استخدام التكنولوجيا في إحياء التراث القطري
د. سيد علي إسماعيل
ـــــــــــ
التراث .. كلمة خلابة تتغلغل في وجداننا .. نشعر بجمالها ومعناها؛ مهما حاولنا تعريفها تعريفاً لغوياً أو اصطلاحياً، أو حاولنا الكتابة عنها بصورة علمية أكاديمية في بحوثنا، أو في كتاباتنا .. ورغم كل ذلك؛ ستظل كلمة (تراث) لها مذاق خاص في نفوسنا، لا نستطيع تحديده، أو الإمساك به، أو وصفه بكلمات بليغة؛ ولهذا السبب يتمسك الإنسان بتراثه، ويظل محافظاً عليه، مهما تطور، وتطورت الحياة من حوله، ومهما بلغت التكنولوجيا والحداثة مداهما في التقدم والازدهار!
جامعة قطر والتراث
المثال الأبرز على ذلك دولة قطر، وتحديداً (جامعة قطر)! فهذه الجامعة وصلت إلى درجة عالية من التقدم والتطور العلمي والتكنولوجي، وانعكس هذا التطور على طلابها وخريجيها، ورغم ذلك ظلت جامعة قطر مرتبطة بتراثها الخليجي، وهذا الارتباط تمثل في اللوحات الضخمة المنتشرة في ساحات الجامعة الخارجية، وبين أروقتها، وعلى مداخل أبوابها الداخلية، وبين حدائقها، وبجوار أشجارها الضخمة .. إلخ، وهذه اللوحات من تنفيذ طلاب قسم التربية الفنية بكلية التربية، أي أنها من صُنع طلاب الجامعة! وهذا يعني أن الطالب القطري الذي وصل إلى تقدم مُبهر في استخدامه للتكنولوجيا، ما زال مرتبطاً بتراثه الخليجي .. والسؤال الآن: كيف وظفت جامعة قطر إمكاناتها التكنولوجية في إبراز التراث الخليجي وإحيائه؟ وكيف وظف الطالب القطري المتطور تكنولوجياً، إمكاناته التكنولوجية في الحفاظ على تراثه الخليجي؟
التراث بين الجامعة وطلابها
بالنسبة للجامعة؛ فقد وظفت إمكاناتها التكنولوجية من خلال قسم التربية الفنية بكلية التربية في صورة مقرر (التصميم بالكمبيوتر)، الذي يقوم على تدريسه الدكتور محمد علي عبده، وهو مقرر يقوم على إلمام الطالب القطري بمكونات الكمبيوتر، وكيفية استخدامه وتوظيفه في مجال الفنون البصرية، وكذلك التعرف على إمكاناته كأداه تكنولوجية حديثة في مجال الفن، مع التركيز على إستخدام برنامج Adobe Photoshop في التصميم بمختلف فروعه، بجانب التدريب على العديد من برامج الرسم بالكومبيوتر بهدف إنتاج أعمال فنية مبتكرة.
ولو أمعنا النظر في الهدف المتوخى من وراء دراسة هذا المقرر نظرياً وعملياً، سنجده يتمثل في عبارة (إنتاج أعمال فنية مبتكرة)! فهل قام الطلاب بالفعل بإنتاج أعمال فنية مبتكرة؟ وربما هذه العبارة سيفهما القارئ بأن الأعمال المقصودة ستكون متطورة تكنولوجياً، وستكون حديثة تتعلق بالمناظر الطبيعية أو الصور العالمية أو أو .. إلخ. الغريب أن الطالب القطري استطاع أن يمزج إمكانات الجامعة المتطورة تكنولوجياً بتراثه الخليجي، ويخرج من هذا المزيج بلوحات تراثية رائعة تحمل المعنين معاً (التراث والمعاصرة)! فقد استخدم الكومبيوتر وبرامجه المتنوعة في إنتاج تراث خليجي متطور في مفهومه رائع في تصويره. وبهذا المزج برهن الطالب القطري الفنان أن تراثه الخليجي جزء من وجدانه لا يفارقه أبداً؛ مهما تطورت أدواته الفنية بالتطور التكنولوجي الهائل، الذي يتقدم كل يوم من حوله.
