أصدرت سلسلة عالم المعرفة الكويتية، في أكتوبر 2001، كتاباً بعنوان (الأنا - الآخر: ازدواجية الفن التمثيلي)، تأليف الدكتور صالح سعد. والكتاب صدر في العدد رقم (274) من هذه السلسلة القيمة، التي أثرت عالمنا العربي بأنفس الكتب والمؤلفات، خصوصاً الكتاب الذي نحن بصدده، والذي يعتبر من أهم الكتب، في مجال حرفية التمثيل، والغوص في أعماق الممثل.
وقبل التطرق إلى الحديث عن الكتاب، ومادته العلمية المفيدة، أطرح هذه الأسئلة: هل يستطيع الإنسان العادي أن يدون لحظات الصدق مع الذات؟ وهل يستطيع أن يدون لحظات التكشف مع ذاته، باعتبارها الشخص الآخر؟ وإذا استطاع الإنسان العادي فعل هذا، فهل يستطيع المبدع أو الفنان القيام به؟ وإذا تركت هذا الأمر، وتساءلت: هل قرأنا عن مؤلف قصصي أو مسرحي، دوّن لنا شعوره الحقيقي ومعاناته، أثناء عملية إبداعه الأدبي: كيف يكتب، ويبدع، ويكوّن جمله، ويرتب عباراته وفصوله، ويخلق لنا شخصياته؟ وإذا تركنا مجال الإبداع الأدبي، وتساءلنا: هل قرأنا عن ناقد، دوّن لنا ما كان يدور في ذهنه، أثناء قيامه بالكتابة النقدية: لماذا اختار هذا العمل، وكيف بدا تفكيره فيه، وكيف بدأ في النقد، ولماذا توقف عند هذه النقطة، ولماذا ترك غيرها، ولماذا اختار هذه العبارة، وما شعوره تجاه ما كتب؟ .. الخ
هذه الأسئلة كلها، رغم بساطة طرحها، إلا أن الإجابة عليها عسير للغاية!! ولا أظن أن أي مبدع أو ناقد يستطيع أن يجيب عليها في الوقت المحدد لطرحها. والسبب في ذلك بسيط جداً، لأن المبدع أو الناقد، لا يستطيع أن يترك عمله الإبداعي والنقدي، كي يجيب على هذه الأسئلة، ولكنه يستطيع أن يطرحها فقط، بعد الانتهاء من العمل. أما أثناء العمل، فالمبدع أو الناقد يكون مشغولاً ومهموماً في ابتكار الشخصيات، ووضع الحوار المناسب لها، وترتيب فصوله وأبوابه .. الخ مراحل عملية المخاض الإبداعي والنقدي.
أما د.صالح سعد في كتابه (الأنا - الآخر)، باعتباره ممثلاً ومخرجاً، استطاع أن يطرح هذه الأسئلة، وفى وقتها المحدد!! ومن الغريب أنه طرحها بصياغة فنية تأملية، مسّ بها وجدان القارئ، فجعله يعيد التفكير فيها، ويحاول الإجابة عنها، ويقلبها على جميع الأوجه .. وهذا سر قيمة الكتاب. فالكثير من الكتب تطرح الأسئلة، ويحاول مؤلفوها الإجابة عنها، وعندما ينتهي القارئ منها، يستمتع بها، ولكنه لا يشغف بها، لأنها لم تحرك ملكات وجدانه وذهنه وتفكيره، حيث أعطته المعادلة كاملة. أما صالح سعد، فاستطاع في كل صفحة من صفحات كتابه، أن يكتب معادلات فنية غير تامة، حيث ترك إتمامها للقارئ، الذي كان كلما أتمّ معادلة ما، يفاجأ بمعادلة أخرى .. وهكذا. وإذا كان صالح سعد، استطاع أن يتفنن في صياغة الأسئلة الفنية، إلا أنه لم يتطرق في أغلب الأحيان، إلى الإجابة عنها، لا من باب العجز عن الإجابة، بل من باب ترك المجال مفتوحاً أمام القارئ، كي يحاول صياغة الإجابات المختلفة.
ومن الملاحظ أن هناك كتابات أخرى، قد تتشابه مع هذا الكتاب في عنوانه أو في عناوينه الفرعية والجانبية، ولكنها كتابات كُتبت كترجمات ذاتية وذكريات فنية وشروح لمواقف معينة. ولكنها لا ترقى لمستوى هذا الكتاب، من حيث إثارة الأسئلة في ذهن الممثل أو المخرج وقت إثارتها، أو تفجير القضايا المختلفة وقت وقوعها.
