المسرح العربي المجهول

الحلقة الثانية : (مسرحية صلاح الدين الأيوبي)

أ.د سيد علي إسماعيل

ـــــــــــــ

ارتبطت شخصية صلاح الدين الأيوبي ارتباطاً وثيقاً بالقضية الفلسطينية؛ فكلما تأزمت قضية فلسطين، تمنى الجميع عودة صلاح الدين ليعيد بيت المقدس إلى أصحابه، وهذه العودة تنوعت وتشكلت بأشكال إبداعية مختلفة شعراً وقصة ومسرحية، وأصبح توظيف شخصية صلاح الدين الأيوبي التوظيف الرئيس في أغلب الإبداعات الأدبية المعالجة للقضية الفلسطينية. وفي مقالتنا هذه سنتحدث عن المجهول في دخول شخصية صلاح الدين الأيوبي مجال المسرح العربي!!

البداية إنجليزية

تألق المسرح العربي في مصر – في أواخر القرن التاسع عشر - بفضل مجموعة من الشوام، استطاعوا أن ينشروا هذا الفن – باللغة العربية - على نطاق واسع، أمثال: سليم خليل النقاش، وأديب إسحاق، ويوسف الخياط، وسليمان القرداحي، والقباني، وإسكندر فرح .. إلخ. ومن هؤلاء كان (سليمان الحداد) – والد المترجم المسرحي الكبير نجيب الحداد، وابن خالة المسرحي سليمان القرداحي - وصهر أكبر الأسر الأدبية في لبنان، وهي الأسرة اليازجية. فقد تزوج سليمان الحداد من ابنة (ناصيف اليازجي)، فأصبح نسيباً لكل من العالمين الجليلين خليل وإبراهيم اليازجي، وارتبط بهما وبعلمهما. بدأ سليمان الحداد حياته العملية في مصر مدرساً للغتين العربية والفرنسية منذ عام 1873. ومع انتشار المسرح العربي في مصر على يد الشوام، هوى سليمان التمثيل المسرحي، فترك التدريس وانضم ممثلاً إلى بعض الفرق المسرحية منذ عام 1884م، حتى جاءته الفرصة لتكوين فرقة مسرحية خاصة به عام 1893.

أراد سليمان الحداد أن يفتتح موسم فرقته المسرحية الأولى بصورة قوية، لا سيما وأنه حصل على امتياز التمثيل في دار الأوبرا الخديوية لبضعة أيام، وهي الدار المخصصة فقط لتمثيل الفرق الأجنبية!! وتمثلت العقبة الكبرى لهذا الافتتاح في اختيار موضوع العرض المسرحي الأول! خصوصاً وأن أغلب العروض – في تلك الفترة – كانت مُترجمة أو مُعربة، وهو الأسلوب الأمثل لضمان نجاح العروض المسرحية في مصر. وهذه العقبة تصدى لها ابنه (نجيب الحداد 1867 - 1899) المترجم في جريدة الأهرام المصرية وأحد محرريها، عندما وقع اختياره على رواية (الطلسم Talisman The) أو (التعويذة) للكاتب الإنجليزي السير والتر سكوت (Sir Walter Scott) (1771 - 1832)، وهي رواية تحكي قصة شجاعة صلاح الدين الأيوبي في الحروب الصليبية، وكيف استطاع بنبله وشجاعته أن يحوّل أعداءه إلى أصدقاء.

هذه الرواية قام نجيب الحداد بتعريبها مسرحياً تحت اسم (السلطان صلاح الدين الأيوبي مع ريكاردوس قلب الأسد)، وقدمها والده سليمان الحداد على خشبة دار الأوبرا الخديوية يوم 28/3/1893 في افتتاح فرقته المسرحية الأولى. فهكذا عرف جمهور المسرح العربي شخصية صلاح الدين الأيوبي بصورة مسرحية لأول مرة عام 1893، والطريف أن هذا التعارف جاء من خلال رؤية الكاتب الإنجليزي لهذه الشخصية العربية الإسلامية، ولم يعرفها الجمهور المسرحي العربي من خلال الرؤية العربية أو التأليف العربي للمسرح في تلك الفترة؛ لأن التأليف المسرحي لم يشتد عوده بعد، ناهيك عن (عقدة الخواجة)، التي لازمت المسرح العربي في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين من خلال الترجمة والتعريب والتمصير والاقتباس.

