صدرت من أجل الهجوم على يوسف وهبي

( مجلة التمثيل ) ولادة غير واضحة الملامح

د.سيد علي إسماعيل

كلية الآداب – جامعة حلوان

ــــــــــ

يُعدّ إبراهيم المصري (1900 – 1979) أحد الأدباء المشهورين؛ الذين لم ينالوا حقهم من التقدير، رغم جهوده الأدبية والمسرحية الكبيرة! فهذا الأديب ظهرت كتاباته النقدية المسرحية المبكرة في جريدة (أبو الهول) عام 1921؛ عندما كتب نقداً عن عروض فرقة عمر بك سري. أما ظهوره مترجماً ومؤلفاً مسرحياً، فكان بعد ظهور فرقة يوسف وهبي، التي عرضت له مسرحية (الشياطين السود) من تعريبه، و(الأنانية) من تأليفه. ولو تتبعنا إسهامات إبراهيم المصري الأدبية – طوال نصف قرن – سنقع في حيرة: هل نتحدث عن إسهاماته المسرحية نقداَ وترجمة وتأليفاً .. أم نتحدث عن إسهاماته القصصية، الذي أصبح اسمه رمزاً من رموزها العربية .. أم نتحدث عن كتاباته الفلسفية والسياسية والتاريخية ... إلخ؟! الحقيقة إنني لن أتحدث عن أي جانب من هذه الجوانب، وسأتحدث فقط عن أمر تفرد به تاريخياً، وهو إصداره لمجلة (التمثيل) عام 1924!!

سيظل يوم الخميس الموافق 20/3/1924 يوماً تاريخياً مرتبطاً باسم إبراهيم المصري! ففيه صدر العدد الأول من مجلة (التمثيل)، التي تُعدّ أول مجلة مسرحية متخصصة استمر صدورها إلى العدد الخامس عشر! وتُعدّ أيضاً المجلة الثانية بعد مجلة (الأدب والتمثيل)، التي توقفت بعد صدور عددها الثاني، وتحدثنا عنها في مقالتنا السابقة! ومجلة (التمثيل) أسبوعية، تصدر كل يوم خميس في اثنتى عشرة صفحة، تحت إدارة عدلي جرجس، ويوسف توما، ومقرها في عمارة الخديوي بشارع عماد الدين، وهو شارع المسارح والسينمات.

الغلاف

اهتمت إدارة المجلة بغلافها، فجاء جذاباً مفيداً من خلال نشر صورة ومعلومة! وأول صورة على غلافها، كانت للمرحوم الشيخ (سلامة حجازي)، وبررت المجلة هذا الاختيار قائلة: "ما كان في استطاعتنا إبراز مجلة تمثيلية دون أن نصدرها برسم الرجل الذي كان أول بناة المسرح عندنا. فهو الذي بإدخاله على رواياته ضروب التلحين والغناء اقتاد الجمهور إلى المسرح بعد أن كان يقضي معظم سهراته في متعدد البارات ودور الغناء. ثم أن فضل الرجل على الموسيقى المسرحية لا ينسى وقد شهد له الجميع بقوة ابتكار نادرة في التلحين. وهو حتى الآن فريسة صغار الملحنين الذين يسطون على مقاطيعه وألحانه ويدعونها لأنفسم بعد تغيير بسيط فيها. ثم إنه ما من أحد يستطيع أن ينكر بلوغ هذا الرجل شأواً بعيداً في الأناشيد الإجماعية (Choeurs) لم يضارعه فيها حتى الآن سوى المرحوم الشيخ سيد درويش".

واتبعت إدارة المجلة هذا الأسلوب بالنسبة للغلاف، فرأينا على غلاف العدد الثاني صورتين للآنسة روز اليوسف كبيرة ممثلات الشرق، وذلك بمناسبة نجاحها في بطولة مسرحية (المرأة المقنعة). وعلى غلاف العدد الثالث رأينا صورة (سارة برنار) بمناسبة مرور عام على وفاتها. وعلى غلاف العدد الرابع صورة محمود مراد بمناسبة سفره إلى أوروبا لدراسة الحركة المسرحية الأوروبية للاستفادة منها في إدخال التمثيل والموسيقى في المدارس المصرية.