وإذا تطرقنا إلى فحوى كتاب (الأنا - الآخر: ازدواجية الفن التمثيلي)، سنجده يتألف من ثمانية فصول، وخاتمة تطبيقية. ففي الفصل الأول (من هو الممثل؟)، نجد المؤلف يثير إشكالية أبدية، تتمثل في الصراع بين تأثير النص المسرحي على القارئ، وبين تأثير العرض المسرحي على المشاهد. ومؤلف الكتاب كمخرج، نجده بطبيعة الحال، يميل إلى أفضلية تأثير العرض على المشاهد. ويؤيد هذا الميل بأن النص يحتاج إلى قارئ حصيف ليفهم دلالات النص، بعكس المشاهد الذي يستطيع فهم هذه الدلالات من خلال العرض، لأن العرض - من خلال قدرة المخرج وإبداع الممثل - يستطيع أن يقدم دلالات ظاهرة وواضحة لا تحتاج إلى حصافة من المشاهد!!
ويقول د.صالح سعد عن هذا الأمر: ‘‘النص المكتوب لا يكون في الواقع إلا خطاباً مغلقاً لا تفصح عنه الحروف والكلمات المنظومة شعراَ أو نثراً، تلك التي قد لا تكون سوى رموز، أو مفاتيح سر تكشف لكل قارئ - على حدة - ما وراءها من صور وعوالم خيالية لا نهائية تتراءى على جدران وحدته وصمته، فيما هو يقلب صفحات الكتاب المطبوع، ولكن على نحو غائم. في حين أن هذه الكلمات نفسها تصبح عالماً محسوساً، بمجرد تجسيدها داخل إطار مشهدي/سينوجرافى يضعه مخرج بواسطة الممثلين’’.
وسؤال آخر يطرحه د.صالح، في هذا الفصل: من هو الممثل؟ هل هو القرد اللعوب المقلد، أم هو إنسان مبدع؟ هل هو شخص يتظاهر بأنه شخصية أخرى، أم هو صاحب رسالة؟ هل هو عصابى مريض، أم هو فنان واع؟ تساؤلات كثيرة لا يجيب عنها المؤلف بصورة صريحة، بل يترك للقارئ استنباط الإجابة من بين السطور، التي تشتمل على الإجابة بالفعل، ولكنها إجابة تختلف في معناها من قارئ إلى آخر، ومن متخصص إلى متعصب .. الخ! وبالرغم من ذلك يستطيع كل قارئ أن يجد الإجابة المُرضية له!!
ورغم ذلك فالممثل عند صالح سعد شخص آخر، فهو الوسيط بين النص والجمهور، أي الوسيط بين المرئي واللامرئى، بين الواقع وما وراء الواقع. وهذا التعريف اجتهد المؤلف في إيصاله إلينا بصور ونماذج كثيرة، يشعر حيالها القارئ أن المؤلف غير قادر على إثبات رأيه! وهذا الشعور سببه إغفال عنصر مهم، تمثل في المخرج! فإذا كان الممثل هو الوسيط بين النص والجمهور، فأين المخرج في هذه المقولة؟ والأوفق أن نقول إن الممثل هو الوسيط بين النص والجمهور من خلال رؤية المخرج، فالممثل هو وسيلة إيصال فكر المؤلف من خلال رؤية المخرج إلى الجمهور.
وبعد أن أسهب د.صالح سعد في توضيح وتفسير وشرح مصطلحي الازدواجية والمفارقة، وبيان الفرق بينهما، نجده يفجر قضية مهمة، قائلاً: ‘‘يُشاع لدينا عادة إن التمثيل، ومن ثم الإخراج والنقد الفني أيضاً، هو مهنة من لا مهنة له، أو أنها مهنة بلا أسرار تقنية خاصة .. .. هكذا نجد الناس جميعهم يمارسون ببساطة بالغة حق التحليل والنقد للأعمال الفنية’’. وهذا الأمر هو حقيقة معروفة يشعر ويحس بها كل إنسان، ولكنه لا يستطيع أن يكتب عنها ، أو يبرزها أمام عينه!! والسبب في ذلك أن العمل الفني ملك لكل إنسان، يتأثر به، وبالتالي يترك في عمقه النفسي والوجداني تأثيراً ما، فيحاول كل إنسان أن يعبر عن هذا التأثير برأيه الخاص، الذي عادة ما يكون انطباعياً محضاً، تبعاً لثقافة وطبيعة ودراسة ورهافة حسّ كل إنسان على حدة. حتى من تجرأ على هذه الانطباعية، وحاول أن يضع لها القواعد والقوانين التي تحددها وتنظم أسلوبها، نجدها في النهاية، هي القواعد والقوانين النابعة من مزاج وثقافة ودراسة هذا المقنن. ومهما تكن قيمة هذه القوانين والقواعد، فإنها تكون نابعة من ذاتية الإنسان، الذي يختلف عن الآخر. وهذا الاختلاف هو سر بقاء وخلود الأعمال الفنية، لأنها إذا خضعت للقوانين والقواعد الجامدة، سيتوقف تأثيرها الجمالي والفني.
