مريانا مرّاش الحلبية .. رائدة الصحافة العربية
د. سيد علي إسماعيل
ــــــــــــــــــــ
هل مريانا مرّاش الحلبية (1840-1919م) رائدة الصحافة الأولى عربياً؛ لأنها أول امرأة تنشر عملاً كتابياً في الصحافة العربية؟! أم إنها رائدة كون عملها الأول في الصحافة؛ كان بمثابة عمل خارق ذي أثر وتأثير في تاريخ الصحافة العربية؟! العجيب أن كل من كتب عن مريانا مرّاش اهتم بريادتها في الحقيقة التاريخية؛ كونها صاحبة أول عمل منشور في الصحف العربية، ولم يهتم بريادتها في الواقع من حيث الأثر والتأثير!! وربما السبب في ذلك أن الكُتّاب ظنوا – من وجهة نظري - أن ما كتبته مريانا لا أثر له، ولا تأثير؛ لأنه محاولة أوّلية لا ترقى إلى الكتابات ذات الأثر والتأثير؛ خصوصاً وأن الحصول على عملها الأول المنشور في الصحف العربية عام 1870م – للتعرّف على قيمته - يُعد ضرباً من المستحيل!
يُضاف إلى ذلك أن أول من ألبس مريانا مرّاش تاج الريادة الصحفية، هو الفيكونت فيليب دي طرازي - أشهر مؤرخ للصحافة العربية على الإطلاق - صاحب كتاب (تاريخ الصحافة العربية) المنشور عام 1913م؛ لأنه أول من كتب ترجمة شاملة عن مريانا مراش في كتابه هذا، تحت عنوان "مريانا مراش أوّل سيدة عربية كتبت في الصحف السيارة "، أي أنها الرائدة الحقيقية الأولى! وهذا العنوان توارثه كل من كتب عن مريانا، وأثبته كل من كتب عن تاريخ الصحافة العربية، أو أشار إلى دور المرأة في مجال الصحافة العربية. وهكذا أصبحت ريادة مريانا مراش للصحافة العربية ثابتة راسخة؛ لا ينازعها فيها أحد.
وحقيقة هذه الريادة عبّر عنها طرازي بقوله: "وأول مقالة رأيناها لها (شامة الجنان) نشرتها في مجلة (الجنان) في الجزء الخامس عشر لعامها الأول سنة 1870م". وهذا يعني أن أول مقالة صحفية كُتبت بيد امرأة عربية، هي (شامة الجنان) لمريانا مراش، وبالتالي فلها السبق .. أي لها الريادة الحقيقية التاريخية في هذا المضمار. ولكن المفاجأة أن فيليب طرازي – على ما أعتقد – لم يكن دقيقاً؛ عندما اطلع على مجلة الجنان – إن كان اطلع عليها بالفعل - ولم يتحقق من كون مقالة (شامة الجنان)، هي أول مقالة صحفية منشورة من قبل امرأة عربية!! لأن أول مقالة صحفية منشورة كانت بعنوان (هنري وإميليا) "من قلم الست أديليد بستاني" – كما جاء في المقالة - ونُشرت في يونية ويولية 1870م، أما مقالة مريانا (شامة الجنان) فقد نُشرت في سبتمبر عام 1870م!
وبناءً على ذلك تكون السيدة (أديليد البستاني)، هي أول امرأة كتبت في الصحافة العربية، أي إنها رائدة الصحافة العربية من حيث الحقيقة التاريخية! لا سيما أن صاحب المجلة (بطرس البستاني 1819-1883م) – أو مديرها (سليم البستاني 1848-1884م) - أقرّ ضمناً بهذه الريادة، وكتب ملاحظة في نهاية مقالة (هنري وإيميليا)، قال فيها: "إذ كان بعض السيدات يشاركن السادة في قراءة الجنان، يحق للسادة أن يكون لهم شيء من قلم السيدات الرائق اللطيف، وها قد انفتح باب الجنان للسيدات". وهذا القول يثبت دون أدنى شك أن مقالة (هنري وإيميليا) لأديليد البستاني، هي أول مقالة منشورة في الصحف العربية، ومن خلالها فُتح الباب أمام الكاتبات العربيات. وهذا الاكتشاف الجديد يقوي اعتقادنا بأن فيليب طرازي لم يطلع على مجلة الجنان، ولم يتحقق من كون مريانا لها السبق في نشر المقالات الصحفية. فلو اطلع طرازي حقيقة؛ لكان أثبت الريادة لأديليد البستاني.
