<!--<!--<!--
لعلك قرأت كثيراً في موضوع تحديد الأهداف، وإذا كان الأمر فعلاً كذلك فلعلك تعرف أن شروط الهدف هي أن يكون واضحا، قابلا للقياس، واقعيا، متوافقا مع قيمك، مكتوباً وموقوتا بزمن محدد.
ولكني الآن لا أتحدث عن إجراءات كتابة الهدف. إنني أريد التحدث عن الخطوة التي تسبق ذلك... الخطوة الأعمق.. وهي أن تعرف جيداً: ماذا تريد في أعماق نفسك؟ ما هي الرسالة التي تهب لها حياتك؟ وما هي الأهداف أو الأبواب الرئيسية التي ستحقق هذه الرسالة من خلالها؟
يخطيء من يظن أن الأهداف يتم تحديدها في ساعة تجلس فيها مع نفسك... إنها رحلة تستغرق سنوات أو قد تستغرق العمر كله. ولكنها رحلة تستحق...
الشيء الغريب الذي اكتشفته – أو قل انتبهت إليه – هو أن أحلام الطفولة ليست دائماً هباءً تماماً. أي أن ما كنت تريده وتتمناه وأنت طفل قد يظل هو ما تريده عندما تكبر، أو قد يدخل عليه بعض التعديلات.
فأنا مثلاً أتذكر أنني في طفولتي كنت أعشق لعبة المُدرِّسة. فكانت لديّ سبورة، وكنت أشتري طباشير ألوان، وأصبع لأضع فيه الطباشير (محاكاة لمعلماتي بالمدرسة). وكنت أتقمص شخصية المدرسة، وأنقل من كتب وكراسات المدرسة، وأشرح بصوت مسموع وكأنني في فصل.. مع أنني كنت ألعب وحدي! وطبعا كان هدفي وقتها (في المرحلة الابتدائية) أن أصبح مدرسة.
وبعد مرور السنوات، وظني أن هذه كانت أحلام طفولية، وتحديدي أهدافا أخري... اكتشفت أن الله قد وهبني بعض القدرة علي تعليم الآخرين، وتوصلت إلي أنني فعلاً أريد أن أعمل في تعليم الآخرين، ولكن في غير التعليم المدرسي أو الجامعي، بل من خلال الدورات مثلاً.
أما في المرحلة الإعدادية، فأذكر أنني لم يكن لدي هدف محدد، فقط أذكر أنني كنت أريد أن أصبح شخصية مشهورة، وأن أحقق إنجازا عظيما يؤهلني للفوز بجائزة نوبل! وقد كنت في هذه الأحلام متأثرة بالدكتور أحمد زويل الذي تزامن فوزه بجائزة نوبل مع كوني بالمرحلة الإعداية، كما تزامن مع ذلك متابعتي لمسلسل أم كلثوم بشغف وتأثري به أيضاً.
ولا أذكر أنني كان لدي هدف محدد كنت أرغب في الحصول من أجله علي جائزة نوبل، ولكني أظن أنني كنت أريد أن يكون ذلك في مجال الكتابة.
وما تطور هذه الأحلام؟
سأخبركم الآن بتطور أحلامي في الكتابة، ولكني أريد قبل ذلك أن أعلق علي شيء وهو أنه في رأيي، لا ينبغي أن يقيس الإنسان نجاحه بالحصول علي الجوائز، ولا ينبغي أن يكون ذلك هو هدفه أصلاً... بل يختار الإنسان ما يحب، فيتقنه ويتميز فيه، ويكون بغيته من وراء ذلك شكر الله وإرضاؤه، ونفع الناس.
أما بالنسبة للشهرة، فهي أيضا لا يصح أبدا أن تكون هدفاً... هذا ما تعلمته. ولا أدري لماذا تنبأ لي أكثر من شخص أنني سأكون شخصية مشهورة، ولكنني لا أحب الشهرة، أو بلفظ أدق: أخافها... حتي أنني وجدت أنني أحيانا أمتنع عن الإقدام علي بعض الأشياء خوفا من أن تكون نيتي هي السعي إلي الشهرة أو أن أكون تحت الأضواء، ولكنني وجدت أن ذلك سيعيقني عن استخدام مواهبي علي الوجه الأمثل. فتوصلت أخيراً إلي تسوية مع نفسي في هذا الشأن، وهي أنني سوف أسعي نحو أهدافي وسوف أسعي إلي استخدام مواهبي علي أكمل وجه وقدر الإمكان غير عابئة بمسألة الشهرة هذه، لا ساعية إليها ولا فارّة منها.