أما غلاف العدد السابع المؤرخ في 1/5/1924، فقد اشتمل على صورة الممثلة الفرنسية (مدام كريتواميلي) رئيسة جماعة أصدقاء المسرح الفرنسي؛ وذلك بمناسبة تمثيلها لمسرحية (عمة مانشستر) على مسرح حديقة الأزبكية. المفاجأة في هذا الخبر، تمثلت في اسم مؤلف مسرحية عمة مانشستر، وهو (توفيق عقاد)! الذي قالت عنه المجلة: إنه عربي يعيش في أوروبا وله مسرحيات مؤلفة منها: (الشهداء، وروح المسرح، وعبده)! كما أشارت المجلة إلى أن الحكومة الفرنسية أنعمت عليه بلقب شيفاليه!!

حاولت بكل جهدي البحث عن أية معلومات عن هذا الشاب؛ ليكون اكتشافاً مسرحياً جديداً .. دون جدوى!! فمن منّا يعرف مؤلفاً مسرحياً عربياً اسمه (توفيق عقاد)، عاش في فرنسا منذ بداية القرن العشرين، وله أربع مسرحيات مؤلفة؟! والمؤكد – أنه ليس مصرياً بدليل وصف المجلة المصرية له بأنه عربي! والمؤكد أيضاً أنه من الشوام – نسبة إلى اسم عقاد - والمحتمل إنه فلسطيني!

الافتتاحية

كتب إبراهيم المصري افتتاحية العدد الأول تحت عنوان (عهدنا)! وفيها رسم سياسة المجلة ووضع لها أهدافها. وبغض الطرف عن أسلوبها الناري الموجه ضد شخص محدد، وفرقة معينة! وبالرغم من طولها وضخامتها، إلا إنها تُعد وثيقة مهمة، من الظلم تلخيصها، ويجب نشرها كاملة؛ بوصفها أول افتتاحية لمجلة مسرحية متخصصة، استمرت في الصدور فترة لا بأس بها! قالت إدارة المجلة في هذه الافتتاحية:

"بسم الله نفتتح عملنا. وعليه نتوكل. وإليه نتوجه طلباً للتوفيق والنجاح. أما بعد. فإن للفنون الجميلة أثراً كبيراً في رقي الأمم. قال (هجل) (إذا ضعفت العقيدة الدينية فالفن كفيل برفع مستوى الروح إلى فكرة الله)". ولقد رأينا أن هناك حركة ترمي إلى إنهاض الفن في بلادنا العزيزة. ولمسنا أن هناك فراغاً كبيراً في عالم الصحافة والأدب لعدم وجود صحيفة خصيصة للبحث في الفنون. لذلك سعينا لإصدار مجلة أسبوعية فنية مصورة لنسد ذلك الفراغ. والآن وقد وفقنا إلى إصدار هذه المجلة فسنسعى جهدنا للسير بهذه النهضة في الطريق القويم. ونوجهها إلى وجهتها الصحيحة والأخذ بيد القائمين بها. وإنقاذها من المتطفلين عليها. سنوقف هؤلاء القوم وقد ظهروا بيننا متشحين بوشاح الفن والأدب وهم لا يعرفون من الفن غير اسمه وليس لهم سابق دراية أو معرفة تؤهلهم لولوج هذا المضمار عند حدهم. سنظهر لهم جلياً إنه ليس من السهل أن يكون الإنسان فناناً. لأن الفن ليس لعبة يلهو بها المرء. وإنما هو عمل جليل يحتاج إلى درس عميق شاق. فليس كل من ظهر على المسرح يسمى ممثلاً. ولا كل من صور صورة صار مصوراً. ولا كل من تعلم لغة أجنبية يمكنه أن يدعي الإلمام بآدابها. ولا كل من كتب مقالاً يقال له أديباً. إلى غير ذلك من فروع الفن والأدب ولكن هكذا يظن الكثير ممن يسمون أنفسهم فنانين في بلادنا. ولهم العذر في ذلك. لأنهم يجدون أنفسهم ولا رقيب يرقبهم ولا ناقد ينقدهم. وهم يلقون من الجمهور تعضيداً. لأنه لم يصل بعد إلى الدرجة التي يمكنه من معرفة حقيقتهم. لذلك سنعمل جهدنا لرفع مستوى الجمهور إلى الدرجة التي عندها تنقشع تلك الغشاوة عن أعينه فيرى أعمال هؤلاء الأدعياء. ويكون على بينة من أمرهم حتى لا يخدع بفعالهم ومظاهرهم الكاذبة. سنظهرهم أمام الجمهور على حقيقتهم. ونضع كلاً منهم في الدرجة التي يستحقها. دون محاباة لأحد أو انتقاص من حقه. سنبين للمسيء إساءته. ونشجع المحسن في عمله على التقدم دائماً إلى الأمام. ونرشده لمواطن الضعف فيه ليستكملها. ولن نبخس إنساناً حقاً. هذا عهد علينا نسجله. أن نكون في قولنا من الصادقين وفي عملنا من المخلصين. وأن يكون جهدنا موجهاً لخدمة الفن فقط ولسنا نبغي من وراء ذلك أية منفعة مادية. ولا نريد على عملنا جزاءً ولا شكوراً. سنعني عناية خاصة بالمسرح وننقده نقداً بريئاً من حيث التمثيل والموسيقى والتأليف والتعريب. وسنعطي كل فرع من هذه الفروع حظه من العناية حتى يرقى المسرح في بلادنا إلى الدرجة التي يتمناها له كل مخلص للفن. سننشر الشيء الكثير عن الفن الغربي في البلدان المختلفة. وصور كبار الفنانين والأدباء هنا وهناك. وشيئاً عن ترجمة كل منهم. وسنطرق أبحاثاً فنية شيقة يهم الجمهور الاطلاع عليها. وإنا لنفتح صدر مجلتنا رحيباً لكل من يريد الكتابة فيها. كي يكون المجال متسعاً أمام الجميع. لنصل إلى الغاية التي ننشدها. وفقنا الله لما فيه خير الفن وخدمته الخدمة الصادقة".