نجحت فرقة سليمان الحداد في عرض مسرحية (صلاح الدين الأيوبي) لأول مرة في تاريخ المسرح العربي، ولأهمية هذا العرض – فنياً وتاريخياً – كتبت جريدة (المقطم) بتاريخ 29/3/1893 - أي في اليوم التالي للعرض - كلمة قالت فيها تحت عنوان (الجوق العربي في الأوبره الخديوية): "كانت الليلة البارحة أولى الليالي الخمس التي عزم الجوق العربي بإدارة حضرة الأديب سليمان أفندي الحداد على إحيائها بتمثيل الروايات العربية في الأوبره الخديوية، فمثل رواية صلاح الدين الأيوبي وريكاردس قلب الأسد، وهي مأخوذة عن قصة شهيرة أسمها الطلسم (تلسمن) وضعها السير ولتر سكوت الإنكليزي الشهير، وضمنها بعضاً من الوقائع التاريخية في ذلك العصر بعد أن تصرف بها كما يقتضيه المقام. وقد أفرغ حضرة الأديب نجيب أفندي حداد بعض حوادثها في قالب الروايات التمثيلية، ووشاها بالأشعار الرائعة ومثلت أمس في الأوبره الخديوية أمام جمهور غفير من نخبة الوجهاء والأدباء؛ فأجاد الممثلون في تمثيل ما تضمنته من العواطف حتى أمسينا والعيون شاخصة إلى ما يبدو أمامنا من المشاهد الشائقة. والقلوب خافقة لتناولها عوامل متفارقة بين الحزن والفرح؛ فكأنها مرآة تنعكس فيها أشباح الممثلين وصور عواطفهم فتؤثر فيها تأثيراً يختلف باختلاف المؤثرات وتتنوع بتنوع الانفعالات. وقد كان في جملة الذين أجادوا في التمثيل ممثل صلاح الدين الأيوبي؛ فمثل رصانته وحكمته وشجاعته وعدله في الرعية أحسن تمثيل، وأجاد ريكاردس الملقب بقلب الأسد كل الإجادة وهو على فراشه يشكو تباريح الألم، وقد نغص عيشه وزاد سقمه واعتلاله ما كان يراه من تهاون الملوك المتحدين معه وتقاعدهم عن الحرب والجلاد. وأحسنت شقيقته جوليا في تمثيل شعائر الحب والهيام لذلك الفارس الجميل الذي خلب القلوب بما أبداه من حُسن البيان، عندما وقف حائراً في أمره لا يدري أيجيب داعي الشرف فيبقى قائماً على حراسة العلم الذي وكلت إليه حراسته، أم يجيب دواعي الهوى ويلبي نداء حبيبته. أما البارون عشيق جوليا فطرب الأذان بنغماته الشجية وحرك الأشجان بأنشاده الرخيم حتى ود الحاضرون لو طالت ساعات إنشاده ولو أنهم كلهم أذان لاستماع ألحانه. وخلاصة القول أن هذه الليلة كانت جامعة لكل ما يقر الناظر ويسر الخاطر فانصرف الحاضرون وهم يثنون ويشكرون".

وكما كانت مسرحية (صلاح الدين الأيوبي) هي مسرحية افتتاح فرقة سليمان الحداد في أيامها المحددة في الأوبرا الخديوية، كانت أيضاً آخر عرض اختتمت به الفرقة هذه الأيام، وذلك بناءً على رغبة الجمهور كما أخبرتنا بذلك جريدة (المقطم) يوم 4/4/1893. ورغم نجاح عروض الفرقة؛ إلا أن سليمان الحداد حلّ فرقته المسرحية الأولى بعد عدة أشهر، وعاد مرة أخرى إلى مهنة التدريس.

