من الطبيعي أن المرأة البدوية ليست معزولة عن العالم، وليست معزولة عن الحياة الاجتماعية بكل أنواعها، بل هي جزء لا يتجزأ من تلك الحياة تشارك فيها في السراء وفي الضراء، وفي المناسبات المختلفة، وهي تكاد لا تترك أمراً اجتماعياً للمرأة دور فيه، إلا وتشارك فيه، ويكون لها دورها البارز والهامّ في معظم هذه الأمور، وهي بحق النصف الآخر الذي بدونه تفقد الحياة معناها، ويصدق المثل الشعبي الذي يقول: "النسوان أمهات الرجال"، والأدوار الاجتماعية التي تشارك بها المرأة البدوية كثيرة ومتعددة ولعلّ من أهمها:
عيادة المرضى: تقوم المرأة بعيادة المرضى من أهلها وأقاربها وصديقاتها، وهذا واجب عليها لا تتخلّى عنه، وقد تكون ملزمة في بعض الأحيان بعمل هذا الواجب كنوع من الدين في مثل هذه المجاملات، خاصة إذا كانت بعض النسوة قد عُدْنها من قبل في مرضها أو في مرض أحد أفراد عائلتها.
زيارة من تلد من صديقاتها: وهي تقوم كذلك بزيارة من تلد من نساء أقاربها أو أهلها، أو جيرانها إذا كان بينها وبينهم شيء من المجاملة ، وتأخذ معها عادةً "غداء" وهو عبارة عن نقوط معين غالباً ما يكون ديكين من الدجاج أو ثلاثة، خاصة وأن النفساء بحاجة إلى تناول بعض اللحوم والثريد المفتوت بشوربة الدجاج لكي تستعيد بعض عافيتها بعد الولادة، وفي بعض الأحيان تأخذ لها تلك الديوك مطبوخة وساخنة في طنجرة حتى تريحها من عملية الطبخ التي تحتاج لشيء من الوقت، وهي تساعدها أحياناً في طبخ وإعداد "المختوم" الذي يُعَدُّ من العجوة والمربَّى وزيت الزيتون.
مناسبات الختان: وكذلك الحال بالنسبة لحالات الختان (الطهور) لأبناء الأهل أو الأقارب والجيران فهي لا تتأخر عن تأدية الواجب وتهنئة أم الأولاد الذين اختتنوا وتشاركها بفرحتها هذه، وغالباً ما تأخذ معها بعض الأشياء لأنها تخجل أن تذهب ويدها فارغة لأن: "الإيد الفارغة نجسة".
المشاركة في الأعراس: وهي تشارك في حفلات الغناء في الأعراس , حيث تجلس النساء في ساعات المساء في بيت أهل العريس أو العروس في مجموعات، كلّ مجموعة تتكوّن من 4 أو 5 نسوة، ويغنين من أغاني ذلك الوقت أو "يُقَطِّرْنَ" والتقطّر هو نوع من الغناء القديم , وقد اختفى تماماً الآن ولم يعد هناك من يسمع به بعد موجة الأغاني الحديثة الأكثر صخباً.. وهي ترقص أيضاً إن دُعيت إلى ذلك أو ربما تبادر هي إلى الرقص مع باقي النسوة، وقد تسحب إحدى النساء من يدها لترقص معها، فتنطلق الزغاريد معلنة عن تلك الفرحة، وقد تفخر إحداهن بزغاريدها إذا كان صوتها عالياً وله رنّة مميزة.
المساعدة في العجن والخَبْز: وهي تساعد في العجن والخَبْز مع جاراتها أو قريباتها، حيث تعجن صحناً كبيراً وتخبزه على الصاج وتبعثه جاهزاً إلى صاحبة العرس التي لا تستطيع أن تعجن وتخبز تلك الكمية الكبيرة التي يحتاجها العرس من الخبز، حيث يحتاج العرس من 400 إلى 500 رغيف من خبز الصاج لعمل المناسف أو أكثر من ذلك حسب عدد الحضور، ولا تستطيع بطبيعة الحال امرأة واحدة أن تخبز هذه الكمية الهائلة بمفردها، فتقوم صاحبة العرس بتوزيع صحون الطحين على جاراتها وقريباتها حيث يقمن بعجنه وخبزه وإرساله جاهزاً إلى صاحبة العرس.