اللوحات التراثية
على سبيل المثال نجد لوحة (الصيف) لعائشة الجابر، تستخدم فيها تقنيات الكومبيوتر وبرامجه في لصق صورة للناقة، تشغل مساحة كبيرة ممثلة لبؤرة الرؤية والمركز المهم في اللوحة، مع وضع ظل للناقة كأنه ظل حقيقي. خلف الناقة جاءت الكثبان الرملية بظلالها المتنوعة، تتخللها بعض الوديان الخصبة بما تشتمل عليه من أشجار ونخيل، وقد شمل هذا المنظر رُبع الصورة تقريباً، ثم جاءت الطالبة بكلمة الصيف باللغة الإنجليزية في حجم كبير، دلالة على امتزاج التراث بالمعاصرة، ومن فوق الكلمة جاءت بكثبان رملية قاحلة يتخللها فارس يمتطي جواده، وآخر يمتطي ناقته. واللوحة في مجملها تجسيد للتراث الخليجي، لا سيما صورة الصحراء بمظاهرها البدوية في فصل الصيف، من خلال تركيب تكنولوجي بواسطة الكومبيوتر لمفردات هذا التراث المتنوعة.
أما لوحة الهنوف السبيعي فجاءت بسيطة في معناها ومبناها، حيث تمثلت في مراكب الصيد والغوص في مياه الخليج، وعلى الشاطئ منزل تراثي قديم، وخارجه البئر والنخلة، ومن الواضح أن الطالبة لم تستفد من إمكانيات الكومبيوتر المتنوعة، فجاءت مكونات اللوحة بنسب غير متناسقة، على الرغم من أنها مكونات تراثية خليجية، تُجسد ارتباط الطالبة بتراثها ومزجه بالمعاصرة.
وعلى النقيض من ذلك جاءت لوحة أمل أحمد الجابر، التي جسدت فيها مظاهر تراثية قطرية متنوعة. فاللوحة بانوراما تراثية قطرية، تبدأ بقلعة الزبارة الشامخة في بنائها وتاريخها، وبجوارها محارة كبيرة مفتوحة لتظهر اللؤلؤة بلمعانها الخلاب، تذكرة بتراث الغوص وتاريخه في نفوس الخليجيين، وفوق القلعة تأتي محلات سوق واجف (واقف) التراثية بما تشتمل عليه من مقتنيات تراثية خليجية قديمة وقيمة في معناها، وفوق المحارة بوابات أحد القصور من الداخل بأعمدتها وزخارفها التراثية، وفوق هذا كله يرفرف علم قطر وسط نماذج من ميادين قطر الشهيرة، مثل ميدان الدلة والغزلان. الجميل في هذه اللوحة استخدام تقنية الكومبيوتر بصورة لافتة للنظر، بحيث يشعر الناظر كأنها لوحة متكاملة متداخلة العناصر، لا بوصفها تركيباً لهذه المفردات التراثية.
وإذا تطرقنا إلى لوحة إيمان كافود سنجدها بسيطة في تركيبها .. كبيرة في معناها، حيث جاء في مستواها الأدنى أبنية ظلالية تُمثل البيوت والمساجد، وبقية اللوحة في مساحتها الكبيرة عبارة عن فانوسين (مصباحين) تراثيين في مستويين مختلفين في القُرب والبُعد. وظهرت تقنية الكومبيوتر في انتشار ضوء الفانوسين على مساحات اللوحة، لا سيما الجانب الأيسر.
وقد قامت حصة ناصر بتنفيذ لوحة تراثية؛ بها طفلة مرتدية الملابس الشعبية القطرية بزخارفها الخلابة، وهي الملابس التي يرتديها الأطفال في الأعياد واحتفالات (القرنقعوه)، والطفلة جالسة تقرأ في خشوع القرآن الكريم؛ ممسكة بالمصحف الشريف. وخلف الطفلة جاءت مأذنة المسجد التراثي شامخة؛ دلالة على شموخ الإسلام في قطر، وفي بقية الأقطار الخليجية والعربية والإسلامية.
