جورج زيمل

تسعى هذه الورقة  إلى التعريف  بأسس سوسيولوجيا عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني "جورج زيمل"

وذلك بالتوجه للإجابة على الأسئلة التالية:

-ما هي جذور متنة النظريّ وإطاره الإبستيمولوجي؟

-ما هي  آليات عمل هذا المتن؟

-ما هي مواضيع ذلك العمل الأساسيّة؟

وستكون الإجابات على الأسئلة المطروحة في سياق تحليلي، يمكّن من تسليط أكثر ما أمكن من الأضواء على الإسهامات النظريّة والبحثيّة لجورج زيّمل،   بالإضافة إلى بعض المعطيات الأخرى التاريخية التي تساعد على تأطير أكثر إحكام لحصيلة اهتمامنا به.

 

I-       إ   أ- إطار المتن وجذوره:

1- الإطار التاريخيّ

للإطار التاريخيّ الذي عاش خلاله "جورج زيّمل" أهميّة في ميلاد نظرته الفلسفية التي مثّلت خلفية اجتهاداته النظريّة. فقد ولد "زيّمل" سنة 1858 في برلين، وبعد انجاز دكتوراه في الفلسفة درّس بالجامعة مدّة ثلاثين (30) سنة، وقد شهدت تلك الحقبة التاريخية في ألمانيا خاصّة ظواهر يتمثّل أهمها في الأزمة الاقتصادية (انهيار البورصة 1873 و1896) وظهور نزعة فلسفيّة تشاؤميّة بالإضافة إلى الأزمات السياسية والحروب واحتداد الصراعات. وقد تمخّض كل ذلك عن نشوء تيار فكرّي جعل مهمّته الأساسية التفكير في الحداثة بما هي ارتباك في التقدّم الاجتماعي ولم تكن الظواهر التي عرفتها تلك الفترة، والمعروض بعضها أعلاه، مقتصرة على ألمانيا بل شملت كل أوروبا (ايطاليا وفرنسا كأمثلة صارخة…).

لقد أدّى ذلك أساسا إلى بداية المسّ من فكرة "التقدم" الممحورة لكلّ التفكير الفلسفي والإنساني والناشئة عن التصنيع وتطوّر التجارة وحركة التّبادل إضافة إلى الاختراعات التقنيّة والتغييرات السّياسية الديمقراطيّة. ولقد كانت كانت هذه الفكرة، فكرة التقدم قاعدة التفكير الاجتماعي لدى أوغست كنت وسبنسر وأساس الرّبط بين القدّم (النظرة التطّورية الوضعية) والنّماء الاجتماعي.

فكيف تفاعلت السّاحة الفكرية الألمانية مع هذه التغيّرات؟

2- المحيط الفكري الألماني:

كان للمساس بفكرة "التّقدم" تأثيرات ثقافيّة وفكريّة كبيرة على السّاحة الألمانية تمثّل أهمها في فلسفات "شوبنهاور" و"فون هارتمان" و"نيشه" التي تميّزت بتفكير نقديّ تجاه الحداثة أساسه عدم التسليم بضرورة التقدّم الاجتماعي والتّشكيك في يقينيّته. ولقد تركّزت هذه الفلسفات على التفكير في القيم. أمّا على مسنتوى التفكير الإنساني والاجتماعي خاصّة فقد أوجدت تلك التأثيرات المشار إليها أسس "علم الاجتماع النّظري" وأقطابه الثلاثة "ماكس فيبر" و"فردينان تونيز" و"جورج زيّمّل" الذين انفصلوا عن سوسيولوجيا التقّدم وفتحوا أبواب البحث في "المعيش كما هو". فقد بنى "ماكس فيبر" أعماله على اعتبار كلّ ظاهرة في ارتباطها بكوكبة الظّواهر اللّصيقة بها بما يؤدي إلى تعدّد إمكانيات تفسير نفس الظّاهرة بقدر تعدّد الكوكبات التي تنتمي إليها في آن معا وهو الأساس النظري الذي أوجد مفاهيمه المركزية الفهم والتفهم  والعقلانية والتشكلية كتحديدات نظرية للظاهرة الاجتماعية تجعل من التاريخ مسرحا لصراعات قيم متضادّة حيث لا شيء مستحيل ولا شيء ضروري في نفس الوقت. 