عروض الفرق الأخرى

ابتعاد سليمان الحداد عن المسرح، أتاح لبقية الفرق تمثيل مسرحية (صلاح الدين الأيوبي)، لا سيما فرقة سليمان القرداحي – ابن خالة سليمان الحداد – فمثلها لأول مرة يوم 14/9/1893 على خشبة الملهى الوطني – وهو مسرح شعبي متواضع – وبعد عدة أشهر طاف بالمسرحية بعض الأقاليم المصرية، حيث عرضها بالمنصورة في فبراير 1894 وحضر العرض مدير المنصورة (المحافظ)، وحكمدارها (مدير الأمن)، وبعض الوجهاء وكبار التجار، ومن المنصورة انتقل بالعرض إلى المحلة الكبرى فنال إعجاب جمهورها، كما أخبرتنا جريدة الأهرام يوم 3/2/1894. وبسبب نجاح عروض فرقة سليمان القرداحي في الأقاليم المصرية، أقامت مديرية الزقازيق مسرحاً خاصاً لها لتقديم عشرة عروض مسرحية متتالية، وكان عرض مسرحية (صلاح الدين الأيوبي) هو عرض افتتاح هذه الليالي، التي بيعت للجمهور بنظام الاشتراك لرؤية جميع العروض بتخفيض كبير شريطة الدفع مقدماً، هكذا أخبرتنا جريدة الأهرام يوم 13/3/1894.

وبالرغم من ارتباط مسرحية (صلاح الدين الأيوبي) بسليمان الحداد وفرقته، بوصفه أول من قدمها باللغة العربية على المسرح، إلا أن انتشارها وترسيخها في تاريخ المسرح العربي يرجع إلى إسكندر فرح؛ لأنه عرضها لمدة عشر سنوات – في شبه احتكار لفرقته – لا سيما بعد أن أصبح (نجيب الحداد) كاتبه المسرحي الأولى. هذا بالإضافة إلى وجود نجم نجوم المسرح الغنائي الشيخ (سلامة حجازي) كبطل لفرقة إسكندر فرح. وإذا أردنا تتبع عروض فرقة إسكندر لهذه المسرحية طوال عشر سنوات، سيصعب علينا هذا التتبع في هذه المقالة؛ لذلك سنشير إلى بعض العروض المهمة.

أول عرض قامت به فرقة إسكندر فرح لمسرحية (صلاح الدين) كان في الأول من مايو سنة 1894، وكان بطولة الشيخ سلامة حجازي، وأُقيم بدار الأوبرا الخديوية. والعرض الثاني كان بعد أسبوع واحد فقط، وأُقيم بمسرح شارع عبد العزيز (سينما أوليمبيا الآن بالقاهرة)، وتمّ تخصيص إيراد العرض للشيخ سلامة حجازي، وهو أسلوب مستحدث في تلك الفترة، ومفاده: أن الممثل النجم ينص في عقده على اختيار عدة ليالٍ – يظن أن الإقبال الجماهيري سيكون كبيراً – ينال فيها الإيراد بالكامل بوصفه بطل الفرقة ونجمها المتألق. وبسبب نجاح عرض (صلاح الدين) قام جرجي زيدان بكتابة ترجمة تاريخية لشخصية صلاح الدين الأيوبي في مجلته (الهلال)، ووضع صورته على غلاف العدد في يونية 1894، وأشار في مقدمة الترجمة أن انتشار شخصية صلاح الدين بين عموم الناس كان بفضل عروض مسرحية (صلاح الدين)، قائلاً في ذلك: " هو السلطان صلاح الدين يوسف الأيوبي، ويلقب بالملك الناصر صاحب الوقائع الشهيرة في الحروب الصليبية وحكايته في حروبه معهم في بيت المقدس مشهورة يتلوها الخاص والعام، وقد أُلفت بها الروايات التشخيصية وغيرها لغرابة وقائعها ولا سيما ما أتاه السلطان من الأعمال الدالة على العظمة والحلم والشهامة في حكايته مع ريكاردوس قلب الأسد ملك إنكلترا وقائد الحملة الصليبية في ذلك العهد".