أما الفصل الثاني (المحاكاة)، فيعرفها المؤلف بأنها سعى الإنسان كممثل إلى التوحد، للتعرف على ذاته من خلال المشابهة أو التماثل مع الآخر. وهذا الأمر يفسر حالة الخوف التي تنتاب الممثل قبل أول ليلة عرض لإحدى المسرحيات الجديدة. لأن هذه الليلة بالنسبة للممثل، هي ليلة خروجه من وجوده المادي الحاضر، إلى الصورة الخيالية للشخصية الممثلة، فيما يشبه الغيبوبة المؤقتة، من أجل فهم أعمق لطبيعة النفس البشرية بمعناها الكلى. فالمسرح جاء تعبيراً عن تحول الوعي، وعن قدرة الإنسان على رؤية نفسه والعالم، في مرآة الخيال المركبة متعددة الأوجه. والإنسان لا يقف هذا الموقف الدرامي الجدلي من الذات إلا بعد امتلاكه ناصية الوعي الفردي، الوعي بالذات خارج الموضوع الآخر.
وتعتبر الصفحات المكتوبة عن الممثل الكوميدي، من أفضل صفحات هذا الفصل، حيث فسر المؤلف فكرة تعاطف الجمهور مع الممثل الكوميدي، بأنها تعاطف مع الشخصية التي يقدمها الممثل، والتعاطف أيضاً مع الممثل ذاته في موقفه الهجائي ضد الشخصية. وهذه هي أعلى حالات التحقق بالنسبة للكوميديان حين ينجح في إتمام خطة الاتفاق أو التآمر مع الجمهور ضد شخص ما يمثله هو، وبخاصة في النوع المعروف بالهجاء الساخر الذي لا يصدر إلا عن مشاعر غضب مكتومة، لا سبيل إلا لتفجيرها، والذي يهدف بالتالي إلى فضح الشخصية موضوع الغضب، إلى جانب ما يحاول تحقيقه جانبياً من نقد للذات. فنحن لا نفاجأ بالشر منبثقاً هكذا من العدم، بقدر ما نساهم نحن في نموه ولو بمجرد سكوتنا عنه، أو عدم قدرتنا على كشف القناع عن وجهه القبيح، وهو ما تقوم به الكوميديا نيابة عنا.
وفى الفصل الثالث (الممثل .. أساطير التحول والتجسيد)، أبان المؤلف الفرق بين الشخصية المكتوبة في النص المسرحي، وبين الممثل المؤدى لهذه الشخصية، حيث إن الشخصية المكتوبة لا تلبث إلا أن تتحول إلى شخصية أخرى ناطقة، ثم تعود لكي تنام من جديد في محبسها الورقي، حتى يبعثها ممثل آخر إلى الحياة. وهكذا الحال مع الممثل الذي لا يفتأ يتحول من شخصيته الذاتية إلى الشخصية الدرامية، ويعود ليكرر كل ليلة العملية نفسها. ولكن هل يبقى الممثل هو نفسه بعد كل ليلة عرض؟ وهل تكون الشخصية الممثلة، هي هي في كل مرة يقدمها الممثل، أم ينالها شيء من التغيير؟
وبعد إثارة هذه الأسئلة، تعرض المؤلف إلى البطل النجم، الذي يستمد قوته من لعب أدوار البطولة، أي من قوة مركز الشخصية التي يؤديها. فالبطل هو قوة الموضوع المحققة في الدراما، وهو العمود الفقري لأية قصة أو حكاية، فهو من تنتظم حوله ولأجله كل الأحداث، وبالتالي الشخصيات الأخرى كافة. ولكن هذا لا يلغى الأهمية القصوى التي منحتها تكنولوجيا الاتصالات الإعلامية الحديثة لعملية صناعة النجم، بداية من الأساليب الصحافية التقليدية المعروف، مثل: الأخبار اليومية واللقاءات المتكررة، والبرامج التلفزيونية، وزوايا التصوير، والملابس، والماكياج، والإشاعات!!