إذن أصبح جلياً الآن .. أن ريادة مريانا مراش - في الحقيقة التاريخية - لم تكن من حقها؛ بل من حق أديليد البستاني!! وهذا يعني أن تاج الريادة يجب أن يُرفع من على رأس مريانا، بعد أن تقلدته أكثر من 140 سنة، وأن يُوضع الآن على رأس صاحبته أديليد البستاني، الرائدة الأولى الحقيقية تاريخياً. ولكن .. هل الأسرة المرّاشية الحلبية، ذات الشهرة الأدبية الكبيرة منذ القرن الثامن عشر، ورموزها مثل: الشهيد (بطرس مراش) جدّ مريانا، الذي استشهد في سبيل دينه، و(فتح الله مراش) والد مريانا .. الأديب الكبير صاحب المخطوطات اللغوية والأدبية العديدة، و(فرنسيس مراش)، و(عبد الله مراش) – شقيقا مريانا - وهما من أشهر أدباء القرن التاسع عشر .. هل هذه الأسرة برموزها الأدبية تنجب فتاة .. يدعي البعض بريادة لها، ليست من حقها؟! الإجابة عن هذا السؤال تتمثل في مفهوم الريادة عند من قال بريادة مريانا! لأن المقصود بريادتها الصحافية؛ كونها صاحبة الموضوع الأول المشتمل على الأفكار الأولى؛ التي أثرت في الآخرين، فتأثر بها الآخرون وساروا على منوالها، أو استفادوا منها؟!
قلت فيما سبق: إن الحصول على مقالة مريانا الأولى (شامة الجنان)، هو ضرب من المستحيل!! ولكن هذا المستحيل تحقق بالفعل، واستطعت الحصول على هذه المقالة - ومقالة أديليد البستاني أيضاً - حيث وجدت أعداد مجلة الجنان في سنتها الأولى، مازالت محفوظة في دير الآباء الدومينكان بالقاهرة. وإذا نظرنا إلى مقالة (هنري وإيميليا)، بوصفها أول عمل كتابي نسائي منشور في تاريخ الصحافة العربية، سنكتشف ريادة جديدة تُضاف إلى السيدة (أديليد البستاني)، وهي ريادة القصة القصيرة! فالمقالة عبارة عن قصة قصيرة، تدور أحداثها حول رابطة الحب الشريف، التي جمعت بين هنري وإيميليا، وتدخل الحسد من قبل صديقتي إيميليا – حنّة ومرتا - عندما قامتا بتدبير مؤامرة؛ لإشعال نار الغيرة بين الحبيبين، وتنجح المؤامرة في إبعاد الحبيبين فترة من الزمن؛ ولكن حنّة تندم على فعلتها، وتعترف بجريمتها، وتنتهي القصة بزواج هنري من إيميليا. وحسب علمي أن هذه القصة، هي أول قصة عربية قصيرة مؤلفة – أو مُعرّبة أو مترجمة - من قبل سيدة عربية، منشورة في الصحافة العربية. وبذلك تكون (أديليد البستاني) – في الحقيقة - رائدة الصحافة العربية، وأيضاً رائدة القصة القصيرة العربية تاريخياً.