ومن العروض المميزة لمسرحية (صلاح الدين) من قبل فرقة إسكندر فرح؛ العرض الذي تم في يونية 1897 على المسرح العباسي في الإسكندرية؛ حيث قامت الجوقة الإيطالية بتقديم رقصات توقيعية بين فصول المسرحية، واختتم العرض بفصل تمثيل بانتومايم. أما عرض المسرحية الذي أُقيم في نوفمبر 1897، فقد أسهبت الصحف في وصفه ونجاحه بفضل الملابس الزاهية الجديدة المناسبة للشخصيات، إضافة إلى تألق نجوم الفرقة ومنهم: سلامة حجازي، ولبيبة ماللي، وحسين حسني، وأحمد فهيم كما أخبرتنا بذلك جريدة (الكمال) بتاريخ 7/11/1897. ومن العروض الخاصة لمسرحية (صلاح الدين)، العرض الذي قدمته فرقة إسكندر فرح في فبراير 1898 بمناسبة العيد، حيث قام المطرب العظيم (عبده الحامولي) بالغناء بين فصول المسرحية، وقد أسهبت جريدة (مصر) في وصف هذا العرض بتاريخ 18/2/1898. وفي مارس من العام نفسه قدمت فرقة إسكندر فرح عرض (صلاح الدين) لصالح جمعية الروم الأرتوذوكس السورية المصرية في ليلتها الخيرية، حيث قامت المطربة الشامية (ملكة سرور) بتقديم بعض الأغاني بين فصول العرض، الذي حضره محافظ القاهرة وقنصل روسيا. وفي عام 1903 تبرع إسكندر فرح بإيراد عرض (صلاح الدين) مساعدة منه في إنشاء خط السكة الحديدية الحجازية. وفي عام 1904 قدمت فرقة إسكندر فرح آخر عروضها المميزة لمسرحية (صلاح الدين الأيوبي)، حيث قدمت الفرقة بعد العرض صوراً متحركة (السينماتوجراف/ شريط سينمائي) لأحداث الحرب بين روسيا واليابان، وهذا الأمر أخبرتنا به جريدة (المؤيد) بتاريخ 10/7/1904.

وإذا كانت فرقة إسكندر فرح هيمنت على مسرحية (صلاح الدين) كماً وكيفاً في شبه احتكار لمدة عشر سنوات، فهناك فرق وجمعيات تمثيلية أخرى استطاعت أن تقدم المسرحية على فترات متباعدة طوال هذه السنوات العشر، دلالة على أهمية موضوعها، ومن هذه الفرق: جوق السرور لميخائل جرجس الذي قدم المسرحية في شبين الكوم ببندر المنوفية في فبراير 1896 بطولة السيدة لطيفة والمطرب مصطفى علي، وقدمها مرة أخرى بالقاهرة في أكتوبر من العام نفسه كما أخبرتنا جريدة (الشرق) بتاريخ 10/10/1896، وعرضها للمرة الثالثة في العام نفسه بمناسبة افتتاح مسرحه الجديد (مسرح الكوكب العباسي) بجوار الوابور الفرنساوي (مصنع الثلج)، وعرضها للمرة الرابعة في المنيا، وللمرة الخامسة في أسيوط عام 1897، والسادسة في ملوي بالمنيا، والسابعة في سوهاج عام 1899. وكذلك قدمها جوق بولس قرداحي في سبتمبر 1896، وخُصص إيرادها لمساعدة المدارس الإيطالية الأهلية، وقدمها مرة أخرى في المنصورة في ديسمبر من العام نفسه. أما جوق شبان مصر الوطني برئاسة إبراهيم حجازى – نجل الشيخ سلامة الحجازي – فقد قدم عرض (صلاح الدين الأيوبي) في مديرية رشيد في أكتوبر 1897، وخُصص الإيراد لمساعدة منكوبي الحريق في رشيد، وكان العرض بطولة المطرب الشيخ إبراهيم أحمد، وقدمها مرة أخرى عام 1902 في فاقوس بطولة المطرب الشيخ إبراهيم الإسكندراني. أما الجوق الشرقي الأدبي فقدم (صلاح الدين) في كوم حمادة بطولة المطرب الشيخ إبراهيم أحمد في مارس 1903. كما عرض جوق الاتفاق الوطني مسرحية (صلاح الدين) بطولة رئيس الجوق المطرب مصطفى علي، وقدمها الجوق مرة أخرى في (أبو قرقاص) عام 1904 كما أخبرتنا جريدة المؤيد بتاريخ 8/5/1904.

