ربّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري
وردت هذه القصة في الآيات الكريمات 11- 21.
مدّت السيدة عائشة رضي الله عنه يدها الى عنقها تتلمس بحركة لا شعورية عقدا يزينه فلم تجده, واعتقدت أنه انسلّ من عنقها حيث كانت تقضي بعض شأنها بعيدا عن معسكر المسلمين الذين قد غادروا المكان لتوّهم عائدين من غزوة بني المصطلق , فذهبت الى حيث كانت لتتفقد العقد ظنا منها رضي الله عنها انها أنه لا يزال هناك متسع من الوقت عن الرحيل, فالقوم لا يزالون يستعدون لرفع الخيام وحزم امتعتهم, وقصدت رضي الله عنها المكان الذي كانت فيه لتجد العقد وقد تناثرت حباته هان وهناك, وما أن لملمت حباته وعادت حتى فوجئت بالقوم وقد رحلوا, وكان الظلام قد هبط وعمّ الأرض كلها , فشعرت بالخوف الشديد والرهبة والوحشة , فجلست في مكانها وجمعت عليها ثوبها واستسلمت لما يقضي الله عزوجل في أمرها, وهي تُعزي نفسها بأنّ القوم لا بدّ وان يكتشفوا غيابها من هودجها فيعودون اليها.
كان الظلام دامسا, ونسيم الصحراء القارس ليلا يسفعُ الوجوه سفعا, ويكاد يُجمّد الأطراف من شدة البرد, عدا عن عواء بعض الوحوش الشاردة الذي يرهب القلوب, فقضت رضي الله عنها بعض الوقت مستسلمة لقضاء الله وقدره تنتظر فرج الله سبحانه وتعالى.
ويسوق الله تبارك وتعالى اليها صحابيا جليلا كريما هو صفوان بن المعطل السلمي, رضي الله عنه وأرضاه, وكانت وظيفة هذا الصحابي الجليل أن يقوم بما عهد به اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تفقد جيش المسلمين بعد رحيله في كل مكان يكون الجيش معسكراً فيه, وكان رضي الله عنه ينظر دائما في الأماكن التي ينزل بها الجيش للراحة بعد الرحيل, فلعلهم تركوا شيئا وراءهم أو نسوا شيئا, وجلّ من لا ينسى , او لعلّ عدوهم يتبِّع أثرهم احتياطا وحرصا.
وبينما هو يقوم في مهمته اذ لمح شخصا مُلتفا في ثيابه, مستغرقا في نومه, فنزل رضي الله عنه عن ناقته واتجه نحوه يمشي على مهل وئيدا خشية أن يُفزعه أو يُخيفه, واذا يتبيّن له أنّ الشخص الملتف بثيابه لم يغادر أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها, وكانت المفاجأة المذهلة التي لم يستطع معها كتمان صرخة , فقال بصوت عال: انا لله وانا اليه راجعون , ظعينة رسول الله!!!!! صلى الله عليه وسلم, فاستفاقت رضي الله عنها مذعورة على ترجيعه وصوته, وخمّرت وجهها بجلبابها ولم تنبس ببنت شفة, فقال رضي الله عنه: ما خطبك؟ يرحمك الله!!!! فلم ترد عليه جوابا حياءً وخجلا, فالواقعة بحد ذاتها تعقد اللسان عن الكلام, عندها قدّم اليها راحلته فركبتها, واخذ بزمام الراحلة ومضى راجلا يطلب جيش المسلمين , وما التفت رضي الله عنه اليها قط, ولا حدثها حديثا يُسليها فيه أو يخفف عنها مصيبتها من همٍّ وغمٍّ أصابها, ولم يدرك رضي الله عنه القوم الا في اليوم الثاني وكان النهار قد انتصف مع حلول الظهيرة.