والآن تعالوا أخبركم بتطور حلمي في الكتابة: في المرحلة الثانوية، أصبح هدفي أكثر وضوحاً. فقد كان هدفي الحصول علي مجموع مرتفع (مرتفع جدا لأكون من الـ10 الأوائل علي الجمهورية! هل هو حب الشهرة أم حب التميز؟ أم الاثنين معاً؟ الله أعلم).. المهم، كان هدفي الحصول علي مجموع مرتفع لألتحق بكلية الإعلام، قسم الصحافة لأعمل كصحفية. وفعلا التحقت بكلية الإعلام، وبدأت أمارس بعض الأنشطة الصحفية داخل وخارج الكلية. والآن، أعمل ككاتبة وأريد إن شاء الله أن أًصبح مؤلفة كتب.
هل تلاحظون كيف بدأت بوادر هذا الحلم معي منذ الطفولة ثم أخذت تتبلور وتزداد وضوحا حتي الآن ومع مرور الوقت وازدياد التجارب والخبرات؟
حلم آخر: وأنا في المرحلة الثانوية، خطرت لي خاطرة أنني أريد أن أصبح طبيبة نفسية. فقد كنت أحب جداً القراءة في الموضوعات المتعلقة بتنمية وتطوير الشخصية في المجلات، وأشاهد البرامج التي تناقش مثل تلك الموضوعات في التلفاز. ولم يكن مجال التنمية البشرية معروفاً لدينا في مصر كما هو الآن. فكان كل تفكيري وقتها أن من يريد العمل في هذا المجال لابد أن يكون طبيبا نفسيا، وبالتالي يجب أن يلتحق بالقسم العلمي في الثانوية العامة، ثم كلية الطب، وأنا لا أحب المواد العلمية. ولذلك نحيت هذا الحلم جانباً. ولكن تخيلوا أن هذا أيضاً تطور معي.
فكيف ذلك؟
عندما التحقت بالكلية، تعرفت علي مجال التنمية البشرية.. وقررت وقتها نسف كل أحلامي القديمة لحساب حلمي الجديد أن أصبح مدربة تنمية بشرية ومستشارة شخصية. وبدأت أقرأ وأدرس في هذا المجال بنهم شديد. والحق أنني استفدت من ذلك كثيراً جداً.
وقد اكتشفت شيئا مهما جدا في المرحلة الجامعية، وهي أن الإنسان قد يجيد فعلا بعض الأشياء ولكنه لا يحبها، أو لا يحبها بشدة ولايرغب في أن تكون هي مجال تخصصه. وقد اكتشفت ذلك من خلال عملي كمترجمة أثناء الكلية، فأنا أجيد الترجمة إلي حد ما، وعملت في هذا المجال حوالي سنتين، ولكنني اكتشفت أنني لا أستمتع بها كثيراً ولا أرغب في أن تكون هي مجال عملي.
وبعد أن أنهيت دراستي بالكلية، قررت أنني أريد أن أعمل في مجال إعداد البرامج الدينية! ولا أدري ما علاقة هذا بكل ما سبق، ولعلكم تقولون عليّ: مجنونة :)))
وبعد كل هذه الأحلام: تدريس.. تدريب.. إعداد برامج.. كتابة... عملت بعد تخرجي في شيء مختلف تماماً.
آه.. نسيت أن أذكر لكم أنني في وقت ما أثناء الكلية قررت أنني أريد أن أعمل أيضاً في مجال خدمة العملاء.. مجنونةفعلاً!!
المهم.. ماذا عملت بعد أن تخرجت في الكلية؟ عملت في بعض الأعمال المكتبية والمراسلات الإلكترونية.. كان مزيجا بين السكرتارية وخدمة العملاء. عملت في هذه الشركة لمدة سنتين.
ماذا اكتشفت خلال هذه الفترة؟
اكتشفت أنني لا أصلح تماما للأعمال الروتينية.. صحيح استغرقت سنتين لأكتشف ذلك، ولكنه كان اكتشافا هاما جدا بالنسبة لي. وإنني أعد أي تجربة تعرف منها شيئا عن نفسك مفيدة جداً ولو كانت هذه هي الفائدة الوحيدة منها.
وعندئذٍ قررت أنني سوف أترك عملي في هذه الشركة، لأنني لم أعد أتحمل الروتين أكثر من ذلك، وقررت أنني سوف أعمل من خلال الإنترنت أعمالا متنوعة ما بين الكتابة وتصميم عروض الباوربوينت وغيرها. ولكن لم يحالفني التوفيق كثيراً في هذا المجال، وشعرت أن هذا لحكمة من الله إذ وجدت أنه في نفس الوقت تتفتح لي أبواب أخري.
وقبل هذا بعام أو اثنين، قمت بتعليم الأطفال من خلال عمل تطوعي، وبدأت أقرأ وأحضر الدورات في هذا المجال.