المشاركة في المآتم: وتشارك المرأة في التعازي والمآتم، فإذا توفي أحد الناس من الأقارب أو أحد الذين تربط عائلتها بهم علاقات مجاملة، فهي تذهب مع بعض النسوة أو بمفردها، وقبل أن تصل البيت بقليل تعجّ الصوت بصرخة مدوية وقد تمزق جيب ثوبها، وفي صرختها تلك دليل على قدومها حتى تنتبه النساء لوجودها وأنها حضرت ولم تتأخر عن المشاركة في التعزية والمواساة، وهناك تشارك في البكاء مع بقية النساء، أما إذا فقدت عزيزاً عليها قبل ذلك الوقت فتكون الفرصة ملائمة لصراخها عليه، أما إذا جلست ولم تشارك في البكاء فهي شامتة، "تستنّى عليهم الساعة" لذلك فهي مضطرة للمشاركة في البكاء والعويل أو النواح في بعض الحالات.
العونة: وهي تساعد في الحصاد في أيام الصيف في "يوم عونة " خاصةً في نهاية الموسم، فإذا تأخرت بعض العائلات في حصادها تهبُّ عائلات أخرى من أقاربهم لمساعدتهم في حصد ما تبقى لديهم من الزرع حتى يكون الجميع قد أنهوا ذلك الموسم بسلام وتكون الفرحة عامة للجميع.
المساعدة في الغزل والنسيج: وهي تساعد أيضاً في غزل الشَّعْر والصوف، وتساعد في "مدّ الشُّقَّة " أو "المعند" أو البساط، وتنسج مع جارتها أو قريبتها يوماً كاملاً، وقد يصل طول ما تنسجه في ذلك اليوم إلى ذراعٍ ونصف الذراع أو ذراعين، وبذلك تكون قد أعانت صديقتها وأراحتها يوماً كاملاً، خاصة وأن عملية النسج هذه مرهقة ومتعبة وتستغرق أسبوعين أو أكثر.. وطبيعي أن تعمل لها صاحبة البيت غداءً دسماً مكوناً من لحم الدجاج البلدي والفَتّة الشعبية المعروفة.
المساعدة في عمل السمن أو اللبن: وربما ساعدت جارتها أو قريبتها في تحضير "العفيق" وهو كرات اللبن الجامد، أو في غلي الزبدة لتعمل منها السمن البلدي المعروف، أو غير ذلك من الأمور المنزلية المختلفة.
ورود الماء: وهناك نشاط اجتماعي آخر تشارك به المرأة البدوية، وهو ورود الماء إما على الغدير، أو على البئر " الهَرَابَة "، وكانت النساء يلتقين في مجموعات على "الهَرَابَة" أو الغدير حيث يملأن الجرار ويتحدثن في أمور الساعة. وهناك مثل عامي يقول: "العِلْم بيجيبنّه الوَرَّادات". والعِلْم هنا بمعنى الخبر، أي أن الأخبار تتناقل وتنتشر عن طريق واردات الماء اللاتي يلتقين على البئر أو الغدير وبذلك يشكّلن وكالة أنباء فريدة من نوعها. وقد يكون من بين هذه الأخبار نقل مواصفات فتاة ما ومقدار ما تتحلّى به من الجمال والأخلاق إضافة إلى طيبة الأهل وعراقة الأصل، مما يجعل الخاطبين يتسابقون على طلب يدها من أهلها ولا يمضي وقت طويل حتى تتزوج، وقد تعمد بعض النساء إلى أخذ ابنتها معها حيث تراها بقية النسوة وينقلن مواصفاتها لأزواجهن أو أهلهن وبذلك يفتح أمامها باب الزواج على مصراعيه.
التخبيز: التخبيز هو الذهاب في مجموعات لقطف أوراق نبتة الخبيزة في أوائل فصل الربيع، والخبيزة من الأطعمة المفضلة عند المرأة البدوية، وهي لا تستطيع مقاومة إغرائها فتلاحقها وتقطف أوراقها من قرب البيت أو من الأماكن القريبة الأخرى، وإذا كان مكانها بعيداً بعض الشيء تخرج مجموعة من النسوة للتخبيز، حيث تملأ كل واحدة منهن منديلها وتعقده وتضعه على رأسها وتعود لتعمل منه ما تحبه نفسها وتشتهيه وهي تلك الطبخة الخضراء اللذيذة. ولا يفوتنا أن نذكر أن في لقاء النسوة ما يشابه لقائهن عند ورود الماء من نقل الأخبار والمواصفات وأخبار الزواج وغيرها.