أما "تونيز" فقد انطلق من تشخيص التّقدم باعتباره تقصيرا، مبرزا التّعارض بين المجتمع والمجموعة. فهذه تحوي الحياة العضويّة والشخصيّة بعلاقات القرابة فيها وأهميّة علاقات الجيرة والقيم الدينية والأخلاقية في تقابل مع المجتمع في لا شخصانيته واعتماده المصلحة المرتبط بروزها واستمرارها بالتصنيع والمدينة وعقلانية الحياة فيها، بحيث أصبحت الحداثة مرادفا للاصّحي (المرضي) الاجتماعي.

ومهما يكن من مفارقة في ذلك فقد أوجد هذا الجهد التنظيري أسس تحويل التفّكير الاجتماعي إلى علم (الاجتماع) حيث ينظر للمجتمع لا باعتباره تكريسا للتقدم وإنّما بما هو نظام فعل يحتلّ فيه الفرد، والمجموعة، والدور، والفعل، والعلاقة حيّز الاهتمام البحثي الأساسي. ومع الاستعانة بمواد علميّة وتقنية مستقاة من التاريخ والإحصاء والإتنولوجيا والأنتروجولوجيا انصبّ جهد علم الاجتماع على الفعل باعتباره فعلا:

· ذا هدف عقلاني (ماكس فيبر)،

· تفاعلا سلوكيا (فرديناند تونيز)

· صيغة علاقة بالآخر (جورج زيمل)

ومن الواضح أنّ هذا البناء النظرّي السوسيولوجي ذي أساس فلسفي بدرجة أولى. فما هي الأسس الفلسفية لمتن "جورج زيّمل" النظري السوسيولوجي؟

ب-    الأسس الفلسفية للمتن: 

لنذكّر أن "زيّمل"، صاحب الدكتوراه في الفلسفة، ذو تكوين فلسفي متعمّق في محيطه ذي الخصوبة العالية حينها فبالإضافة إلى ما ورد من ملاحظات حول المناخ الفلسفي الذي عايشه، كان على ارتباط بالإرث الفلسفي الإغريقي وخاصة الأفلاطوني منه إضافة إلى السقراطي أيضا الذي توجّه إلى استخراج المفهوم من الأشياء حتى يتمكّن من نظرة شاملة لها. أمّا لدى "أفلاطون" فقد وجد "زيّمل" اهتماما خاصا بالحقيقة وبتوافقها مع موضوعها.

ولكّن "كانط"، وخاصّة في نظريّة المعرفة لديه، يعتبر الملهم الرئيس، للتأطير الفلسفي الذي  اعتمده "زيمّل"  في تنظيراته وأعماله. فالمعرفة المرتكزة على التّجربة (تجربة الذات المفكّرة) تجعل الحقيقة ممكنة. فلا يتحقق الشيء (الموضوع) إلا من خلال التّحليل الذي يكسبه شكلا موضوعيا قابلا للعلم. ومؤدّى ذلك أن المعرفة سيرورة أشكال ورسوم. فالعقل لدى "كانط" هو الذي يخلق أشياءه (مواضيعه) بنفسه ويحوّلها إلى حقل للتعرف والعلم وهو جهد يمكن تماما للذات (عند الكانطيين الجدد) أن تبرز خلاله قدرتها على الحكم وهو ما يعني اعتبار الذّات (الفرد) العالمة بانية للحقيقة فلسفية كانت أو علمية.

ولئن كانت المنابع الفلسفية الوارد ذكرها أعلاه واضحة الاهتمام بالشّكل فإن اعتبارات "زيّمل" الفلسفية لم تكن آحادية الجانب كما قد يتبادر إلى الذهن، ولذلك نجده يركّز على محتويات هذه الأشكال ويكتشف داخلها صراعات وتضاددا جعله يبني تصوّرا للنزاع في المجتمع معتبرا إياه شاملا، حتى وإن أدّى أحيانا إلى حلول فتلك أوضاع مؤقتة زائلة حيث أن النزاع مؤسّس اجتماعيّا وتاريخيّا وإذا كامن في كلّ حياة اجتماعية.