أما مقالة (شامة الجنان) لمريانا مرّاش، فكانت مقالة هادفة ذات فكرة محددة، حاولت فيها مريانا إبعاد صفتي البُخل والجُبن عن بنات جنسها من خلال إلصاق صفة الحرص بدلاً من البخل، والشجاعة الأدبية بدلاً من الجبن. والواضح أن فكرة المقالة، كانت إفرازاً طبيعياً لعملية عقلية ذهنية عايشتها مريانا، وأصبحت قضية تشغلها فترة من الزمن، وما أن اختمرت في ذهنها، واكتملت جوانبها، أنتجتها في هذه المقالة، التي تحمل عنواناً فريداً (شامة الجنان)؛ أي (علامة الجنان)، أي المقالة البارزة لمجلة الجنان، أو الصفة المميزة للمجلة .. إلخ هذه المعاني، التي تثبت أن هذه المقالة بصمة غير مسبوقة لأفكارها ولصاحبتها. وفي ظني أن هذا العنوان لم تكتبه مريانا، بل هو من أفكار صاحب المجلة بطرس البستاني – أو مديرها سليم البستاني – لأنه عنوان لم يُكتب على رأس المقالة، بل جاء على رأس الصفحة التي نشرت فيها المقالة – مع نهاية مقالة سابقة أخرى بعنوان (المحاكمات في مصر) – والدليل على ذلك أن بداية المقالة جاءت منشورة هكذا: "ورد إلينا من حلب من قلم السيدة مريانا فتح الله مراش شقيقة فرنسيس أفندي مراش المشهور ما يأتي"، ثم بدأت المقالة ببيتين للمتنبي. وإذا كانت مريانا كتبت عنواناً لمقالتها، لكانت المجلة أشارت إليه في قولها السابق. وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن إدارة المجلة، وجدت فيما كتبته مريانا ما يُعد ريادة فكرية، تستحق أن تعنون بـ(شامة الجنان).
ومن الجدير بالذكر إن مريانا لم تبث أفكارها – في هذه المقالة – بصورة بدائية أوّلية، بل بثتها بصورة احترافية، تنم عن مقدرة وريادة واقعية مستحقة، حيث عززت أفكارها بوسائل متنوعة، منها: التمثيل، عندما تحدثت عن مكانة المرأة المتمدنة في أوروبا، والاستشهاد، عندما استشهدت ببيتين للمتنبي، وصف فيهما المرأة بالبخل والجبن، قائلاً:
بِنَفسي الخَيالُ الزائِري بَعدَ هَجعَةٍ وَقَولَتُهُ لي بَعدَنا الغُمضَ تَطعَمُ
سَلامٌ فَلَولا الخَوفُ وَالبُخلُ عِندَهُ لَقُلتُ أَبـو حَفصٍ عَلَينا المُسَلِّمُ
أما المقارنة بين الرجال والنساء – كوسيلة لتعزيز فكرتها - فقد استخدمتها مريانا كثيراً في مقالتها، كذلك التعليل، كان من الوسائل المستخدمة، لا سيما في شرحها لبيتي المتنبي، قائلة: " فقد حق للشاعر بعصره أن يتغزل بهاتين الصفتين في النساء لأنه وقتئذ كان دأب الرجال الغزو والضرب والنهب وأخذ الثأر. وأما النساء فكن محجوبات في خدورهن". كما استخدمت مريانا التفسير كوسيلة من وسائل تعزيز فكرتها، عندما فسرت المقصود بالشجاعة الأدبية؛ بأنها " الصبر على الحوادث واحتمال الأكدار والكوارث" لا "الجسارة والاقتحام نظير الرجال". ولم تكتف مريانا بما أوردته من أفكار، بل بثت في مقالتها دعوة جريئة لبنات جنسها – في هذا الوقت المبكر - بدفعهن إلى الإسهام في ميدان الآداب والمعارف، قائلة: "هلمنّ بنا نتسابق في ميدان الآداب والمعارف، ولا نصغى لما اقترف به علينا بعض المغرضين بنفيهم عنا صلاحيتها". وأخيراً اختتمت مريانا مقالتها ذات الأفكار الرائدة، بدعوة بنات جنسها إلى الكتابة في مجلة الجنان، قائلة: "فلنتمنطق إذاً بالحكمة والفطنة، ولنتحلّ باللطافة والدعة، ولنتكلل بزهور ذلك الجنان الذي قد تفضل بستانيه الفاضل بفتح بابه لنا لتنزهات أفكارنا واقتطاف أثمار الفوائد منه رافعات رؤوسنا بالافتخار والنصر، ولا نكن في جبن وبخل كما قيل عنّا فنعم الجنان والرضوان".