الحديث عند الجارات: وقد تملّ المرأة أحياناً من مكوثها طيلة الوقت في بيتها، فتخرج لـ"تتخرّف" أي تتحدث عند بعض جاراتها حيث تقضي لديها عدة ساعات، ثم تعود لبيتها أكثر نشاطاً وتعاود مزاولة أعمالها المنزلية، ولكن الإفراط في هذه العادة أمر غير مستحبّ، وإذا أكثرت المرأة من ترك بيتها وزيارتها للبيوت، يقال عنها "ذوّاحة"، أي كثيرة التنقل بين البيوت، يقال ذاحت فلانة على البيت الفلاني، والذَّوْح في اللغة يعني السير الشديد، وكأنها لا تفتأ تمر مرّاً سريعاً من بيت لآخر، ويقال عنها أيضاً: "بيتها ما بيمسكها"، وكذلك "مشت تتطقّل عند الجيران"، وتتطقّل مثل تتسكّع أو تتطفّل بزياراتها المتكررة المملة. وهناك بعض النسوة يذهبن لنقل الأخبار فلا تكاد المرأة تسمع بخبر ما حتى تذهب لجاراتها لتبثّه هناك وسرعان ما ينتشر خبره في كل مكان. وعن المرأة التي تنقل الأخبار يقال: "نقّالة قالة"؛ من القيل والقال، وإذا سمعت خبراً "تَحُطّه في الجُرْبَان وتَحُوم فيه كُلّ العُرْبَان". أما المرأة كثيرة "القالة" فلا يعتمد كلامها وإذا انتشر خبر يسألون عن مصدره فإذا قالوا مصدره من فلانة فيقال عندها: "اتركوه ولا ينقله أحد" لأنها ليست محل ثقة وأخبارها غير معتمدة، ولا تتمتع بنسبة كافية من الدقة والصدق.
وتجدر الإشارة إلى أن عمر المرأة له تأثير كبير على نشاطاتها الاجتماعية، فعندما تكون عروساً حديثة عهد بالزواج، أو عندما تكون في بداية شبابها، لا يسمح لها الزوج أو الأهل بزيارة الجيران أو حتى الأقارب، لأن الرجل يغار على امرأته وعلى عِرضه بشكل عام، ويرى في بقائها في منزلها نوع من المحافظة على هذا العِرض، ويجدر بالمرأة وهي في مثل هذه السن أن تصون نفسها وأن يكون بيتها هو مقرها الذي لا تبرحه إلا للضرورات، وهي بذلك تكسب ثقة الزوج والأهل وتكون قريبة من أطفالها تربيهم وترعاهم وتحافظ عليهم بشكل دائم.
وعندما تكبر المرأة وتتخطّى مرحلة الشباب ، ينظر إليها كامرأة كبيرة، وكأمّ لها مكانتها الاجتماعية، ولا يمكنها التأخّر والحالة هذه عن تأدية الواجب والمشاركة في معظم المناسبات المذكورة .
ويرى بعض الباحثين أن علاقات المرأة الاجتماعية تشبه دائرة، تكون صغيرة وضيقة في بداية الأمر، لأن الفتاة لا تشارك في معظم الفعاليات الاجتماعية التي ذكرنا، ثم لا تلبث هذه الدائرة أن تكبر وتتسع بعد زواج المرأة ومشاركتها في الفعاليات المذكورة، ثم تعود تلك الدائرة لتضيق تدريجياً عندما تتقدم المرأة في العمر وتكفّ عن المشاركة في بعض المناسبات كالأعراس والختان لأنه لم يعد لديها أولاد صغار تنتظر ختانهم أو زواجهم، ولا تشارك في زيارة من تلد من النساء لأنها لم تعد تحمل وتلد، وهكذا..
وفي النهاية أتمنى لكم التوفيق على أمل اللقاء بكم في مقال آخر.
ساحة النقاش