أنا حر..
أفعل ما أريد.. وأنت حر.. تفعل ما تريد..
وهو حر يفعل ما يريد.. وهي حرة.. تفعل ما تريد.. وهم أحرار..
يفعلون ما يريدون..
هل هذا هو المفهوم الحقيقي للحرية؟!
أن كل شخص حر.. يفعل ما يريد؟!
لو أن هذا هو مفهوم الحرية، لظهرت أمامنا صورة مخيفة للغاية،
على عكس ما يمكننا أن نتصوَّره..
أنت حر وترغب في سماع الموسيقى بصوت شديد الصخب،
ولكن جارك حر أيضا، ويريد النوم في هدوء، ويزعجه
كثيرا أن يسمع موسيقاك الصاخبة، فكيف يمكن أن يصبح
حرا في فعل ما يريد، في حين أنه يتعارض مع ما تريده أنت؟!
أنتِ حرة، ترغبين في العمل طوال الوقت،
وفي منح عملك كل الاهتمام، ووضع زوجك في المرتبة الثانية..
وهو حر في أن يقبل هذا أو يرفضه..
فكيف تحصلين على حرية العمل، وتقهرين بهذا حريته في أنه يهمَل؟!
أنتم أحرار في أن تعتنقوا ما تشاءون، فمن شاء فليؤمن،
ومن شاء فليكفر، وهم أيضا يمتلكون الحرية نفسها،
في أن يعتنقوا ما يشاءون، وفقا للمبدأ نفسه
فكيف ترفض -في عنف- معتقداتهم، وتطالبهم باحترام معتقداتك،
ما دام كل منكم حراً؟!
خلاصة كل هذا أننا نطالب دوما بالحرية..
ولا نفهم أبدا ما تعنيه الحرية..
المفهوم -ككل الأشياء الأخرى- مختلط بشدة، ومرتبك في عنف،
داخل عقولنا وعواطفنا..
ربما لأننا لم نفهمه..
أو لم نحاول فهمه..
أو لأننا لم نمارسه..
ولم نتعلم ممارسته..
أو الأخطر.. أننا نرفض ممارسته..
فالحرية أيها السادة مفهوم كبير وعظيم وهائل وجميل للغاية..
الحياة الحقيقية هي أن يحيا الكل حراً، لا كفرد،
ولكن كمجتمع، فكما قالوا قديما، وباختصار شديد
" أنت حر.. ما لم تضر"
وهذا المفهوم وحده ليس بسيطا كمنطوقه،
وإنما هو شديد الصعوبة في مفهومه..
فحدود حريتك في المجتمع والقانون والدين،
وفي أي مكان في الكون يمارس أقصى درجات الديمقراطية،
هي أن تمارس كل ما تريد، وتعتنق ما تريد،
ثم تتوقف تماما عندما تصل إلى حرية الآخرين..
وأن تعرف متى وكيف وأين تتوقَّف..
وهذا أمر شديد الصعوبة، أكثر حتى من كل ما يمكنكم أن تتصوروا..
عندما عاد رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) من إحدى الغزوات،
قال لمن حوله: "إنهم قد عادوا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر،
فلما سألوه عن الجهاد الأكبر، أجابهم بأنه جهاد النفس"..
جهاد تلك النفس الأمَّارة بالسوء، النزَّاعة إلى العنف،
المنطلقة بلا رابط أو كابح أو عِقال..
وهذا يعني أن أكثر ما تثاب عليه هو جهاد نفسك..
لأنه الجهاد الأكبر..
والأعظم..
فما هو في رأيك ومفهومك جهاد النفس؟!
وما هي الحرية؟!
المفهوم البدائي الساذج لجهاد النفس،
هي أن يمنع الإنسان نفسه عن المعاصي الكبيرة فحسب..
أن يكف يده عن السرقة..
أن يصون نفسه من الزنا..
أن يمنع ذراعه من القتل..
وهلمَّ جرا..
ولكن هذا جهاد واضح وكبير، ولكنه سهل على الإنسان العادي؛
لما في أعماقه من نزعة طبيعية تمنعه من ارتكاب كل هذا،
ولمَا في فطرته من نفور لكل ما يؤذي من حوله صراحة..
ولكن ماذا عن تلك الأمور الصغيرة،
التي نمارسها كل يوم في إصرار،
وهي في واقعها صورة عنيفة لضعف القدرة على جهاد النفس،
وللعدوان السافر على حرية الآخرين؟!
أنت تبغض جارا ما، لسبب ما، ويتعرض هذا الجار للإيذاء من شخص ثالث
أو شيء ما، وأنت تشاهد ما حدث، وتدرك أن جارك لم يكن المخطئ،
ولكن ضحية للآخر..
وأنت تشعر بميل أو استلطاف كبيرين تجاه هذا الآخر..
فما هو جهاد النفس في هذه الحالة؟!
أنت تساعد الشخص الذي تميل إليه؛ لأنك تكره جارك؟!..
أم تقف على الحياد، باعتبار أن هذا هو العدل؟!..
الواقع أن الإجابتين خطأ؛ لأن جهاد النفس الحقيقي
هو أن تقف مع جارك الذي تبغضه، ضد الشخص الذي تميل إليه..
لأنك في هذه الحالة لا تقف مع جارك..
بل مع الحق..
ترى هل يصعب عليكم فهم هذا واستيعابه؟!
وهل يصعب عليكم تنفيذه في موقف مماثل على أرض الواقع؟!..
بالتأكيد هذا صعب جدا..
وعسير جداً..
ومرهق جداً..
ومخيف جداً..
ففي موقف كهذا، قد تفقد شخصا تميل إليه، في سبيل شخص تبغضه..
وهذا صحيح..
قد يحدث ما تخشاه..
بل إنه سيحدث على الأرجح..
ولكن هذا هو جهاد النفس..
وهذا ما تثاب عليه..
أن تفعل ما لا تحب؛ فقط لأنه الحق..
ولأنه العدل..
ولأنه ما أمرك به الخالق عز وجل..
ولو أعدت حساب الأمر، لما وجدت أنك قد خسرت..
بل لقد ربحت الكثير في الواقع..
والكثير جداً..
لقد ربحت ثوابا وقوة وثقة بالنفس،
واعتزازا بمصداقيتك في أحلك الظروف..
وربما ربحت جارا صديقا أيضا..
فعندما تدفع بالتي هي أحسن،
تجد مَن بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم..
هذا ما أخبرنا به سبحانه وتعالى..
وهذا ما نؤمن به..
أو ما ينبغي أن نؤمن به..
ولكننا -كما يبدو واضحاً- لا نطبقه أبداً..
في زماننا هذا، صرنا نتعصَّب لكل شيء..
وأي شيء..
فنغضب..
ونثور..
ونخطئ..
ويسقط فينا جهاد النفس..
وينهار شعورنا بالحرية..
ومن لا يؤمن بالحرية، التي منحها الله عز وجل لكل مخلوقاته،
حتى من شاء أن يكفر منهم، فقد صار عبداً..
وليس عبدا للخالق الذي عصاه..
بل عبدا للبشر..
ولنفسه..
نفسه الأمَّارة بالسوء، والرافضة للحرية
ساحة النقاش