وطبعاً كانت النتيجة التي تتوقعونها... أنني قررت أن أعمل في مجال تدريب الأطفال :))) ولكنني اكتشفت بعد أن عملت في أكثر من مكان في هذا المجال أنني أجيد إعداد المادة العلمية التي ستقدم للأطفال وتخيل طريقة عرضها أكثر من إجادتي للتدريس نفسه. وأظن أنني اكتشفت شيئاً آخر لم أتأكد من مدي صحته بعد، وهو أنني أجيد تعليم الكبار أكثرمن الأطفال، لأنني أحب المناقشة وهي وسيلة لا تصلح كثيراً مع السن الصغير الذي يحب اللعب والرسم أكثر من الكلام.
أظنكم الآن تتساءلون: وماذا تريدين أن تعملي الآن: كاتبة؟ أم معدة برامج؟ أم مدربة تنمية بشرية؟ أم مستشارة شخصية؟ أم صحفية؟ أم... أم...؟
لقد توصلت إلي استنتاج هام جدا وهو أن من الذكاء أن يحاول الإنسان الربط بين المجالات التي يحب، وأن يدمج خبراته المختلفة.. وعلي هذا يقوم الإبداع: الربط بين أشياء مختلفة لا علاقة لها ببعضها.
كما توصلت أيضاً إلي أنه لا يجب أن يمارس الإنسان كل شيء يحبه من خلال المهنة، بل قد يمارس بعض ما يحب من خلال عمل تطوعي وبعضه من خلال الوظيفة.
وليس معني أنك تحب شيئاً أنك لا تحب غيره، أو أنك تحبه بلا حدود. بمعني: لا تقلق أو تشعر أنك متخبط إذا وجدت في نفسك ميلا نحو أكثر من مجال. أظن أن هذا أمر طبيعي. والنقطة الأخري: أنك قد تحب ممارسة شيء بدرجة ما، ولكنك إن زدت في ممارستك لهذا الشيء عن حدٍ معين، فسوف يقل حبك له.
استطردت كثيراً في سرد تجربتي الشخصية، وأرجو أن هذا لم يكن مملاً بالنسبة لكم، وأنه كان مفيداً.
لم أحدد خطوات معينة تساعد الإنسان علي معرفة ما يريد، فكل منكم يستطيع أن يستخلص من تجربتي المتواضعة ما يعن له من أفكار، ولكني أستطيع أن ألخص بعض الأفكار التي اتضحت في ذهني الآن أثناء الكتابة، ومنها:
- استرجع أيام طفولتك: ماذا كنت تلعب؟ بمَ كنت تحلم؟
- تعرض لخبرات متنوعة وجرب أشياء مختلفة.. لا تخف من التجربة.. لا تخف من الخطأ. فعلاً، لقد أدركت الآن معني أنه من الأفضل أن تسير في الطريق الخطأ ثم ترجع عنه علي ألا تتحرك علي الإطلاق. يكفي أنك ستعرف أن هذا الطريق ليس طريقك. وهذا ليس بالأمر الهين.
- تفكر في خبراتك السابقة، وتعلم من ماضيك. لا تظن أن أي تجربة خضتها ضاعت هباءً، بل هناك دائما أشياء نتعلمها من تجاربنا.. المهم أن نتعلم.
وكما ترون، فإن الرحلة طويلة بل أظن أنها قد تستمر معك لآخر عمرك.. لأن الحياة مراحل والتغيير سنة الحياة. ولكن كلما بدأت الرحلة مبكرا كلما كان ذلك أفضل، لأن الإنسان كلما تقدم عمره كلما زادت مسئولياته، ومال نحو الاستقرار، وخاف من المغامرة والتجربة.
ولكن هل هذا معناه أنه قد فات الأوان؟
أبداً، مازالت الفرصة سانحة طالما أن قلبك مازال ينبض بالحياة. والمسلم إلي آخر لحظة في عمره يسعي إلي الأحسن. وفي نفس الوقت، يجب أن يكون التغيير حكيماً وتدريجياً حسب ما يلائم ظروف كل إنسان، ومسئولياته... حتي ولو كان تغييراً صغيراً فإن الجبل من الحصي. وأنا أري أن مسألة توظيف مواهبك وقدراتك ليست أمراً مستحبا إن شئت فعلته أو إن شئت لم تفعله، بل أري أن ذلك أمر واجب من باب شكر الله علي النعمة، ولأن الله لم يمنحنا هذه القدرات لنتباهي بها بل لنعمر بها الأرض وننفع بها أنفسنا والآخرين.
هداني الله وإياكم ووفقنا إلي ما فيه الخير.
ساحة النقاش