ومما سبق يتضح لنا ريادتان نسائيتان، الأولى ريادة حقيقية - من حيث السبق - لأديليد البستاني، والأخرى ريادة واقعية - من حيث الأفكار والدعوات الجريئة - لمريانا مرّاش؛ ولكن هذا الحكم، يظل حكماً نظرياً فاقداً للتطبيق العملي، ويحتاج منّا إلى تتبع هاتين الريادتين؛ لنتعرّف إلى أثرهما في الكتابات النسائية فيما بعد؛ لأن من المحتمل أن أديليد البستاني، تكون قد أثرت في غيرها بما كتبته، حتى ولو كان إبداعاً قصصياً؟! أليست قصتها القصيرة، (هنري وإيميليا)، تحمل أفكاراً ودعوات بنبذ الحسد والغيرة بين النساء؟!
لقد تتبعت أعداد مجلة الجنان، التي صدرت بعد مقالتي أديليد ومريانا، ووجدت مقالة منشورة بعنوان (التربية) – في المجلد الأول للسنة الثانية، الجزء الثاني عام 1871م – "من قلم السيدة وستين مسرة زوجة سليم أفندي حموي في الإسكندرية"، التي أشارت إلى الكتابات النسائية السابقة، قائلة لصاحب المجلة: "أجليت عياني بما تكرمت بنظمه الست أديليد بستاني بجزء 12 و13 المعنون بهنري وإميليا". وبعد عدة أسطر قالت أيضاً: "على أنني لا أغفل عن مدح محاسن ما أتت به السيدة مريانا فتح الله مراش بجملتها المعنونة شامة الجنان". وإذا قارنا بين العبارتين، سنجد أن الكاتبة تُشير فقط إلى أسبقية أديليد في الكتابة، وتحدد عملها بأنه كان نظماً. وربما في مفهوم الكاتبة أن النظم – الذي يعني الشعر – هو الإبداع الأدبي عموماً، شعراً كان أم قصة. أما ما ذكرته عن مريانا فيحمل المدح الكبير لما جاءت به من أفكار مؤثرة، وإن لم تكن بصورة صريحة. ولكن المقارنة تفيد بأن الكاتبة – ضمناً – تأثرت بما كتبته مريانا، ولم تتأثر بما نظمته أديليد.
والدليل على هذا الطرح؛ أن الكاتبة تبنت معظم أفكار مريانا، مرة بمعناها، وأخرى بفحواها. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها قولها: "وقد اعتصمت بحبل الأمل وقلت لا بُدّ من يوم نطرد فيه عناء الخوف والوجل ونرمح في ميادين الأدب بالقول والعمل". وبعد عدة أسطر، نجدها تقول: "فما لنا لا نخلع عنا أثواب التواني والكسل. ونلبس أثواب النشاط ونقدم على العمل، ونحن من بنات القرن التاسع عشر الذي فاق بالتمدن كل قرون البشر. كيف لا نبين للرجال لزوم دخول النساء إلى جنات العلوم الأدبية". وأخيراً نجدها تقول: "هيا بنا نتسابق إلى جني ثمار العلم والآداب. فتنفتح لنا في منازل الفضل أبواب. فإن قال الرجال إنكن لا تزلن مقصرات. نجيب بالصبر والثبات تنال الغايات". وهذه الأقوال - في مجملها – هي أفكار مريانا، التي بثتها أول مرة في مقالتها (شامة الجنان)، وهذا يعني أن أثرها كان واضحاً جلياً في الكتابات النسائية فيما بعد. ومن الجدير بالذكر أن السيدة وستين مسرة، تأثرت بأفكار مريانا، لا من أجل تكرارها؛ بل من أجل البناء عليها في مقالتها (التربية)، التي عالجت فيها الأسلوب الأمثل في تربية الأبناء؛ أي أن أفكار مريانا دفعت الكاتبة وستين إلى التوسع في معالجة الأمور، والابتكار فيها؛ وربما أصبحت أفكار مريانا أساس مقالات وستين مسرة؛ التي كتبتها في مجلة زوجها - سليم حموي – (الكوكب الشرقي)، التي أصدرها عام 1873م.
