فأول ماقامت به ثورة كمال اتاتورك هو التعامل مع الرأس البشري لاعلان النظام الجديد، فمنع الطربوش ـ ثم تلاه منع الحجاب، اي انه تعامل مع رأس الرجل اولا ثم بعدها تعامل مع رأس المرأة، ذلك لان الرجل كان هو الاخطر، وفي نزع الطربوش تقليل لقامة الرجل على الاقل عشرة سنتيمترات.
والنقصان من قامة الرجل عمل سياسي واجتماعي يخضع الرجل لادوات النظام الجديد، ولم يكن اتاتورك وحده الذي تعامل مع الملبس وتحديد حجم جسم الانسان الجديد، الذي اصبح رمز الثورة.
فمثلا ماو في الصين فرض البدلة الزرقاء، وكانت الثورة الثقافية هي البداية في ثورة الملبس، اي ثورة على الجسد القديم، واستبداله بجسد حديث، أقل حجما وأكثر خضوعا، وحدث ذلك ايضا مع الثورة المصرية التي ألغت الطربوش كذلك، وفي حالتنا في صعيد مصر كان ضروريا على أي رجل يريد دخول اجهزة الدولة او العمل في الخدمة المدنية ان يقبل مسألة تقليص الجسد طولا وعرضا، فكان اول الشروط ان يخلع الرجل عمامته، اي ان يتناقص طوله حوالي عشرة سنتيمترات، كما في حالة طربوش اتاتورك، هذا من ناحية الطول، اما من ناحية العرض فكان عليه الخروج من جلبابه الواسع، الذي يحتل مساحة اكبر من الشارع اثناء المشي، الى وضع جسده في بدلة افرنجية تحدد ملامح جسده، وبذلك يتقلص حجم الرجل، من حالة مهيبة الى حالة اشبه بالصورة الكاركاتورية للرجل، وفي هذا التقليص للحجم ايضا هناك حالة القبول والخضوع لسلطة من فرض هذه الوضعية الجديدة للجسد.
في بعض الاحيان حدث تقليص للعمامة من عمامة اهالي الصعيد والبدو، التي تشبه غطاء الرأس الكبير في السودان والهند، الى عمامة رجل الازهر الرقيقة جدا. لكن الاساس في عمامة الصعيدي البيضاء او حتى حالة السودانيين والهنود، هو ان يكون على رأس الرجل قماش ابيض يكفي لان يكون له كفنا، اذا ما مات في مكان غريب، والكفن هو القماش الابيض الذي يلف به جسد الميت منذ الفراعنة حتى يومنا هذا.
اذن التغيير الذي حدث في العمامة لم يحدث بازالتها تماما في حالة اذا ما اراد الفرد ان يكون افنديا مدنيا، بل يقلص حجم العمامة اذا اراد ان ينخرط في سلك الازهر. اذن في كل هذه الحالات نحن نتعامل مع موضوع علاقة السلطة بالجسد الانساني بمجمله او برأس الانسان، كأعلى نقطة في لوحة الاعلانات المتحركة، وهو جسد الانسان، يشكلها لاغراض سياسية او اجتماعية او دينية او حتى تجارية، اذا ما لاحظنا حجم الاعلانات على صدور لاعبي كرة القدم، في الملعب او قبعات لاعبي التنس من ماريا شاربوفا الى اندريا اجاسي.. الخ.