ج-      المتن النظري

1- تعريف المجتمع

أوّرد "جورج زيّمل" في كتاباته تعريفات متعددة للمجتمع، نستقي إحداها وفيها يقول: "إذا أمكننا القول أن المجتمع هو مجموع الأفعال المتبادلة للأفراد، كان وصف أشكال ذلك الفعل المتبادل مهمّة لعلم المجتمع في المعنى الأضيق والأصّح لكلمة مجتمع" وبالإمكان إضافة هذا التّعرف الثاني والّذي يبدو فيه المعنى أوضح:"يجب تخصيص كلمة مجتمع للأفعال المتبادلة الدّائمة وتخصيصا لتلك المموضعة منها في رسوم موحّدة الشكل وقابلة للوصف كالدّولة، والعائلة والكنائس والطّبقات ومجموعات المصالح".

إنّ الأساس الذي ينطلق منه "زيمّل" في تعريفه هذا هو الفعل المتبادل الذي يكتسب أبعادا ثلاثة:

· الوجود الفردي وحالاته

· اشكال التفاعل بين الأفراد

· الأحداث الموضوعية الملموسة .

فمصالح الأفراد هي الّتي تدفع، في الحياة الاجتماعية نحو الأفعال المتبادلة الّتي تتكرس في التّفاعل والتّبادل واللّذين يأخذان أشكالا محددة. إنّ ما يهمّنا استنتاجه في هذا المستوى من مقاربة متن "زيّمل" النّظريّ هو اعتباره أن ليس للمجتمع، في حقيقة الأمر، ما هية جوهرية، حيث لا ملموس (محسوس) فيه بحد ذاته، بل هو صيرورة وتكوّن يتجسّدان في إنتاج مصير الفرد (الإنسان) وتشكيل ذلك المصير عبر العلاقة مع الآخر.

2- تعريفه للظّاهرة الاجتماعية:

يعتبر "جورج زيمّل" أن مصالح الأفراد الدّافعة نحو الأفعال المتبادلة يمكن أن تكون محسوسة أو مجردة، مؤقّتة أو دائمة، واعية أو غير واعية، فاعلة بسبب أو مندفعة نحو هدف. فالواقع الذّي تعكسه سوسيولوجيا "زيمّل" مبثوث في الحياة المعيشة اليوميّة (تحدّث العديد عن سوسيولوجياه باعتبارها سوسيولوجيا المعيش) يمسك منه (الواقع) العلم الاجتماعيّ صورة نموذجيّة تمكن من وعي متكامل بذلك الواقع. ولذلك يعمد "زيمّل" عند بحثه في الظاهرة الاجتماعية إلى التنقيب داخل التّحليلات التي يقوم بها على أشكال الفعل المتبادل البسيطة في الحياة العملية، فيكتشف أن الظّاهرة "هي العلاقة المعقّدة، المتحركة، متعددة الأشكال لشيء لا يتعرّف عليه إلا كمثال (نموذج) يتشكل ذاتيّا لدى الفرد الّذي يتحول بدوره ويتطوّر بفعل الشيء".

إن هذا التّعرف السائب ذو أهميّة بالغة من حيث تحديده لمنهج البحث الاجتماعي لدى صاحبه. فما هو هذا المنهج؟

3- منهج البحث الاجتماعي لدى "زيّمل"

و"حدها الحياة قادرة على فهم الحياة" يعتبر هذا القول مفتاح منهج "زيّمل" في بحثه الاجتماعي حيث لم يقترح في أعماله منهجا أو صيغة منهجيّة صارمة التأليف العلمي، بل عمد إلى مقاربة أساسها الاقتراب من الواقع أكثر ما أمكن وعدم تبنّي أيّ منظومة والاعتماد على  الحدس (وهو ما يقرّبه كثيرا من "برقسون" الذي كان صديقا له).- ولكن أليس في هذا القول تناقض، خاصة أننا نبحث عن منظومته الفكرية؟

-    ليس ما ورد في الحقيقة إلاّ صيغة، تقترب كثيرا من الصّياغة الأدبيّة لمنهج واع ومتّسق اتّبعه في أعماله السّوسيولوجيّة. وتبدو الغلبة واضحة لفائدة هذه "الإنسيابيّة المنهجيّة" بفعل ما يمكن أن يعتبر ردّة فعل على التّحديديّة الاجتماعية التي اعتمدت أساسا التقدّم المتجسّد في التّطور الاجتماعي والّتي  طبعت علم الاجتماع الوضعي وخاصة لدى "كونت" ولقد نبّه استكشاف الإطار الإبستيمولوجي، الذي نشأت فيه سوسيولوجيا "زيّمل"  إلى ذلك (راجع أ1 و2)