ومن الجمعيات التمثيلية التي قدمت المسرحية، جمعية الابتهاج الأدبي بالإسكندرية، وقدمتها في فبراير 1896، وقدمتها مرة أخرى في فبراير 1897 وخصصت إيرادها للجمعية الخيرية الأرمنية كما أخبرتنا جريدة (الأخبار) بتاريخ 13/2/1897، وقدمتها للمرة الثالثة في أكتوبر 1900 على مسرح زيزينيا، وخُصص إيرادها لمساعدة عائلات غرقى الباخرة شرقية. كما عرضت المسرحية جمعية الآداب التمثيلية بسوهاج في يولية 1904.

في عام 1905 انفصل الشيخ سلامة حجازي عن إسكندر فرح، وكوّن لنفسه فرقة مستقلة، استطاعت أن تعرض مسرحية (صلاح الدين الأيوبي) عشر سنوات أخرى (1905 – 1915) في شبه احتكار أسوة بفرقة إسكندر فرح! هذا بالإضافة إلى عرض المسرحية من قبل فرق وجمعيات أخرى – في هذه المدة - مثل جوق الاتحاد الوطني لعوض فريد، وشركة التمثيل العربي، التي أصبحت فيما بعد (فرقة أولاد عكاشة)، وفرقة الشيخ أحمد الشامي، وجوق جورج أبيض.

مسرحية فرح أنطون

ظل نص مسرحية (صلاح الدين الأيوبي وريكاردوس قلب الأسد) – الذي عربه نجيب الحداد عن قصة الطلسم للكاتب الإنجليزي والتر سكوت – هو النص المسرحي المعتمد لجميع الفرق المسرحية العربية في مصر منذ عام 1893 حتى عام 1915، أي ما يقرب من ربع قرن والجمهور العربي يشاهد شخصية صلاح الدين من خلال النظرة الإنجليزية. أما النظرة العربية لهذه الشخصية مسرحياً، فلم تظهر إلا في عام 1915، عندما تم عرض مسرحية (صلاح الدين ومملكة أورشليم) تأليف فرح أنطون، ورغم أهمية ذلك؛ فإن هذه المسرحية لم تدخل إلى تاريخ المسرح العربي من باب أنها أول نظرة مسرحية عربية مؤلفة لشخصية صلاح الدين؛ بل دخلت من باب مشكلة قانونية تتعلق بحقوق التأليف والتمثيل!!

في يوم 16/3/1915 أعلنت فرقة عكاشة عن تمثيلها في دار التمثيل العربي لمسرحية (صلاح الدين الأيوبي وفتوحاته) تأليف فرح أنطون. وفي المساء، وقبل رفع الستار اقتحم المسرح رجال الشرطة بصحبة رجل إيطالي، أثبت أن تمثيل هذه المسرحية من حقه، وأخرج الأوراق الرسمية الدالة على ذلك؛ حيث إنه اشترى حق التمثيل من جورج أبيض، وبناءً على ذلك قامت الشرطة بجمع جميع نسخ نص المسرحية من الممثلين والملقن! وأمام هذا الموقف الغريب تقدم المؤلف فرح أنطون إلى الجمهور، وأعلن أن الفرقة ستمثل المسرحية بدون نص أو ملقن! وبالفعل قام الممثلون بعرض المسرحية لأول مرة، معتمدين على الذاكرة وما حفظوه من التدريبات. وقامت جريدة الأفكار بنشر تفسير لهذه الواقعة بتاريخ 18/3/1915، قالت فيه تحت عنوان (حقوق المؤلفين واعتداء الممثلين عليها : رواية صلاح الدين وفتوحاته وجورج أبيض):