الواضح من هذه الافتتاحية أن كاتبها يُشير إلى شخص معين، يوجه إليه تحذيراً! هذا التحذير تمّ تحديده أكثر في افتتاحية العدد الثاني، عندما أشار كاتبها إلى هيمنة فرقة رمسيس على الساحة المسرحية! وفي افتتاحية العدد الثالث نصح إبراهيم المصري يوسف وهبي – بصورة غير مباشرة – إلى التحلي بصفات المسرحيين العالميين. وفي افتتاحية العدد الرابع بتاريخ 10/4/1924، وتحت عنوان (نظرة عامة في مسرح رمسيس)، هاجم إبراهيم المصري يوسف وهبي هجوماً شديداً! ومن أقواله الهجومية: "وكان يوسف بك وهبي قد أخذ قسطه من الشهرة التمثيلية بواسطة إعلانه عن نفسه وتوخيه القيام بأدوار كبيرة ليست بأدواره فلم يكتف بذلك. بل اشرأب عنقه مبتغياً مجداً آخر هو مجد التأليف. فحشد جميع وسائله الأميريكية المستحدثة في ضروب الإعلان. وهرع إلى مختلف السينماتوغراف مستقياً منها موضوعاته فأخرج لنا أسخف ما أبرزته المسارح المصرية من الروايات (كالدم) و(انتقام المهراجا) مبرهناً بذلك على سعة اطلاع نادرة في التهكم بذهنية كل مستنير في البلد وجسارة مدهشة رائعة في العبث بعقول الجمهور".

وفي افتتاحية العدد الخامس، وتحت عنوان (إنا نحذر الحكومة)، واصل إبراهيم المصري هجومه على يوسف وهبي! فتحدث عن ألاعيبه؛ لأنه يوهم الجميع بأنه الممثل الأوحد، وفرقته هي الأفضل، ولابد أن تقف بجانبه الحكومة وتسانده بمالها وإعاناتها .. إلخ. ويكشف إبراهيم المصري – من وجهة نظره - أساليب يوسف وهبي المفضوحة، ومنها: وضع اسم جلالة الملك فؤاد بالنور الكهربائي على واجهة مسرحه، وكذلك اسم رئيس الوزراء سعد باشا زغلول أيضاً! ويختتم الكاتب هجومه بتحذير الحكومة بعدم خداع يوسف وهبي لها، مع وجوب توجيه إعانتها في إرسال البعثات وتعليم المسرح على أصوله.