ومفاد هذا المنهج هو النظر إلى الاجتماعيّ، بما هو كائن هو نفسه، باعتباره تكثيفا للوجود الاجتماعي بأكمله. فإذا ما عدنا إلى تعريفه للمجتمع وتعريفه للظاهرة الاجتماعية أمكن أن نكتشف أن منهج "زيّمل" يتمثل، من خلال الحدس المدعّم بعدة مفاهيميّة،  في  وصف تكوّن الاجتماعي وتحلّل أشكاله متّخذا أخرى مغايرة عبر التّفاعل المتبادل بين الأفراد ثم وتحليلهما. ويحتلّ التمييز بين "الأنا الاجتماعي" و"الأنا الفردي" أهمية خاصة في هذا المنهج. ذلك أنّ الفعل المتبادل تداخل وترابط
(أو جدلية) بين الأنا الاجتماعي والأنا الفردي، بما معناه أن نقطة انطلاق كلّ تشكيل اجتماعيّ  هي التأثير المتبادل بين شخص وآخر، هما في نفس الوقت عضوين في مجتمع معيّن وخارجين عنه فعند كل فرد قدر عميق من الفردية يسمح له بالفعل داخل التّفاعل المتبادل، بالفعل كإجابة وليس كردّ فعل. ولذلك جعل "زميمّل" من الأشكال التي تتّخذها مجموعات البشر المتّحدين للعيش إلى جانب بعضهم البعض أو بمعية بعضهم البعض موضوعا لسوسيولوجياه.

إنّ ذلك يحيلنا، بعد التّعرف إلى تعريف المجتمع والظاهرة الاجتماعية والمنهج إلى تحديد المفاهيم الأساسيّة التي اعتمدها "جورج زيّمل".

د- الجهاز المفاهيمي:

يتّبع عرض المفاهيم الأساسية لمتن "جورج زيمّل" النّظري السوسيولوجيّ نسقا تطوّريا يذهب من البسيط إلى المركّب والمؤطّر.

1- الفعل الاجتماعي الأولي

هو الفعل الموجه نحو فرد آخر خلال أيّ تفاعل مجتمعيّ متبادل. ويتجسّد في الحب والكراهية والغيرة والحسد والوفاء والاعتراف بالجميل الخ… وهذه الأفعال أو الأحاسيس (وجّه "ماكس فيبر" لجورج زيّمل" حول نفسانية توجّهه) تنقسم إلى الأحاسيس الأوليّة وهي منبع الفعل المتبادل والأحاسيس الثانوية النّاتجة عن ذلك الفعل وهي الأحاسيس الاجتماعية. ولهذه الأفعال معان سوسيولوجيّة هامّة حيث أن وصف أشكال هذه الأفعال الاجتماعية الأوليّة يمثّل وصفا للتنشئة الاجتماعية وللاجتماعي. فإخفاء السرّ الفردّي دلالة على العزلة والفرادنية مثلا.

2-    الفعل المتبادل

يدخل الفعل الأولي، بفعل مجتمعيّة تجسّده، في تفاعل تبادليّ مع آخر يكون إجابة عليه (وليس رد فعل) وهو ما ينتج "الفعل المتبادل".

وله أسس ثلاثة :

· الوجود الفرديّ وحالاته،

· أشكال التفاعل بين الأفراد،

· الأحداث الموضوعية الملموسة.

وهو التفاعل الناشئ بين فردين يتبادلان الفعل الاجتماعيّ الأوليّ في إطار علاقة اجتماعيّة تتخذ شكلا قابلا للوصف. وتمكن أهميّة مفهوم الفعل المتبادل في إتاحة الإمكانية النّظرية لفهم عمل "أنظمة الأدوار الاجتماعية" التّي تخص الفرد الذي يحيا مرواحا بين قطبي "العام الإنساني" و"الفردي الخاص" وهو ما يسمح بالتّساؤل حول السّمات العامّة المشتركة بين هذه الأفعال.

وهو التساؤل الذي ينقلنا إلى مستوى المؤسسة.

3-    المؤسسة :

هي شكل اجتماعي يدير المجتمع. وهي جوهرها أفعال متبادلة دائمة متعيّنة قابلة للموضعة قابلة للتّعرف.