"حدث مساء أول أمس في دار التمثيل العربي حادث يستحق إلفات نظر الجمهور إليه لأنه ذو علاقة بحقوق التأليف والمؤلفين وهذا بيانه. كان فرح أنطون منشئ مجلة الجامعة قد اتفق مع جورج أفندي أبيض على أن يمثل له جورج أبيض الرواية الجديدة التي ألفها عن (السلطان صلاح الدين وفتوحاته) وقد كتبا بهذا الاتفاق عقداً مؤرخاً في شهر إبريل الفائت (سنة 1914) وكان الاتفاق على أن يدفع جورج أفندي أبيض إلى فرح أنطون مئة جنيه أقساطاً تدفع على أربعة أشهر كل شهر خمسة وعشرون جنيهاً ابتداء من تسليم الرواية فضلاً عن إحياء ليلة لحساب المؤلف وأن يكون التمثيل بظروف مخصوصة وبشروط مخصوصة. فمرت سنة ولم يدفع أبيض أفندي من الثمن إلا ستين جنيهاً وبقى للمؤلف نحو 40 جنيهاً ولم يمثل الليلة التي هي من حق المؤلف، ولم يمثل الرواية نفسها وبذلك بطل الاتفاق وفسخ العقد الذي بينهما ويظهر أن كونتراتو الاتفاق ينص على أن الرواية هي ملك المؤلف وأنه ليس لجورج أفندي أبيض إلا أنه أنذر فرح أفندي أنطون بواسطة مُحضر من المحكمة المختلطة أنه باع الرواية إلى شخص إيطالي وأنه على المؤلف أن يطالب ذلك الشخص بالمتأخر له من الثمن وأن الشخص الإيطالي أصبح مالكاً للرواية مدة سنتين. أي أن حق ملكية المؤلف نقل إلى الشخص الإيطالي. ومساء أول أمس كان ميعاد تمثيل هذه الرواية (صلاح الدين وفتوحاته) في دار التمثيل العربي فما جاءت الساعة التاسعة مساء حتى دخل إلى المرسح محضر المحكمة المختلطة ومعه مأمور قسم الأزبكية يطلب بناءً على أمر كافي الأمور المستعجلة الحصول على جميع نسخ الرواية والأداء التي مع الممثلين بدعوى أن تلك النسخ مزورة وأن (الإيطالي) يحجز عليها. ولم يحصل تعرض للتمثيل لأن حق التمثيل لمؤلف الرواية والمؤلف متعاقد مع جوق عكاشة فخرج المؤلف إلى الجمهور وبسط له القضية وأعلن أن الرواية ستمثل من غير نسخ منها ولا أدوار. وفي الواقع مثلت الرواية وأجاد الممثلون".

لم تنته المسألة إلى هذا الحد؛ حيث أعلن جورج أبيض عن تمثيل المسرحية بالأوبرا في مساء اليوم التالي من سحب النسخ من فرقة عكاشة! فقامت فرقة عكاشة بالإعلان عن تقديم المسرحية في دار التمثيل العربي في حفلة نهارية، وخفضت الأسعار تخفيضاً كبيراً؛ حتى تجذب الجمهور، وتضمن عدم مشاهدته لعرض جورج أبيض!! وظلت المعركة قائمة بين الفرقتين أسابيع متتالية، وأصبحت هذه المعركة مادة ثرية في إعلانات الفرقتين! فكل فرقة عندما تريد تمثيل مسرحية (صلاح الدين ومملكة أورشليم)، كانت تشير في الإعلان بأنها المسرحية التي ثارت حولها ضجة كبيرة. فعلى سبيل المثال قالت جريدة (المؤيد) بتاريخ 19/4/1915: "(صلاح الدين ومملكة أورشليم) تأليف فرح أنطون هي الرواية الجديدة التي قامت تلك الضجة بسببها في الصحف بعد أن أوقفت نظارة الداخلية تمثيلها للاطلاع عليها أذنت بتمثيلها وسيمثلها جوق عبد الله عكاشة وأخوته في دار التمثيل العربي مساء يوم الخميس أي ليلة الجمعة 22 إبريل". وقالت جريدة (الأخبار) بتاريخ 19/5/1915، تحت عنوان (ليلة الوداع الأخيرة في تياترو الأوبرا): " يمثل جوق أبيض وحجازي في تياترو الأوبرا السلطانية الرواية الجديدة (صلاح الدين ومملكة أورشليم) مساء الخميس 20 الجاري وهي ليلة الوداع الأخيرة وهذه الرواية قامت حولها ضجة كبرى فصلت في بيان يوزع مجاناً ليلة التمثيل وخصصت طلبة المدارس بتخفيض عظيم في الأسعار".