وما أن اجتمعت بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى بادرها صلى الله عليه وسلم بالسؤال: ما خطبك وفيم تخلفت؟
أجابت رضي الله عنها: سمعتك ليلة الأمس تؤذن القوم بالرحيل, فذهبت لقضاء بعض شأني , ولما عدت الى رحلي تفقدت عقدي, فاذا هو قد انسلّ من عنقي , فذهبت في طلبه, ولما عدت وجدت القوم قد ارتحلوا, ما فيهم داع ولا مجيب, فتلفعت في ثيابي , ولزمت مكاني , لعلكم اذ تفقدونني فلا تجدونني تعودون في طلبي , ثم ضرب الله على أذني فنمت, وما استيقظت الا على صوت صفوان.
وصدّقها رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولم يخالجُهُ صلى الله عليه وسلم أدنى شك فيما قالت, انها ابنة الصديق في شرف منبتها, وطهارة عرقها وأصلها, انها ابنة صاحبه في الغار, وابنة رفيقه في الهجرة رضي الله عنهما.
لكن عصبة السوء وجماعة الافك والكذب والافتراء ما أن رأوها على الراحلة التي يُمسك صفوان بزمامها مقبلين من الصحراء حتى أطلقوا العنان لألسنتهم تنفث سمها الزعاف, وتبدي حقدها, وأخذوا يتخوضون الكذب , ويقعون في عرضها ويتهمونها في شرفها رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
وكان اللعين عبد الله بن أُبَيُّ بن سلول, رأس النفاق والشرك, وزعيم تلك العصابة الباغية, والذي حين رآها حتى قال مقالة السوء : والله ما نجت منه ولا نجا منها....يقصد صفوان رضي الله عنه.
وانتشرت مقالة السوء بين النفوس الضعيفة وعلى ألسنتها انتشار النار في الهشيم, حتى أنّ مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت شاعر النبي صلى الله عليه وسلم, وزيد بن رفاعة وحمنة بنت جحش رضي الله عنهم كانوا من أولئك النفر الذين تابعوا ابن أبي بن سلول في مقالته وأشاعوها بين الناس , يفيضون عليها ويزيدون ويُزيّنون به حتى بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم , ومسّ أذنيّ أبوها رضي الله عنه, وباتت حديث الصغير والكبير , القاصي والداني, وظلّ القوم في هرجٍ ومرجٍ , واتهامٍ ودفاعٍ , وشكٍ ويقينٍ , حتى بلغوا المدينة المنورة, وكل هذا والسيدة عائشة رضي الله عنها لا تعرف شيئا عن ذلك , وهي صاحبة الشأن والقصة, ولم يبلغها أيّ كلمة مما خاض فيه الناس.
ولحكمة جليلة لا يعلمها الا علام الغيوب, لم تمض أيام قليلة حتى داهمتها حمى شديدة ألزمتها الفراش, وترقبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلبا عطوفا, ووجها باسما, ويدا حانية, ومداعبة لطيفة كما عودها, الا انها لم تظفر بشيء من ذلك, الأمر الذي زاد في أساها وحزنها وعلتها, لم تكن لترى منه صلى الله عليه وسلم سوى نظرة قصيرة خاطفة, وسؤال فيه جفاء: كيف تيكم! دون أن يذكر صلى الله عليه وسلم حتى اسمها رضي الله عنها.
اشتد الكرب عليها رضي الله عنها اشتدادا عنيفا مدمرا, وكانت تساءل نفسها: ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرق لحالها! لا يرثي لمرضها! لا يجفل بشأنها! ولم تسأله في ذلك, ووما زاد أمرها سوءا عندما استأذنته صلى الله عليه وسلم بأن اتذهب الى بيت أبيها, فتمرضها أمها وتقوم على خدمتها, وعندما أذن لها صلى الله عليه وسلم زاد في تعجبها وتساؤلها وتفاقم همومها.
أقامت في أحضان أمها أم رومان رضي الله عنهن بضعا وعشرون ليلة واستعادت بعض عافيتها وهي لا زالت لا تدري شيئا عما يحدث خارج جدران الدار من زلزلة وعواصف هي محورها وسمعتها وشرفها وقطب رحاها.
