هناك شخصيات في التاريخ تزداد رسوخاً كلما مرت السنوات والقرون، ويزداد تأثيرها عاماً بعد عام، وفي تاريخنا الإسلامي عشرات الشخصيات المؤثرة واللامعة، وأبرزهم الفقيه أحمد بن حنيل، الذي كان موضوعاً لرسالة الدكتوراه من جامعة هيدلبرج بألمانيا للمستشرق الأميركي ولتر ملفيل باتون، ونشرت أول مرة سنة 1897 وظهرت ترجمتها الى العربية في عام 1958 وأعيدت طباعتها مؤخرا
الرائد
للوهلة الأولى يبدو الإمام أحمد بن حنبل رائداً للسلفيين العرب وفي العالم الإسلامي كله، أو رائداً للتشدد الذي يصل الى التزمت عند البعض، لكن صورة ابن حنبل في التاريخ وفي عصره ليست كذلك، فقد عاش في القرن الثاني الهجري حيث ولد في شهر ربيع الأول سنة 164 هجرية في مدينة بغداد وبدأ طلب الحديث وهو في سن الخامسة عشرة من عمره، وهي نفس السنة التي توفي فيها الإمام مالك بن أنس، وقد تأسف انه لم يجتمع به ويتلقى العلم على يديه
وفي طلب الحديث رحل الإمام أحمد الى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام والعراق، واجتمع بالامام الشافعي وأخذ عنه الفقه وأصوله، ولولا المحنة التي مر بها لربما مضت حياته وذكراه بشكل عادي، فهو لم يترك مؤلفا كبيرا سوى “المسند” ولم يكن مهتماً بأن يؤسس مذهباً لنفسه، فالأغلب أن هذا المذهب اهتم به محبوه وتلاميذه من بعده، وأخذوا ينظرون له ويضعون قواعده. وغير “المسند” ترك الإمام احمد عدة رسائل صغيرة، لم يكن بعضها قد ظهر وقت إعداد هذه الدراسة
وسوف نلاحظ الفارق الثقافي بين المؤلف ابن الثقافة الغربية والثقافة العربية الإسلامية التي يتناول رمز من رموزها، فما تحدث عنه المؤرخون والفقهاء المسلمون بشأن المحنة التي مر بها ابن حنبل، يراها هو حالة من الاضطهاد الديني والفارق كبير بين المعنيين، المحنة في اللغة العربية تعني الابتلاء، ومن ثم لا ترتبط غالباً بالمعتقد الديني، بل بأمور دنيوية مثال المرض أو الفقر أو ظلم الحاكم للمحكوم. لكن محنة ابن حنبل كانت مختلفة في نتائجها ويمكن أن نقول إنها كانت ذات أثر إيجابي بالنسبة للإسلام والمسلمين، وإن كانت ابتلاء لشخص الإمام أحمد
وتعود المحنة الى عام 218 هجرية، حين بدأ الخليفة المأمون امتحان الناس بالقول بخلق القرآن الكريم، وابتداء من هذه السنة يبرز اسم الإمام أحمد كعالم كبير ومؤثر في الناس، وكان المأمون قد اعتزم أن يذهب الى الامام أحمد ومعه عدد من علماء الفقه وشيوخ الحديث ليختبرهم في مسألة خلق القرآن، لكن نصح المأمون من قاضي القضاة أحمد بن ابي دواد بألا يجمع أحمد بن حنبل مع هؤلاء العلماء، حتى لا يتأثرون بقوله ويرددون ما يراه، وهذا يعني أنه كان مؤثرا بين كبار العلماء، وأنهم كانوا يستمعون اليه، وظل الإمام على موقفه
التعذيب