وفي هذه المؤسسات يحمي الفرد ويستعاض عنه بالأدوار والوظائف التّي يؤديها كممثّل ومديم للمجموعة وهي أجهزة مختصة ضرورية، قابلة، رغم ضرورتها عدد خلقها من قبل الأفراد المتفاعلين فيما بينهم، للتّحول إلى "غايات في حد ذاتها".

وذلك هو منشأ إنكارها، عند بلوغها طورا  متقدّما من تطوّرها، لمصلحة الاجتماعية، بحيث تتحول إلى جهاز منازع ومضادّ للمجموعة لبيروقراطيتها وشكلانيتها القانونية. وتمثّل الكنيسة والعائلة، والطّبقات، ومجموعة المصالح، والإدارة والجيش، أمثلة على المؤسسة بالمفهوم الذي اعتمده وحلّله ودرسه "زيمّل".

4-     تصوّرات العالم = العوالم

يمكن أن يتحدد هذا المفهوم باعتماد أحد الأمثلة الّتي درسها "زيمّل" وهو الدّين. فالجوهريّ في الظّاهرة الدّينيّة هو معرفة كيف يؤول العالم وأيّ معنى للواقع ينتج عن ذلك التّأويل. فالدّين بما هو تصوّر العالم هو توّجه نحو امتلاك الواقع مجسّد في الصورة التي تبني من خلاله. فالدّين بهذا المعنى هو شكل كبير للوجود قادر على التعبير بلغته الخاصّة على كليّة الحياة.

وعبر أمثلة أخرى مثل الفن، يلخص "زيمّل" إلى أنّ بناء الواقع كسيرورة اجتماعية بما هي تعبير للعالم هي الحياة نفسها. ومن هنا نبع المفهوم التالي.

5-     مأساة الثقافة

ينبني الإرث النظري والعلمي "لجورج زيمّل" على التعارض حياة / شكل وفي فهمه للحياة يعود "زيمّل" إلى تصورين لها وردا لدى "هيغل" و"برقسون".

فمن الأول أخذ تصور الحياة باعتبارها فكرة إذ كل صورة تستبطن مرجعية ما تمثل فكرة عن الحياة.

ومن "برقسون" أخذ العنصر الدّينامي للحياة باعتبارها نسيابا مستمرا للمعيش، دفعا خلافا ففي المعيش تتحقّق الحياة.

ولكن هذا الانسياب متعيّن في "أشكال" و"فردانيات" و"حدود". فالفكر يتموضع في أشكال سياسيّة ودينية وفنيّة … ثم يستنبطها فيما بعد فتنشأ "مأساة الثقافة.

فالموضعة تقتبل الحياة حينما تكتسب الأشكال عزلة مكتفية بذاتها. فبنية الثّقافة تتكوّن من

· ثنائية الذّات / الموضوع التي تصبح عدم توافق بينهما في ذلك الوضع المأساوي

· محتوى ثقافي يصبح وحدة وجودية دون منتج في نفس الوضع.

فالمنطق الكامن في الأشياء وتطورها الموضوعي يمثّل أساس المأساوي الثّقافي.

6-    الشّكل، نظرية الشكل:

تتابع في عنوان هذه الفقرة المفاهيم مرورا من الواحد والبسيط إلى النّظرية الجامعية والمركّبة وهو التصّور الحاصل لدى عديد السوسيولوجيين من أن نظريّة "زيمّل" في انبنائها أساسا على مفهوم الشّكل، أصبحت نظرية للشكل بما مثّل تميّزها وفرادتها. كانت تلك الفترة التاريخية هامّة في بناء علم الاجتماع وهو ما جعل المناظير تتقارب فالشكل لدى "زيّمل" يقابل : "السمات السياسية" عدد "دوركايم"

"النّموذج المثال" عند "ماكس فيبر"

" الترسّبات عند" باريتو".

مثلا وهو يقارب كل نظريّة الشّكل (القشطالت) إذا لم يكن من منابعها.

ويمكن أن تؤكد أن المفاهيم السابقة (من III 1 إلى III 5) لا ترد في نصوص "زيمّل" إلاّ باعتبارها أشكالا.