ومنذ ظهور مسرحية (صلاح الدين ومملكة أورشليم) لفرح أنطون عام 1915، أصبح نصها، هو النص المعتمد لجميع عروض الفرق المسرحية العربية حتى ستينيات القرن الماضي، ومن أهم هذه العروض أن سلطانة الطرب (منيرة المهدية)، عندما أرادت دخول عالم التمثيل المسرحي – بعد تألقها في عالم الغناء – دخلت التمثيل من بوابة مسرحية (صلاح الدين الأيوبي)، عندما مثلت فصلاً واحداً منها في تياترو برنتانيا يوم 26/8/1915، كما أخبرتنا بذلك جريدة (الأخبار). وفي عام 1918 كوّن جورج أبيض فرقة مسرحية فرنسية؛ لتقديم روائع المسرحيات العربية باللغة الفرنسية، ومن هذه المسرحيات كانت (صلاح الدين) لفرح أنطون، التي تُرجمت إلى الفرنسية وتم تقديمها إلى الأجانب باللغة الفرنسية في الأوبرا السلطانية، كما أخبرتنا بذلك جريدة (المقطم) يوم 25/11/1918. وفي عام 1931 كان جورج أبيض مسئول وزارة المعارف (التربية والتعليم) للتفتيش الفني على المدارس، ومسئول تدريب الطلاب على التمثيل، ومن خلال وظيفته هذه، قدّم مسرحية (صلاح الدين) لفرح أنطون بواسطة طلاب مدرسة رقي المعارف على مسرح حديقة الأزبكية، وهو المسرح نفسه الذي شهد تمثيل المسرحية نفسها، عندما قدمتها الفرقة القومية المصرية عام 1942 في حفلات نهارية من إخراج سراج منير.

المسرحية وقضية فلسطين

اتجهت شخصية صلاح الدين الأيوبي اتجاهاً مغايراً بعد نكبة فلسطين 1948، حيث أصبحت الشخصية الرئيسية في التوظيف المسرحي تأليفاً وتمثيلاً. وأول من عالج شخصية صلاح الدين الأيوبي مسرحياً – بعد النكبة – المؤلف المسرحي عبد الرحمن الساعاتي أو (عبد الرحمن البنا) - شقيق مؤسس جماعة الأخوان المسلمين (حسن البنا) – عندما ألف مسرحيته (صلاح الدين الأيوبي منقذ فلسطين) عام 1948، وتم تمثيلها في جمعية الشبان المسلمين، وقد أهداها المؤلف إلى شهداء فلسطين، قائلاً : "إلى شهداء فلسطين الأبرار، وأبطال الجهاد المقدس لإنقاذ الوطن الإسلامي وتحرير الأرض المقدسة. إلى المجاهدين والمشردين من أبناء العمومة وإخوان العقيدة والإسلام أهل فلسطين المجاهدة الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله. أهدي هذا القصص من تاريخ الإسلام المجيد، وهذه الصفحة من سيرة البطل الفاتح صلاح الدين التي جلجلت في يوم الزحف، وأعدت لتعمل عملها مع قصف المدافع وأزير الطائرات لإدراك الغاية ورفع الراية وإصابة الأهداف. وما زال الأمل إن شاء الله معقوداً، والرجاء في الله تبارك وتعالى أكيداً أن يعيد الغرباء إلى أوطانهم، ويرفع الظلم عن ديارهم ما سلكوا سبيل المجاهدين، وأقروا بنيهم وذراريهم سيرة صلاح الدين".