إذن افتتاحية خمسة أعداد كاملة متواصلة، كانت كفيلة لإظهار سياسة المجلة، التي صدرت فقط من أجل الهجوم على يوسف وهبي!! والغريب أن الهجوم لم يكن في الافتتاحيات فقط، بل كان في نقد المسرحيات أيضاً كما سنرى!! كل هذا الهجوم، دفع يوسف وهبي إلى التفكير في رفع قضية ضد المجلة!! فقامت إدارة المجلة بتحديه، ونشرت في عددها السادس، تحت عنوان (قضية ضد مجلة التمثيل): "علمنا أن يوسف بك وهبي ينوي رفع قضية أمام محكمة الجنايات ضد مجلة التمثيل. ونحن نهنئ يوسف بك على سعة صدره في تحمل النقد ونرحب بقضيته التي ستظهر للناس الحق من الباطل وتؤيد مرة أخرى قيمة النقد وحرية الفكر في بلادنا".

القسم الفني

لم يكتف إبراهيم المصري بالهجوم على يوسف وهبي في افتتاحيات المجلة، فهاجم أيضاً مسرحه في القسم الفني من المجلة! ففي العدد الثاني تناول مسرحية (مارك أنطوان وكليوباترا)، وهاجم الملابس والديكور لعدم مناسبتهما لأحداث النص التاريخي! كما هاجم الممثلين، أمثال (دولت أبيض) التي لا تصلح لدورها، وكذلك منسى فهمي، ومختار عثمان، وحسن البارودي، وحسين رياض، وفاطمة رشدي. أما محمد صادق، فقال عنه: "لم ينجح في دوره مطلقاً. فلقد كان واسع الإشارات بلا مسوغ. مخنوق الحنجرة. تتهشم ألفاظه على بعضها. ويسبق إلقاؤه عاطفته. يجب أن يتئد ويهدأ ويتكلم برزانة جديرة بالبطل الذي يمثله".

وفي العدد التالي – وفي القسم الفني نفسه – هاجم إبراهيم المصري مسرحية (المرأة المقنعة)، وبدأ هجومه بأسلوب يوسف وهبي في اختيار مسرحياته؛ حيث إنه لا يهتم بموضوعاتها، ولا بأثرها الأدبي بقدر اهتمامه بدور البطل فيها .. أي بدوره هو كي يكون الأشهر والأفضل بين أصحاب الفرق الأخرى.

وفي منتصف عام 1924، بدأ إبراهيم المصري يخفف من هجومه، وتناول مسرحية (المستر فو) بنقد رزين، بحجة أن فرقة رمسيس بدأت تقدم المسرحيات المتقنة! وعلى غير العادة، كال الناقد المدح والثناء لكل عناصر العرض والممثلين بصورة غريبة!! وبمرور الوقت، وتوالي أعداد المجلة في الصدور، نعلم السبب، وهو أن فرقة رمسيس بدأت تعرض مسرحيات من تأليف وتعريب وترجمة ..... إبراهيم المصري!! كما أن الإعلان المسرحي الوحيد، الذي نشرته المجلة، كان لعرض مسرحي ستعرضه فرقة رمسيس!!

نقد المسرحيات

كان إبراهيم المصري هو الرجل الأول في إدارة مجلة (التمثيل)؛ ولكنه لم يكن الكاتب الوحيد!! فهناك كُتّاب يكتبون بأسمائهم الصريحة، أمثال: عدلي جرجس، ويوسف توما، ومحمود عماد. وأيضاً هناك كُتّاب يكتبون بأسماء مستعارة، مثل: القزم الصغير، والرقيب. كما لم يكن باب (القسم الفني)، هو الباب المخصص – فقط – لنقد العروض! بل هناك باب آخر بعنوان (نقد المسرحيات)، كان يكتبه عدلي جرجس، المختص – فقط – بنقد عروض فرقة أولاد عكاشة على مسرح حديقة الأزبكية! ففي العدد الثاني، تناول عرض مسرحية (زبيدة)، وأبان أن العرض كان يعتمد على الألحان والتمثيل أكثر من اعتماده على الفكرة الرئيسية للموضوع. وفي العدد الثالث، تناول مسرحية (سوسو هانم) لحسين سعودي، وأختتم نقده قائلاً: "هذه هي الرواية وهي مفككة الأوصال ضئيلة الفكرة. لها فضيلة واحدة هي أنها لم تسرق من رواية أفرنجية".