لم تكتف مريانا بأثر أفكارها في كتابات غيرها من النساء - وتقلدها ريادة الصحافة في الواقع - فقررت أن تقتحم - في مقالتها الثانية – مجال النقد الصحفي، لتثبت أن ريادتها؛ ريادة ملموسة على أرض الواقع. ولشدة جرأة هذه الرائدة، أنها اختارت في نقدها أسلوب الهجوم على كتابات الغير، وحددت موضوعها بالهجوم على من يكتب في غير مجاله – أو تخصصه – فيضطر إلى تدعيم كتاباته بأفكار مسروقة من المختصين، وعنونت مقالتها بـ(جنون القلم)، ونشرتها في مجلة الجنان أيضاً – السنة الثانية، الجزء الثالث عشر 1871م، وقد عبّرت عن أصحاب هذا القلم المجنون بأنهم "أخذوا يسرقون له من أثمار بعض أراضٍ فلحها وحرثها غيرهم، ويأتون بها فيمزجونها بعقاقير أفكار وحشة عديمة الفلاح ويغذونه بها. وجمعوا له أيضاً بعض حُلي مسروقة من أغنياء العقول وتأليفات الذين صرفوا حياتهم بالجد والتعب إلى أن كنزوها فسرقت منهم ليلاً".
وعلى الرغم من جرأة مريانا فيما طرحته من نقد في هذه المقالة، إلا أننا لم نجد أثراً له فيما كتبته النساء – فيما بعد طوال ثلاث سنوات – خلافاً لما وجدناه من أثر لأفكار مقالتها الأولى – وكذلك مقالة التربية لوستين مسرة – في مقالة (في النساء) "من قلم حضرة الست فريدة قرينة المرحوم منصور شكور"، التي نشرتها في الجنان أيضاً – بتاريخ 15/4/1874، وفي هذه المقالة أعادت الكاتبة صياغة أفكار مريانا ووستين؛ لتعالج موضوعها عن تربية البنات من أجل إعداد الأسرة المتمدنة مستقبلاً. وفي العام التالي نشرت الكاتبة نفسها – السيدة فريدة – مقالتها الثانية (التقدم الحقيقي) – في الجنان بتاريخ 1/6/1875، وفيها استخدمت أيضاً أفكار مريانا ووستين في معالجة موضوعها الجديد عن تعليم البنات؛ بمناسبة افتتاح مدرسة السيوفية للبنات في القاهرة.
ويمكننا إجمال أفكار مريانا الأولى - التي تطورت، وتوسعت على يد السيدتين: وستين وفريدة – في الدعوة إلى تحلي النساء بالشجاعة الأدبية، والإسهام بالقول والعمل في مجالي الآداب والمعارف، والمشاركة بكتاباتهن في الصحافة، واتخاذهن أفضل الأساليب في تربية أبنائهن، والاهتمام بتعليم البنات. وهذه الدعوات في العقد السابع من القرن التاسع عشر، كانت بمثابة أحلام خطتها المرأة على الورق؛ ولكن هذا الورق طُبع، وأصبح متداولاً بين القُراء في شكل مجلة سيارة، يطلع عليها المثقفون والأدباء.