ذات ليلة خرجت رضي الله عنها الى فسح المدينة بعيدا عن دار اهلها لقضاء حاجة ترافقها أم مسطح بن أثاثة رضي الله عنهم, وبينما هما تمضيان في طريقهنّ تعثرت أم مسطح رضي الله عنها وكادت أن تسقط ارضا, فقالت: تعس مسطح , فانتفضت أم المؤمنين رضي الله عنها وقالت لها: بئس لعمر الله ما قلت في رجل شهد بدرا, فقالت لها: أو مابلغك الخبر يا ابنة أبي بكر؟ أجابت رضي الله عنها: وما الخبر يا ام مسطح؟ فحدثتها بما كان وما تقوّل به ابنها مسطح وحسان بن ثابت وما أذاعه وأشاعه عبد الله بن سلول , وما تزيدّت فيه حمنة بنت جحش رضي الله عنها.
فنزل الخبر على قلبها الطاهر رضي الله عنها نزول الصاعقة, فأزبد وجهها وعلته حمرة الغضب , وارتجت أطرافها , ثم ما لبثت أن تماسكت وقالت: أكان هذا؟ أجابتها أم مسطح: نعم والله كان, فقالت رضي الله عنها: هيّا بنا نعود.
ودخلت رضي الله عنها الدار وانتحت احدى نواحيه واتكأت تبكي حسرة وألما وكمدا حتى لم يعد يرقأ لها دمع ولا تجف لها عبرة في لوعة وحرقة, واتتها امها تواسيها ولا تدري أنها قد بلغها خبر ما أسرته عنها وكتمته, فقالت لها رضي الله عنها: يغفر الله لك يا أماه, تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا؟ أجابتها أمها رضي الله عنها: أي بنيّة! خففي عنك الشأن وهوّني! فو الله لقلما كذبت امرأة حسناء عند رجل يحبها ولها ضرائر الا اكثرن عليها.
وانقضى شهر, ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال في حيرة من أمرها, وريب من قصتها, ودوامة من الأوهام, تقض عليه مضجعه ومنامه, وتؤرق سهاده, وتبلبل يومه وشأنه, يتطلع الى الوحي, ويتشوق الى الرؤيا, عله يجد فيهما فرجا مما هو فيه من ضيق النفس وهمّ البال, ومخرجا من حالة القلق.
اذا كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الله تبارك وتعالى على الاطلاق يعيش لحظات قلق وترقب لأكثر من شهر من الزمن بساعاته ودقائقه وثوانيه, فما نحن فاعلين نحن المغموسين ذنوبا من رؤوسنا حتى أخمص قدمينا؟
وانقضى اليوم الأول بعد الشهر ولا ينزل وحي السملء عليه السلام ولم تتح الرؤيا له صلى الله عليه وسلم, فمال الى استشارة الأصحاب, واستفتاء الخلص, وسأل صلى الله عليه وسلم أول ما سأل أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش, وعلى الرغم من أنّ زينب هي أخت حمنة وضرة السيدة عائشة رضي الله عنهنّ, الا أنها شهدت فيها خيرا وقالت قولة الحق: أحمي وسمعي وبصري يا رسول الله, والله ما علمت عليها الا خيرا.
ثم سأل صلى الله عليه وسلم حبّه وابن حبّه أسامة بن زيد رضي الله عنهما, فقال: يا رسول الله! سل جاريتها بربرة تصدقك الخبر.
وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بربرة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت شيئا يريبك؟ فقالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت منها أمرا أغمضه (أعابه) عليها قط, أكثر من أنها جارية حديثة السن, تنام على العجين فتأتي الداجن فتأكله.
هكذا استشار النبي صلى الله عليه وسلم من حولهو وبعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاستشارة والاستطلاع, ولم ير من أحد من يعيب الطاهرة المطهرة رضي الله عنها أو يؤذيها حتى بكلمة, خرج الى المسجد واعتلى المنبر مغضبا, وبعد أن حمد الله تبارك وتعالى وأثنى عليه, قال عليه الصلاة والسلام: أيها الناس! ما بال رجال يؤذونني في أهلي, ويقولون عليهم غير الحق, والله ما علمت منهم الا خيرا, وقد ذكروا رجلا ما علمت منه الا خيرا, وما يدخل بيتا من بيوتي الا وهو معي.