وفي لوحة سارة المانع، نعود إلى تراث البحر مُمثلاً في مراكب الصيد والغوص، والشباك .. إلخ مظاهر الصيد التراثية. وفي لوحة عائشة السادة نعيش مع الأمومة في صورة امرأة قطرية بملابسها التراثية ذات الحشمة والوقار، ممسكة بمغزلها وبجوارها بكرات الخيوط الصوفية في ملمح تراثي كاد أن يختفي من الحياة الاجتماعية الخليجية؛ فجاءت هذه اللوحة لتعيده إلى الأذهان مرة أخرى، وليكون مجسداً في مخيلة شباب اليوم استفادة منه في الحفاظ على التراث الخليجي مستقبلاً. وفي لوحة عفاف درويش نجد قلعة الزبارة شاهدة على تاريخها المعروف، وأمامها أحد المدافع القديمة شاهداً على نضال الشعب وقت ازدهار القلعة والمنطقة قديماً. وفي لوحة منال الصوفي نجد ارتباطاً بين الجرار والبراجيل والنخيل، وجميعها مفردات تراثية خليجية أصيلة. وكذلك الأمر في لوحة نورة الحبابي المشتملة على عناصر التراث الخليجي من المبخرة والمرشة وقنينة العطر.
ومن اللوحات المميزة، كانت لوحة فلوة صالح الهاجري المتكونة من عبارة واحدة "محمد صلى الله عليه وسلم". فهذه العبارة وُضعت بحجم كبير في شكل ناقة، ثم تكررت العبارة بأشكال مختلفة في جميع أجزاء اللوحة، بحيث إن الناظر إليها يقرأها في كل جزئية من اللوحة بشكل منفصل؛ رغم تداخلها في ثنايا بعضها البعض! وما يميز عبارة عن أخرى، أو تنسيق عن آخر هو اللون المُميز لهذه العبارة عن تلك، أو هذا التنسيق عن الآخر. كما تميزت تشكيلات العبارة في شريطين متعامدين؛ كأنهما شريطين زخرفين من أشرطة ورق الحائط المزركش، ناهيك عن ظلال العبارة الموجود في اللوحة، مما أعطى شعوراً بأهمية الخط العربي ومدى تأثيره التراثي في وجداننا، لا سيما العبارة المُشكلة للناقة. وللطالبة نفسها لوحة أخرى وضعت بالقرب من الأولى، استخدمت فيها الحروف العربية بصورة مفردة وبألوان جميلة، وشكلت من هذه الحروف المتناثرة والمتداخلة – في آن واحد - مبخرة تراثية غاية في الجمال والتشكيل التراثي بواسطة حروف لغتنا العربية الجميلة.
أما لوحة مريم السادة فقد نفذتها باقتدار من خلال إمكانات الكومبيوتر وبرامجه؛ حيث استخدمت صورة لفانوسين (مصباحين) تراثيين خليجيين بصورة مختلفة في التوظيف الفني ثلاث مرات، عندما لصقت صورة الفانوسين في وضعهما الطبيعي المعتدل، ثم أخذت نسخة من الصورة وجعلتها مقوسة، لتكون حداً مائلاً لجانب بوابة تراثية، ثم أخدت البوابة والفانوسين المقوسين ووضعتهم في بوابة أو دائرة مستقلة أسفل اللوحة. وبهذا التكرار والتنوع يتخيل الناظر أنه يرى ثلاثة مناظر مختلفة للفانوسين، رغم أنهم من صورة واحدة، تمت معالجتها تكنولوجياً. وهذا التركيب الثلاثي للفانوسين يحيط بوجه أم قطرية ترتدي الملابس الشعبية، لا سيما البرقع الذهبي التراثي المعروف، وخلف هذا الوجه باب تراثي ذو زخارف عربية إسلامية، وهكذا استطاعت الطالبة تكوين صورة تراثية مستخدمة الوسائل التكنولوجية المساعدة لها عبر برامج الكومبيوتر.