ومن المحتمل أن هذه الأفكار شغلت أغلب النساء وقتئذ؛ فقامت مجموعة منهن بتكوين جمعية علمية أدبية نسائية عام 1880م، أُطلق عليها اسم (باكورة سورية)! واللافت للنظر أن أهداف هذه الجمعية، كانت مستوحاة من أفكار مريانا ووستين وفريدة، مثل؛ ترويض عقول النساء " بالخطب والمباحثات العلمية والأدبية، والنظر في ما من شأنه تحسين الهيئة الاجتماعية بين النساء ...... حتى تقاسم المرأة الرجل أشغاله علماً وأدباً، ويسعيان بيد واحدة نحو إصلاح المعيشة العائلية، وتحسين الهيئة الاجتماعية"، كما جاء في مجلة (المقتطف) عام 1880. وهذه الجمعية – بعد عام واحد – استطاعت أن تطبع كتاباً، جمعت فيه ست خُطب للسيدات، أُلقيت باسم الجمعية، وموضوعاتها، هي: الغاية التي خلق الإنسان لأجلها، وتهذيب العقل، والكتب ومطالعتها، والارتقاء، وحياة الإنسان وواجباته، وحقوق النساء .. هكذا أخبرتنا مجلة (المقتطف) عام 1881.
ومن آثار هذه المحاضرات – سواء بالإلقاء، أو النشر – ما ذكرته إحدى الفتيات المتأثرات بنشاط الجمعية، قائلة في مجلة المقتطف عام 1881: " وودت لو فتحت لي عوائد هذا الجيل باب المناقشة فأناقش عن بنات جنسي جهاراً وأحثهن على العلم والأدب والتمدن والتهذيب". كذلك نجد السيدة مريم سركيس تكتب مقالة – في مجلة (المقتطف) نوفمبر 1881م - عن (فوائد المطالعة) بالنسبة للنساء، وتندب فيها حظهن؛ لعدم وجود صحف خاصة بهن! أي أن التأثير – في هذا الوقت – وصل إلى حد المطالبة بصحف نسائية!! واستمرت الكتابات النسائية في الصحف العربية – خصوصاً مجلة المقتطف – تدور في فلك أحلام النساء، المستوحاة من أفكار مريانا وزميلتيها، حتى عام 1884م، عندما تحولت هذه الأحلام والأفكار إلى حقوق نسائية؛ يجب المطالبة بها!!
كتبت السيدة مريم جرجي إليان مقالة بعنوان (حقوق النساء ووجوب تعليمهن) – نُشرت في المقتطف، مارس 1884م، تحدثت فيها بأفكار مريانا وزميلتيها بصورة موسعة مع إضافات عديدة، اختتمتها قائلة: "أقول ولا أخشى لومة لائم: إن للنساء حق ما للرجال من المساواة في الهيئة الاجتماعية، وأن وجود هذه المساواة في بلاد دليل تقدمها وارتقائها ..... وها أنا أنادي الرجال بلسان بنات جنسي قائلة: لن تبلغوا معالي الفخر والكمال؛ إن لم تسرعوا لتعليم بناتكم العلوم والآداب". وهذا النداء ظل نداءً – طوال عامين – دون استجابة من أي رجل!! ولكن في يونية 1886م، استجاب وديع الخوري، وأثنى على صاحبة النداء، وعضد حقوق المرأة – كما وردت في مقالة مريم – بمقالة مسهبة في هذا الشأن، ومن ثم شرع في تأليف كتاب حول هذه الحقوق، أطلق عليه (المرأة وحقوقها الواجبة وأثرها المشكور). ومما سبق يتضح لنا أن ريادة مريانا للصحافة العربية؛ كانت ريادة واقعية ذات أثر وتأثير في كتابات النساء فيما بعد.
ساحة النقاش