تتمثّل المهمة السياسية لعلم الاجتماع في دراسة الواقع في صيرورته وديناميّة العل فيه ولايمكن لهذا الواقع أن يكون قابلا للتعرّف والتحليل إلاّ عن طريق المفاهيم. فالواقع تنيره جملة مفاهيم تمسك بسماته النموذجية. فعلاقة موضوعيّة خارجة عن الأفراد الذّين يتبادلون، فهو إذا استثمار لمعان ذاتيّة في علاقات موضوعيّة ومن هنا كان التبادل الاقتصادي والمالي أخصّ) تمثل استثمارا لعلاقات موضوعية خارجة عن الأفراد الذّين يتبادلون، فهو إذا استثمار لمعان ذاتّية في علاقات موضوعيّة ومن هنا كان التّبادل حتى الاقتصادي منه، غير اقتصادي بل ثقافيّا عامّة.

تتمثل أهميّة هذا المثال في محوريّة الشّكل في منهج "زيمّل" وتلخيصه لمجمل ما يتناوله من ظواهر وترابط فيما بينها حتى أن نظريّته وسمت "بالشّكلية" باعتبارها ميزته ونقطة ضعفه حسب مختلف المواقف تتمثل المساهمة الرئيسة لزيمل في علم الاجتماع في مفهوم "الشكل" وقد استقاه من "كانط" وهو المفهوم الذي يشير إلى ما يمكنه أن ينظم الواقع من مقولات ونماذج أي ذلك البناء بإسقاط الأشكال النظرية والعقلية عليه لتنظيمه وتبويبه.

الشكل إذا تمثل فكري عام ومثالي قابل للتطبيق على حالات مختلفة زمانا ومكانا ولكنه غير قابل للتطبيق حرفيا على أي منها يمكّن بفعل عموميته ومثاليته من فهم أسلم البعض أوضاع الواقع. ولكنّه يختلف عن القانون. فهذا الأخير ينمذج ما تنطق به الحالات التجريبية والعينيّة من خصائص وسمات مشتركة وهو بذلك ذو صلوحية كونية. ولكن الشكل أو النموذج عند "زيمّل" بناء فكري وعقلي، يساعد على تحليل الواقع.

ويمكن للشكل أيضا أن يعيّن ما ينتج عن التفاعل الاجتماعي بين الأفراد او بين الفاعلين. فالمؤسسات، والبناءات الاجتماعية يمكن أن تسمّى أشكالا، فالقانون مثلا والعلم وهما بالنسبة إلى زيمل شكلان اجتماعيان بهذا المعنى.

هـ- المتن بين الخصوصيّة والنّقد :

1- خصوصية سويولوجيا زيمل

عرفت سوسيولوجيا "زيمّل" في فرنسا منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، وفي أسبانيا وروسيا ثمّ في الولايات المتحدة الأمريكية حيث أدخلته مدرسة "شيكاغو" سنة 1921. وتتمثل خصوصيّتها في أنها تفكير (التّبادل، الدّور، الصيرورة الاجتماعية) والفردانية من جهة أخرى (الفرد، الفعل الاجتماعي البسيط) كما برز تأكيدها على الجانب النّظري وعلى الجانب النّفساني.

ومن ناحية ثانية، تمكّن "زيمّل" عبر مختلف أعماله من أن يركّز على المسائل التي تتمظهر في الحياة اليوميّة (الأحاسيس، المال، التّبادل) ورغم الصّبغة النّظرية التي طبعت أعماله فإنه تمكنّ من بناء علم للمعيش،   علم يحاول أن يكون علم الحياة كلّها.

وقد تمكّن عبر ذلك من إخصاب العطاء الفكري الألماني لنهاية القرن الماضي وبداية القرن العشرين مساهما في تعميق ثراء علم الاجتماع في توجّه مغاير للتوجّه الدّريكايمي الفرنسي مثلا بحيث أوجد منفذا آخر لم يتمكن "قابريال طارد" من تطويره بفعل سيطرة دوركايم على الساحة السوسيولوجية الفرنسية.

ولكن هل أعفته مزاياه هذه النّقد؟

2- زيمل بين نقاده:

كنّا عرضنا آنفا للنّقد الذي وجه "ماكس فيبر" نفسه معاصر وصديق "زيمّل" ولكن النّقد الأكبر كان كما منظر من "دور كايم" الذي عاب عليه:

-   توجّهه النّفساني (بتركيزه على الفرد) وصياغاته الفلسفيّة.