وبعد العدوان الثلاثي – إسرائيل وإنجلترا وفرنسا – على مدينة بور سعيد المصرية الباسلة عام 1956، وارتباط هذه الحادثة بقضية فلسطين، فكر المسرحيون في المشاركة الإيجابية الفنية في هذا الحدث، من خلال تقديم مسرحية (صلاح الدين الأيوبي)، وتخصيص إيرادها لمساعدة أسر شهداء مدينة بور سعيد؛ فكتب جورج أبيض خطاباً إلى الرئيس جمال عبد الناصر، قال فيه: " السيد رئيس الجمهورية وبطل مصر المفدى جمال عبد الناصر. يتقدم جورج أبيض تحت لوائكم. لواء النصر والحرية لإحياء ليلة تمثيلية بمسرح الأوبرا يخصص إيرادها لبور سعيد الباسلة ويعرض مشتركاً مع زملائه أبطال المسرح إحدى رواياته الوطنية الخالدة (صلاح الدين وفتح بيت المقدس)، وأملي أن تشملوا هذه الحفلة برعايتكم وتشريفكم لتلمسوا وتتحققوا من أن المسرح العربي في عهدكم حي لم يمت. فقد اكسبتموه من روحكم الوثابة شباباً وازدهاراً لا يمحوهما إشاعات وتقولات المغرضين. وتفضلوا يا سيدي الرئيس بقبول عظيم الاحترام والتقدير". وبعد يومين فقط جاء الرد من مكتب رئيس الجمهورية، بتوقيع تشريفاتي رياسة الجمهورية صلاح سالم، قال فيه: " السيد الأستاذ جورج أبيض، تحية طيبة - إيماء إلى كتابكم بتاريخ 18 ديسمبر 1956، بشأن طلب وضع الحفلة التمثيلية التي تزمعون إقامتها بمسرح الأوبرا تحت رعاية السيد رئيس الجمهورية. والتي سيخصص صافي إيرادها لمساعدة أسر شهداء بور سعيد. نفيد أنه بعرض الأمر على السيد الرئيس، وافق سيادته على إقامة هذه الحفلة التمثيلية تحت رعايته، أما بخصوص تشريف سيادته الحفل فلم يبت في الأمر بعد نظراً للظروف الحاضرة وكذا إلى ارتباط سيادته بمواعيد أخرى. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام".

وعندما بدأت حرب السادس من أكتوبر عام 1973، وبدأت بشائر النصر تظهر في الآفاق، قام محمود شعبان بتأليف مسرحيته (صلاح الدين) في غضون عدة أيام؛ مشاركة منه في المعركة، وتبنت وزارة الثقافة المصرية النص، وسارعت في إخراجه على خشبة مسرح حديقة الأزبكية يوم 15/10/1973، وجعلت الدخول مجاناً مساهمة منها في رفع معنوية الشعب المصري، وقالت عن المسرحية في إعلاناتها (المسرحية التي تعبر عن الوحدة الوطنية والتصميم العربي على النصر)، هكذا جاء في إعلان جريدة (الأخبار) يوم العرض. وهذه المسرحية أخرجها كمال حسين، وقام بتمثيلها كل من: محمد السبع، ومحمد الدفراوي، ونادية السبع، وعادل المهيلمي، وصبري عبد العزيز، وإبراهيم الشامي، ومرسي الحطاب، وسلوى محمود، ورشدي المهدي، وسميرة عبد العزيز، ومحمد عناني، وحمادة عبد الحليم، ومجدي كامل.

المصدر: مجلة (كواليس) الإماراتية - عدد 26 - أبريل 2011 - ص(105 - 111)

التحميلات المرفقة

sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

754,943