وكان المأمون قد كتب الى عامله في بغداد بضرورة اللين والصبر مع الإمام أحمد، لكن معاملة الخليفة المعتصم له كانت مختلفة، فقد استدعى الإمام أحمد ليختبره مجدداً ولم يخفه تهديد الخليفة ووعيده، ولا اهتز لمحاولة استمالته من الخليفة واغرائه بالوعود، كما أنه صمد في المناظرات التي جرت مع عدد من المخالفين له، وهكذا حاول معه بجميع الطرق، ولما لم يجد ذلك اتجه الى تعذيبه، حيث جرى ضربه في فناء من أفنية القصر، بعيداً عن العامة الذين تجمهروا ينتظرون خارج القصر ما سيقوله الإمام وينتظرون نتيجة الاختبار والامتحان، ولما استبد بهم القلق لعدم خروج الإمام وعدم ظهور أقواله، كاد القصر أن يصبح هدفاً لهجومهم، ولعلهم أحسوا بأن إمامهم يعذب، ولذا أخرج المعتصم لهم اسحق عم الامام أحمد وأقنعهم بأن الإمام بخير، وفي المساء خلع عليه خلعاً وأخرجه في الظلام الى منزله وتأكد من انه وصل اليه تجنباً لثورة العوام عليه
وبعد هذه الواقعة لم يحاول الخليفة ان يختبره ثانية، فقد كان موقف الإمام واضحاً وكانت شخصيته تقوى وتزداد بين العوام في بغداد، ولذا صار في حماهم وأمنهم
وتقول لنا سيرة حياة الإمام أحمد إن الخليفة الواثق لم يستدع الامام لامتحانه برغم إلحاح وضغوط أحمد بن ابي دؤاد وكان متشدداً ضد الامام، لكن الخليفة، طلب من الإمام احمد الا يقيم في البلد الذي يقيم به الخليفة وألا يساكنه في أرض
ويذهب المؤلف الاميركي الى أن محنة الإمام أحمد أفرزت الطابع السني للإسلام حتى اليوم، ويقول “ عندي أنا لا بقاء للإسلام الا ببقاء السنة، ففي سلامتها سلامته، ولو أنه أتيح للحركة العقلية التي نهض بها المعتزلة أن تحمل المسلمين قسرا على نبذ السنة، فمن الراجح أن يكون لمبدأ حرية الفكر الذي يدين بالعقل دون النقل ولا ينزل على حكم سلطة ما، أثر يوهن قوة الإسلام وتماسكه، كما انه يجعل الإسلام أكثر قابلية للتأثر بما يطرأ عليه من خارجه من تعديل وإصلاح
كان المسلمون ينتظرون قول الإمام أحمد، وسوف يرددون ما يقوله، لذا فإن صموده في المحنة والاختبار الذي تعرض له أنقذ السنة والإسلام السني، فقد جعل صموده المسلمين السنة واثقين بما يؤمنون به. وبعد وفاة الامام الشافعي سنة 204 هجرية ظل الامام أحمد المعبر والمدافع الأقوى عن السنّة، ولذا فإنه لعب دورا في التاريخ الإسلامي والإنساني يندر أن يلعبه فرد واحد
ويحمل المؤلف الأميركي بضراوة على مفكري المعتزلة، وأهلها، فقد كانوا يتحدثون من حرية الفكر والرأي، لكن ممارساتهم للقمع ضد من خالفهم الرأي تثبت أنهم لم يكونوا يؤمنون بالحرية، وأن شعارات الحرية التي رددوها، لم يكن مقصوداً بها ذلك، بل كانت الحرية عندهم توفر لهم المتع والملذات الحسية التي كانوا غارقين فيها، وكان التمسك بالسنة يحرمهم، من تلك الملذات، وهو رأي جريء وخطير قد يصدم كثيراً من المثقفين العرب المأخوذين بأفكار المعتزلة عن الحرية
ومحنة ابن حنبل أضعفت كذلك صورة الخليفة المأمون، والمعروف أن المأمون شجع حركة الترجمة الى العربية وشجع المترجمين، وكان يعتنق أفكار المعتزلة، خاصة جانبها العقلاني ولكن قمعه للمخالفين، واختيار أحمد بن حنبل يقدمه في صورة طاغية مستبد يفرض آراءه على الآخرين، حتى لو كانوا كبار الفقهاء والمحدثين
ساحة النقاش