أما "جورج غورفيتش" فقد عاب عليه اصطباغ أعماله بـ:

-        المثالية

-   الإسمية

-   الفردانية

ولكن "مافيزولي" اعاد له الاعتبار حيث ألّح على أن علم الاجتماع يدرس أشكال الحياة الاجتماعية بما هي حاوية متناقضة مع محتوياتها.

أما "ليفين Levin" فقد اعتبر أن الشّكلية متن يمكّن من السيطرة على تعدّدية الأشياء وكما اعتبر "لوكاتش"،  وهو معجب كبير بأعمال "زيمّل"، أن الذاتيّة ونظريّة الشّكل تمكّننا من الإمساك بالظّواهر الّتي لم تكشف بعد ويكثّفان القدرة على النّظر إلى الظّواهر الأكثر بساطة وأساسية في الحياة اليوميّة وهي تظهر التّرابط الأزليّ بين الأشكال والّتي يوحّدها المعنى الفلسفيّ الكامن فيها.

ليست هذه إلا بعض الآراء المقتضبة حول أعمال "جورج" "زيمّل" وهي كفيلة رغم ذلك بتوسيع النّقاش حول هذه الأعمال خاصة أنّها اعتبرت "التّفكير في الحداثة" والمعنى الفلسفي للحياة" إحدى اهتماماتها الكبرى.

3- بعض بحوثه وكتبه

· مأساة الثقافة وبحوث أخرى (مقدمة "جانكيلفتش")

(مترجم عن الألمانية إلى الفرنسية سنة 1988)

ويحوي البحوث التالية: الموضة/ علم الاجتماع/ الدلالة الجمالية للوحة/ المسيحيّة والفن/ الجسر والباب/ ميتافيزيقية الموت/ مفهوم مأساة الثقافة/…

· السرّ والمجتمعات السريّة

 (مترجم عن الألمانية إلى الفرنسيّة 1991)

· علم الاجتماع والابستيمولوجيا

(مترجم عن الألمانية إلى الفرنسية- مقدمة "جولبان فروند" – 1981 ترجمة ل. كاسباريني المنشورات الجامعية الفرنسية.

· المسائل الأساسية لعلم الاجتماع (مترجم إلى الفرنسية) ويحتوي البحوث التالية : مجال الاجتماع، مستوى الاجتماعي والمستوى الفردي، الفرد والمجتمع، بحث في علم اجتماع الأحاسيس…

· فلسفة المال، ترجمة س. كورنيل وب. ايفرنال، المنشورات الجامعية الفرنسية، باريس 1987.

· فلسفة الحب (مترجم إلى الفرنسية 1988)

· بحوث أخرى منها:

-   لعض الأفكار وحول البغاء حاضرا ومستقبلا.

-   حول سوسيولوجيا العائلة.

-   دور المال في العلاقات الجنسين.

-   الثّقافة النّسائيّة.

مراجع دراسة أعمال جورج زيمل :

1./ A propos de « philosophie de l"argent" de Georg Simmel ouvrage collectif, l"harmattan, Paris 1993.

2./ R.ABRON, La Philosophie critique de l’histoire, Essai sur une théorie allemande de l’histoire, Urin, Paris 1964.

3./ E. DURHEIM, Textes, t.1, Minuit, Paris 1975.

4./ F.LEFER, La pensée de Georg Simmel, Kimé, Paris 1989.

5./ K.H.WOLFF, the sociology of Georg Simmel, the frée presse, Glencoe, 1950

6./ O.RAMMSTE DT et P.WATHIER, directeurs, Georg Simmel et les science humaines, colloque (1988), Meridiens-Klincksieck, Paris 1992

7./ R.BOUDON, Georg Simmel, in, Dictionnaire de la sociologie, Encye. Univers et A.Michel, Paris 1998

المصدر: كتبها منير السعيدانى على مدونة http://mounsaid.maktoobblog.com
  • Currently 70/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
24 تصويتات / 8906 مشاهدة
نشرت فى 7 أكتوبر 2010 بواسطة sociology

ساحة النقاش

Khaled Abdel Fattah

sociology
مدرس علم الاجتماع بجامعة حلوان، أمين عام رابطة خريجى الدراسات الاجتماعية، ورئيس مجلس أمناء مؤسسة مدار للتنمية وحماية البيئة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

73,153