غطاء رأس المرأة ايضا يمكن النظر اليه في هذا السياق، الذي اطلق عليه هنا سياسة الملابس، فمثلا لبس المرأة التي نظر اليها الاستاذ فاروق حسني على انها محجبة، وتتحرك الى الوراء، او هي تدافع عن نفسها بأنها محتشمة، فأستطيع أن أقول، من قريتي اليوم، ومن مجموعة من حولها من القرى، ان حجاب تلك المرأة التي شاهدتها على الشاشة مع اهلي، والتي كانت محط حديث الوزير، قال عنها المشاهدون من حولي ان هذا غطاء رأس راقصات، وليس حشمة، اذ قالت واحدة «فين الحشمة، دي مرة (هكذا يقول جماعتنا عن المرأة) مش مضبوطة». لم ار ما قالته السيدة انه اهانة لاخرى، ولكنها ترى مسألة غطاء الجسد من منظور لباس المرأة في الصعيد، وهو اقرب الى لباس النساء الذي نراه على الشاشات لمناطق جنوب العراق، او تنويعه على ما تلبسه السيدة فائزة رافسنجاني في ايران، او لباس بعض نساء البادية في اليمن، اذن مسألة الحشمة بشكلها التقليدي هي محدودة بالمكان والزمان، فليس غطاء الرأس بشكله القاهري هو حشمة في الصعيد، كما انه لم يكن قريبا من حشمة النساء في عهد الخديوي اسماعيل او محمد علي باشا من قبله، وهنا لا اتحدث عن الحشمة كلباس للمرأة وانما كلباس للرجل ايضا، فأنا على سبيل المثال، وكثير من اقراني لا يلبسون البدلة الغربية في القرية، لانها لباس غير محتشم وفيه تقليل للرجولة او على الاقل نظرة اهالي البلاد الاصليين لما يمثل رموز الرجولة. وجميعنا يحاول ان يتكيف مع الوضع الزماني والمكاني الذي يعيش فيه، حتى لا يسيء الى من حوله احيانا او يحتفظ لنفسه بمكانة اجتماعية تضفي عليه احتراما في سياق جديد.
عندما تحدث الوزير عن الملابس الدخيلة الى مصر، كغزو ثقافي، فهو يتحدث عن رموز دينية قادمة من الخليج وهنا سأترك الحديث عن لباس المرأة تحديدا، وأركز على لباس الرجل، او حتى لفك شيفرة الالتباس القائمة.
فقبل النفط مثلا في ستينات القرن السابق وسبعيناته كان اهلنا من الصعيد يذهبون الى القاهرة بملابسهم الصعيدية، وكانوا موضع احتقار للباس واللهجة في آن واحد.
واكتشف الصعيدي عندما ذهب الى منطقة الخليج، بما فيها العراق، ان لهجته المحلية قريبة الى لهجة اهل الخليج، او كذلك يظن القاهريون، رغم ان اهل الخليج يعرفون ان ثمة فارقا بين لهجتهم ولهجة اهل الصعيد، لكن الصعيدي، الذي كان موضع غمز ولمز في القاهرة وجد في اللباس الخليجي المصحوب باللهجة المحلية ضالته للتعامل مع رؤية القاهرة، وبقدرة قادر تحول الصعيدي من انسان موضع احتقار في القاهرة الى خليجي موضع احترام، على الاقل في طوابير المعاملات، لما للخليجي من قدرة شرائية. اذن تحول لباس الرجل الصعيدي الى لباس اقرب للخليجي، خصوصا في الجلباب الابيض، ينقل نفسه من حالة الاحتقار الى حالة الاحترام، لذا نرى اليوم كثيرا من ابناء الطبقات العاملة يصلون الجمعة بالملبس الخليجي او الجلباب الابيض، وما هذا بغزو ثقافي في المجال الديني، كما يرى الوزير ولكنها مجموعة حيل وتحولات يستخدمها الفقراء انفسهم من حالة الاحتقار الى حالة الاحترام.
هذا على مستوى الرجال، وظني ان ذلك يصلح اطارا لفهم ملابس النساء، رغم انني اشدد على ان ملابس الحشمة النسائية تتفاوت في البلد الواحد، من مدينة الى مدينة اخرى، ومن قرية الى اخرى، ومن شمال مصر الى جنوبها، ومن اهالي الصعيد الى اهالي النوبة، كما ان لباس الشيخ رفاعة الطهطاوي يختلف عن لباس الشيخ الازهري الحالي، ومن عمامة الظواهري السوداء، كما ان غطاء رأس «الهوانم» في دولة السلطان عبد الحميد تختلف عن هوانم اليوم.
جل المسألة هو أننا نتعامل مع تغيير في الملابس لتحقيق مكاسب سياسية للافراد او الانظمة، وفي هذا السياق تبقى رؤية الوزير محصورة في منظور واحد ومن مصلحة واحدة يتنازعها الفرقاء على مستوى الدولة والمجتمع...
المصدر: شاهى للجلباب الشرقى
نشرت فى 17 ديسمبر 2009
بواسطة shahygelbab
شاهى للجلباب الشرقى
شاهى للجلباب الشرقى تاسس عام 1994 م »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
590,133