ثم ذهب عليه الصلاة والسلام الى عائشة في منزل أبيها فوجدها تبكي, ووجد عندها امرأة من الأنصار تبكي معها, وعندها أبواها رضي الله عنهم أجمعين, فسلم عليها ثم قال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة! انه قد كان ما بلغك من قول الناس, فاتقي الله, فان كنت قد فارقت سوءا بما يقول الناس فتوبي الى الله يقبل التوبة من عباده.
ولم تجبه رضي الله عنها, بل التفتت الى أبيها وقالت: اجب عني رسول الله.
فقال رضي الله عنه: والله ما أدري ما أقول.
فالتفتت الى أمها وقالت: أجيبي عني رسول الله, فقالت أمها ما قاله أبوها رضي الله عنهم.
وحين لم ترى من أبويها قولا يدفع عنها التهمة ويمزق خيوط الشك والريبة التي نسجت حولها, نطقت وقالت: والله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في هذه الآيام, ثم أجهشت في البكاء وخنقت صوتها الدموع والعبرات, واردفت تقول: والله لا أتوب الى الله بما ذكرت أبدا, والله اني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس, والله يعلم اني لبريئة, لأقولنّ ما لم يكن, ولئن أنكرت ما يقول الناس لا تصدقوني, وعادت الى بكائها وحاولت أن تتذكر اسم يعقوب عليه السلام فلم تسعفها الذاكرة وهي في هذا الوضع المأساوي التي هي فيه فقالت: ولكني أقول لكم كما قال أبو يوسف: فصبر جميل , والله المستعان على ما تصفون
وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسكت أبوها واجما, وتنهدت أم رومان رضي الله عنهم, وبينما هم على تلك الحال حتى تغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه حين نزول الوحي عليه السلام, فسجّي في ثوبه صلى الله عليه وسلم, ووضعت وسادة تحت رأسه صلى الله عليه وسلم, عندها علمت عائشة رضي الله عنها بأنّ الوحي سيفصل في أمرها, ويجلو غامض الشك عن قضيتها التي شغلت الناس مدة, وآذت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه أذى بليغا, فترقبت رابطة الجأش, مطمئنة النفس, واثقة بأنّ الله تعالى ومن فوق سبع سموات سيبرئها.
أما أبواها رضي الله عنهم ما كادا يحسان بنزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب قلبيهما ومادت الأرض تحت أقدامهما, مخافة أن يصدق الوحي حديث الناس بالسوء وتكون الكارثة والطامة الكبرى.
ثم سري عنه صلى الله عليه وسلم وقطرات العرق تنحدر من جبينه الطاهر الشريف مثل حبات اللؤلؤ فنزيده مهابة واشراقا, سري عنه وهو صلى الله عليه وسلم يبتسم وينظر الى زوجه رضي الله عنها ويقول: أبشري يل عائشة, لقد أنزل الله تعالى براءتك في قرآن يتلى بين الناس, ثم أخذ صلى الله عليه وسلم يقرأ آيات الله البينات:
انّ الذين جاؤوا بالافك عصبة منكم, لا تحسبوه شرا لكم, بل هو خير لكم, لكل امرىء ما اكتسب من الاثم, والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم... ولما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة الآبات الكريمات انشرح صدر أبي بكر وتنفست أم رومان رضي الله عنهما الصعداء.
وأقسم ابو بكر رضي الله عنه ألا يصل بعد اليوم مسطح بن أثاثة فلا يعطيه كما كان يعطيه من قبل, ولا يكلمه لمقابلته الاحسان بالاساءة, فانزل الله تبارك وتعالى آيات بينات هي تتمة حديث الافك في سورة النور يحضّ على الصلة والبر والاحسان بقوله عزوجل: ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولوا القربي والمساكين والمهاجرين في سبيل الله, وليعفوا وليصفحوا , ألا تحبون أن يغفر الله لكم, والله غفور رحيم.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى أحبّ أن يغفر الله لي, وعاد الى سابق عهده من الخير والصلة وكفّر عن يمينه.
لاتنسونا من دعوةٍ خفيةٍ بظهر الغيب ولكم مثل أجرها ان شاء الله تعالى.