وفي العدد الرابع، تناول مسرحية (فتاة الأناضول)، ولأول مرة يكتب مادحاً لا قادحاً؛ لأن الفرقة مثلت نصاً كوميدياً لا نصاً أوبرالياً تلحينياً .. كما أشاد بدور سليمان نجيب مقتبس المسرحية، واختتم نقده قائلاً: "نتقدم إلى مسرح حديقة الأزبكية بكلمة ثناء وتشجيع راجين منه تحويل وجهة نظره نحو أنواع الكوميديا والدرامة من الروايات بنفس العناية التي يبديها في الأوبريت والأوبرا كوميك؛ لأنه من الواجب عليه أن يدرك في النهاية أنه من المستحيل عليه إخراج رواية أوبريت أو أوبرا كوميك بالمعنى الصحيح لفقر موسيقانا الشرقية وضؤولة أذهان ملحنينا. وأن أنواع الكوميديا والدرامة هي الوحيدة التي مارسها ممثلونا جيداً وعالجوا إخراجها كثيراً وهي الأقرب إلى الفن والأشد رابطة بحقائق الحياة".

أبطال مسرحنا

تحت هذا العنوان الواضح الصريح، قامت المجلة بالهجوم على من ترغب في النيل منه، وبالمديح على من ترغب الإشادة به!! ففي العدد الثاني – وفي مرحلة الهجوم الشرس على يوسف وهبي وفرقته -  قام يوسف توما بالهجوم على (عزيز عيد) المدير الفني – أي المخرج – لفرقة رمسيس، قائلاً: "القزم الأصلع غير المتوازن، يستعين على الحياة بشتى المخدرات لإثارة قواه العقلية .... يستخلص من تجاربه المتعددة عدة قوانين سطحية أمكنه بها التهويش على عقلية الممثلين السذج، وإقناعهم بجدارته لمنصب المدير الفني ..... وهو المدير الفني لأكبر فرقة في البلد على جهله المضحك المبكي بضروب العلم والمعرفة جاهل أيضاً بحقيقة أسرار مهنته ومستلزماتها ..... زد على جهله هذا ارتباكه العقلي الدائم. عندئذ تبدو لك جلياً شخصية الرجل وترى عن بعد منظر الجحيم الذي يعيش فيه الممثلون المشتغلون بجواره".

وفي العدد الثالث، تم الهجوم على (جورج أبيض) – أحد أعضاء فرقة رمسيس – وقيل عنه: درس المسرح في فرنسا كي يكون مقلداً للأدوار التي شاهدها في فرنسا ولم يستطع أن يبتكر. وهو ناجح في أدوار الملك أوديب ولويس الحادي عشر ولكنه لا يصلح في الأدوار العاطفية. وارتباط الجمهور به من خلال صوته الجهوري. أما (زكي طليمات) – لأنه كان على خلاف مع يوسف وهبي في تلك الفترة – فقال عنه إبراهيم المصري: "أدركت تماماً أن مصر أنجبت ممثلاً عظيماً وأن مستقبل التمثيل عندنا يجب أن يشرف عليه هذا الممثل. وأنه يجب أن يتخذ لسائر ممثلينا مرشداً مطاعاً وقدوة صالحة ومثالاً يحتذى". وهكذا تناولت المجلة أبطال المسرح المصري، تارة بالمدح وأخرى بالقدح! وممن تحدثت عنهم: حسين رياض، عمر وصفي، منسى فهمي،

رسائل منشورة

تحت هذا العنوان، نشرت المجلة رسائل القُراء .. ومن العجيب أن كل الرسائل كانت تخص شخصاً واحداً، هو (محمود مراد)!! ففي العدد الخامس، نشرت المجلة رسالة تحت عنوان (العبرة على مسرح الأوبرا الملكية)، أرسلها سعد الكفراوي تعليقاً منه وتعريفاً بأهمية مسرحية (العبرة)، التي ألفها محمود مراد عام 1921 لفرقة سيد درويش وعمر وصفي، والتي تمثل – في هذا الوقت - في الأوبرا .. ولكن الجديد أن الكاتب قال عن تمثيلها أول مرة عام 1921: "وقد أجادت تلك الفرقة تمثيلها حتى بلغ من إعجاب أحد كبار الكتاب الفرنسيين بها أن كتب مقالين ضافيين في مجلات أوروبا التي تصدر في باريس حلل فيها تلك الرواية تحليلاً دقيقاً وسماها نهضة مصرية. وقد علقت على ذينك المقالين كبريات جرائد باريس وبروكسل". وفي العدد الثامن، نشرت المجلة رسالة مضادة من أحد القُراء، لما جاء في الرسالة الأولى!!

