناء.
يجب ألا تقتني ذهباً أو فضة.
- الفكر الأخلاقي عند الصينيين القدماء:
لقد سبق الفكر الصيني الفلسفة الإغريقية في الحديث عن أصل الكون والطبيعة الإنسانية والسياسة ومقاييس الحكم الصالح ومن أبرز الفلاسفة الصينيين فيلسوف الصين الأشهر (كونفوشيوس) (551 ق.م)، وقد ركز هذا الفيلسوف على الأخلاق على مستوى الفرد والمجتمع ونظام الحكم فيه. ويرى أن الفضيلة موجودة في النفس البشرية وتظهر بتنمية قوى النفس الخيرة والحق عنده ثلاث درجات هي: (أ) معرفة مجردة للحق. (ب) شوق للحق ومحبة له. (ج) التزام عملي به مع اطمئنان القلب وارتياحه للحق.
ويدعو كونفوشيوس لإصلاح المجتمع عن طريق الاختلاط بالناس بقصد الإصلاح وليس العزلة عنهم والزهد بالدنيا، وإنما العمل والنشاط لإصلاح المجتمع. وقد تولى الوزارة فصلحت معها واستتب الأمن وعلت الفضيلة كما تشير الوثائق الصينية، وهو يرى أن القدوة خير وعامل حاسم في الدعوة للأخلاق(<!--). ويرى أن السياسة يجب أن تهدف لإصلاح أخلاق الناس وأهم تأثير للقادة والسياسيين يكون من خلال أخلاقهم وليس قوانينهم وهو القائل : "إن كان سلوك الرئيس مستقيماً أطاعه المرؤوسون من غير أن يأمرهم وإن كان غير مستقيم لم يطيعوه ولو أمرهم"(<!--).
ولايتسع المجال للحديث عن فلسفة كونفوشيوس بتفاصيلها ولكن هذا الفيلسوف كان يرى الفضيلة تكمن في الإنسان وأنه عندما يربي الإنسان أخلاقياً فلا حاجه للقانون والعقوبات والقضاة لأنهم سيقبلون على فعل الخير. وقد سبقه وتبعه فلاسفة صينيون اختلفت فلسفاتهم عن فلسفة كونفوشيوس من حث التطرف في الدعوة للخير أو التشاؤم، أمثال: ( يانج تشو 390 ق.م) و (هسن – تسي) الذي يدعو إلى ضبط النفس ومحاربة اللذات، بينما نادى يانج تشو للانهماك في الملذات.
ثالثاً: تعريف علم الأخلاق:
عرّف سليم الجابي الأخلاق بأنها تعود في جذورها إلى صميم المادة وليست موضوع فلسفي، كما يصوره الكثير من المفكرين، ويقول أن الأخلاق تتعلق بالصفات الطبيعية التي فطر عليها الإنسان والتي تمتد جذورها إلى أصل وصفات المادة. وتتعلق بالقوى الباطنية للإنسان. وهذه الصفات الطبيعية تشكل الأرضية للفعالية والعمل والتطور. ويرتبط موضوع الخير والشر بأسلوب استعمال هذه الصفات بحيث يؤدي حسن الاستخدام إلى الخير وسوء الاستخدام للشر. وكما أن قوى المادة هي أساس تقدم العالم وتطوره فإن استخدام الصفات الطبيعية المرتبطة بالقوى الباطنية للإنسان يشكل أساس الأخلاق(<!--). ويعرف علم الأخلاق بأنه " البحث عن المبادئ وترتيبها واستنباطها والكشف عن أهميتها للحياة الأخلاقية مع بيان الواجبات التي يلتزم الإنسان بها(<!--). وتشير الدراسات الانثروبولوجية أن تاريخ الحضارة البشرية يزخر بالشرائع الأخلاقية المتقاربة مما يشير إلى أن الأساس الأخلاقي في البشرية فطري. وهذا ينسجم مع تحليل جابي لجذور الأخلاق.