وتعد لوحة هيا المهندي من اللوحات الملفتة للنظر لما احتوته من بانوراما تراثية قطرية، ومدى معالجة مفردات هذه البانوراما بالوسائل التكنولوجية عن طريق برامج الكومبيوتر. فخلفية اللوحة بأكملها عبارة عن محارة كبيرة ذات لؤلؤة لامعة، والمحارة واللؤلؤة أخذتا خلفية بلون فاتح باهت لا يُرى بصورة مباشرة؛ وكأنها سُحب في السماء، وهذه الخلفية غير المرئية، تستطيع تبين حقيقتها بأنها محارة بعد إمعان النظر بدقة في اللوحة بأكملها. وفي المستوى الأعلى من المحارة تأتي أبراج قطر الشامخة، دلالة على البناء المعاصر والحديث، وأسفل الأبراج تأتي مياه الخليج وعلى شاطئها نجد نموذجاً من القرية التراثية القطرية، وهو بناء تراثي قديم وحوله الأبراج الحديثة تحتضنه، وكأن المعاصرة رغم تقدمها، تحتضن التراث القطري محافظة عليه. وبجوار هذا كله تأتي خريطة قطر وعلم الدولة رمزين للوحة؛ مؤكدين على هوية صاحبتها.
وبالإضافة إلى اللوحات السابقة، هناك لوحات تراثية أخرى مكتوب عليها (من أعمال طلبة قسم التربية الفنية) دون تحديد اسم الطالب - خلافاً للوحات السابقة الممهورة بأسماء أصحابها - ولعلها أعمال جماعية قام بها فريق من الطلاب، ومنها لوحة كانت في الأصل صورة لبيوت تراثية، مغلفة بالخيش والأقمشة، ولوحة أخرى بديعة، تمثل صندوقاً تراثياً خليجياً - وهو المعروف بـ (المندوس) - مكفتاً بالنحاس وبعض المعادن في صورة زخرفية مبهرة، ومن فتحته العلوية مجسمات لأبنية تراثية، تمثل القلاع والحصون والمباني التراثية الخليجية القديمة. وهناك صورة ثالثة بها جماليات الخط العربي وانسيابه في اللوحة بصورة تبرز عظمة الخط وألوانه المتناسقة، ناهيك على تداخل الجُمل والعبارات، التي شكلت اللوحة بأكملها.
أما آخر لوحة، فنُفذت بمناسبة (يوم البيئة القطري)، وهذه المناسبة وُضعت عبارتها في اللوحة بصورة شبه شفافة على شكل أقواس؛ كأنها خلفية عامة، وبدرجات لونية مختلفة في أماكن أخرى من اللوحة، وأمام هذه الخلفية جاء الهلال بصور تراثية عديدة في فراغه الداخلي، لا سيما صورة الصقر، وبجوار الهلال جاءت إحدى البوابات التراثية بزخارفها الإسلامية العربية، مفتوحة إحدى ضلفتيها، فتظهر من خلفها مياه الخليج، وإحدى القلاع التراثية ترفرف فوقها الراية القطرية، وسط خريطة قطر، التي جاءت مجسدة للسحب في سماء الدولة. واللوحة بهذا التركيب التكنولوجي، مثال حي لامتزاج التراث بالمعاصرة، أو لاستخدام التكنولوجيا الحديثة في توظيف التراث الخليجي عامة، والقطري خاصة.
وفي ختام هذه المقالة، أستطيع أن أقول: إن طلاب قسم التربية الفنية بجامعة قطر، استطاعوا تطويع إمكانات الكومبيوتر وبرامجه في تنفيذ لوحات تراثية من خلال إعادة إنتاج التصميمات التراثية بصورة تكنولوجية دقيقة، ومن ثم تخزين العمل الفني بكافة عناصره، مع سرعة استدعائه مرة أخرى، وتعديله أو تغييره، وفقاً لإمكانات الكومبيوتر وبرامجه. كما أن الطلاب نجحوا في استخدام التكنولوجيا من أجل الخلق الفني وإبداعه، مع تغيير الألوان والأشكال، أو المحو والتكرار، ناهيك عن استخدام الأشكال والصور الجاهزة، مع الابتكار في استخدامها وتوظيفها في مجال التراث، وهذا ما تم في اللوحات التراثية المُصممة بالكومبيوتر، المنتشرة في حرم جامعة قطر.
ساحة النقاش