وفي العدد الثامن أيضاً، نشرت المجلة رسالة من (حسن حلمي)، قال فيها: "تشرفت بمعرفة محمود مراد أفندي المدرس بالمدرسة الخديوية فأظهر لي كل المحبة والميل وطلب مني أن أساعده في إحياء فن الموسيقى والتمثيل على أن يساعدني هو أدبياً. فتطوعت لذلك ولكني أسفت جداً حينما قرأت في جريدة (المقطم) خبر الحفلة التي أقيمت بدار التمثيل وكنت ضمن المشتغلين والمتطوعين فيها والمؤلف لجميع الموسيقى التصويرية الموضوعة برواية (توت عنخ آمون)، الذي إدعاها مراد أفندي لنفسه. نعم أسفت لعدم ذكره اسمي واعترافه بأي مجهود لي كما لم يعترف إليّ أيضاً بشيء في رواية (مجد رمسيس). مع إني أنا واضع ألحانها لا هو. إن مراد أفندي يدعي امتلاك هذه الألحان مع أنها ليست له بالمرة وهو في الحقيقة بعيد عن الموسيقى علماً وعملاً". وعلقت إدارة المجلة على هذه الرسالة بقولها: "نرجو أن يسرع الأستاذ محمود أفندي مراد بنقض هذه التهمة عنه وأن صحيفتنا مستعدة لنشر دفاعه عن نفسه".

الرائع في هذه القضية، أن محمود مراد لم يرد .. ومن ردّ نيابة عنه فنانان، الأول كان (محمود رحمي) أستاذ الموسيقى، الذي قال: ".. أما رواية مجد رمسيس فموقعها هو حضرة الأستاذ محمود أفندي مراد ولا دخل مطلقاً لحسن أفندي حلمي في تلحينها أو كتابة نوتتها اللهم إلا بضعة أسطر في الموسيقى التصويرية التي تخللت الألحان. على أن حضرة الأستاذ محمود أفندي مراد لم يغفل ذكر ذلك في برنامج الحفلة. أما واضع ألحانها فشخصي الضعيف ولم يكن لحسن أفندي حلمي أي علاقة أو فضل في ذلك لأن كاتبها بالنوتة هو حضرة مراد أفندي وهو الذي وضع أيضاً باقي الموسيقى التصويرية. أما رواية توت عنخ آمون فمؤلفها حضرة الأستاذ محمود أفندي مراد وهو الواضع لموسيقتها التصويرية وكاتب نوتتها أيضاً أما حسن أفندي حلمي فغاية ما هناك كان يوقع ألحانها على اللفيولونشللو أثناء البروفات وليس له أن يدعي أي حق فيها وقد قمت بنفسي بتلحين عدد عظيم في ألحانها كما اقتبس حضرة مراد أفندي بعض ألحان تناسب السياق والمعنى من موسيقى المرحوم الشيخ سيد درويش وقد قررت هذا لحضرتكم تقريراً للحقيقة".

أما الآخر، الذي أدلى بشهادته، فكان الموسيقار الكبير فيما بعد، والموسيقي الشاب حينها (محمد عبد الوهاب)، الذي قال: "أدهشني إدعاء حسن أفندي حلمي إنه واضع الموسيقى التصويرية برواية توت عنخ آمون وإني أقرر هنا خدمة للحقيقة إني كنت دائماً أرى مسودات تلك القطع الموسيقية بخط مؤلفها محمود أفندي مراد مكتوبة بالنوتة وفوقها الإرشادات والاصطلاحات باللغة الأفرنجية وأنه كان يحدثني عنها وعن فكرته فيها قبل أن يراها حسن أفندي حلمي".

مسابقة

الجدير بالذكر إن مجلة (التمثيل)، أقامت مسابقة مسرحية مكتملة وحيدة، عبارة عن سؤال، قالت فيه: من هو أعظم ممثل درام في مصر، وما هي الخمس مميزات التي تجعله في عيونكم عظيماً؟ أما الجائزة، فكانت اشتراك سنة كاملة للمجلة مع أعمال المرحوم محمد تيمور، وهي ثلاثة أجزاء تبرع من محمود تيمور!! وفي الموعد المحدد، أعلنت المجلة عن الفائز، وهو (إسماعيل لبيب) .. أما أفضل ممثل، فكان (زكي طليمات)، وذلك للأسباب – أو المميزات الخمس – التي أوردها الفائز، وهي: يستطيع حفظ توازنه على المسرح، وحركاته طبيعية غير متكلفة موافقة للعاطفة التي يمثلها لا تسبق إحداهما الأخرى، وإلقاؤه طبيعي غير مسترخ متنوع متناسق مع المعنى يتقد فيه الإحساس، ويخلص في تمثيل دوره فيفرغ قصارى جهده في تطبيق معلوماته عن خواص الشخصية التي يمثلها ويجتهد في أن يصبها فيها صباً طبيعياً عند إبرازها، وأدرى بشؤون المسرح وأوسع إطلاعاً.

متفرقات

هناك أبواب وأقسام أخرى في المجلة غير معنونة، أو عناوينها دائمة التغيير، ومنها باب اسمه (بين الكوتليس)، وهو باب فكاهي، كان يحرره (القزم الصغير)، بحيث يتحدث ساخراً عما شاهده بين كواليس الفرق المسرحية المختلفة، أو ما يتخيل أنه شاهده من أجل السخرية والتهكم! ومثال على ذلك تهكمة على غلاء ثمن ملابس دولت أبيض الباهظ في دورها كليوباترا، والتي وصل ثمنها إلى ثلاثين جنيهاً. ناهيك عن حديثه الساخر عن يوسف وهبي ومسرحه.

الغريب في هذه المجلة عدم اهتمامها بالإعلانات!! علماً بأن جميع المجلات – فنية أو أدبية – تقوم أساساً على عائد الإعلانات بها!! فعلى الرغم من صدور خمسة عشر عدداً من هذه المجلة، إلا أنها لم تنشر إلا إعلانين: الأول عن محلات سليم وسمعان صيدناوي وشركاهم بميدان الخازندار بمصر!! أما الإعلان الآخر فكان عن عرض مسرحي سوف يتم عرضه .. والطريف إنه إعلان عن مسرحية لفرقة رمسيس – وربما كان هذا الإعلان من أسباب إيقاف هجوم المجلة على يوسف وهبي وفرقته – ونص الإعلان يقول: "هذا الأسبوع على مسرح رمسيس: (لزقة إنجليزي) رواية ذات ثلاثة فصول تأليف ملك المضحكين فيدو. وتعريب الأستاذ عزيز عيد والأديب السيد قدري. لا يمكن لمشاهد هذه الرواية أن يمنع نفسه عن الضحك المتتابع لكثرة المفاجآت المدهشة والمواقف المضحكة اللذيذة والشخصيات الغريبة. وسوء التفاهم. وغرام التركي. وولع المرأة بمن لا يهتم بها".

 

وتحت عنوان (نصائح للممثلين)، كانت المجلة تترجم بعض العبارات من الجرائد الغربية، ومما نشرته مترجماً في صورة نصائح، قولها: إذا أردت أن تطلق صوتك وتقوي حنجرتك فاشرب قبل أن تمثل بنصف ساعة فنجاناً من القهوة الساخنة مع قطعة صغيرة من الزبدة .... هذب عقلك بمختلف المعلومات والمطالعات فكل ما زاد علمك، كل ما استطعت أن تطبع أدوارك بطابع خاص بك وتميز نفسك عن بقية الممثلين التافهين. وتساعد المؤلف في تقريب معنى الرواية للناس ....... يجب أن تكون على علم بفنون الرقص والمبارزة والملاكمة والعزف على البيانو فذلك يفيدك في أغلب الروايات العصرية ..... عليك بدرس دورك قبل تمثيله درساً نفسانياً وخلقياً دقيقاً. وتقطيع جمله حسب معانيها. والنظر إلى علاقة دورك ببقية الأدوار ومجموع الرواية ولا يجب أن تبدل كلمة فيه، أو تنقص حرفاً منه لأنه من الضروري أن تعتقد بالأمانة المطلقة لما وضعه المؤلف!

المصدر: مقال منشور في مجلة (كواليس) الإماراتية – عدد 38 – مارس 2014 – ص(54 - 61)
sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 647 مشاهدة

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

755,650