أما جسد الممثل، فكان له نصيب الأسد في هذا الفصل. حيث إن انفعال الممثل لا يظهر للجمهور، إلا من خلال جسده، إذ لا وجود لأية خامة عقلية مستقلة منفصلة، يُصنع منها هذا الانفعال. ففي الوقت الذي يجب على الممثل أن يلتزم تماماً بشرطية الظروف الموضوعية للعرض، علاوة على الظروف المقترحة لحياة الشخصية الممثلة، فإنه يكون جسدياً، في وضع الانفتاح أمام الاحتمالات كافة!! وهو وضع يتطلب تحرراً تاماً من جميع القيود الوضعية المعتادة للجسد فيزيائيا ونفسياً واجتماعياً. فمشكلة الممثل ليست في جسده ذاته بما هو عليه طبيعياً، ولكنها في جسده الثاني، ذلك الجسد العارض المتحول، الخارج عن ذاته، أي الجسد الإيهامي القادر على إقناع المتفرجين كافة إنه ليس هو!! فالجسد بهذا المعنى لا يصبح مجرد هيكل آدمي، من لحم ودم، بقدر ما يكون علامة، أو إشارة إلى شخصية درامية، ومن ثم يصبح مركزاً لاستقطاب اهتمام الجميع إليه. إنه باختصار، شرط وجود الممثل.
أما الفصل الرابع (تحولات الممثل عبر العصور)، ففيه رصد المؤلف ثنائية الوحدة والتناقض في الأزمنة الأسطورية من خلال الطقوس والممارسات التشخيصية والتعبيرية المختلفة. ثم خصص بقية الفصل للحديث عن القناع باعتباره الوسيلة الأولية للتنكر، أو الصورة البدائية للمحاكاة، وذلك من خلال سرد تاريخ التقنع وارتباطه بتاريخ الفن التمثيلى، مع ضرب الأمثلة لتطور القناع على مر العصور، ومن ذلك: قناع الإله لكاهن الديانة الشامانية للتونجيين الروسيين، وقناع الشيطان، والقناع الإغريقي، والقناع الصامت، وأقنعة الكوميديا المرتجلة .. الخ هذه الأمثلة.
وفى الفصل الخامس (فضاءات الحرية)، فسر المؤلف المهمة الأساسية لأي ممثل، من خلال تحقيق المعادلة المسرحية الجوهرية (أنا - هنا - الآن)!! أي تأكيد حضوره كشخصية (أنا) فاعلة في الفضاء المسرحي المزدوج (هنا)، الخيالي والواقعي، وأن يكون قادراً أيضاً على الإمساك بأطراف الزمن الهارب (الآن) وتثبيته أو تكثيفه ليصبح قادراً على احتواء حياة بكاملها خلال زمن العرض. وهذا بالطبع وفق شبكة منظمة من الحركات والأصوات والإيقاعات المتداخلة، التي تشكل في مجموعها إيقاع العرض العام.
ثم تتبع د.صالح سعد بعد ذلك، المكان المسرحي وشكله الدائري وشبه الدائري للمسرح القديم، وشكل الحلبة في المسرح الروماني، واتخاذ الكنيسة كمسرح في عهود سابقة، والشكل المفتوح لخشبة المسرح الشكسبيرى، وشكل العلبة في المسرح الإيطالي .. الخ هذه الأشكال. ثم تطرق إلى الإيقاع وأنواعه الثلاثة: اللغوي والبلاغي والجمالي. ثم خصص جزءاً آخر، من هذا الفصل، للحديث عن أدوات الممثل التعبيرية، ومنها لغة الجسد، من خلال الأوضاع والتقنيات الحركية اليومية، من خلال الحركات المجانية والنفعية. أما الحركات المجازية، فتتمثل في الحركات والإشارات اللغوية، والحركات والإشارات الفنية، هذا بالإضافة إلى التقنيات الحركية غير الاعتيادية. وقد أنهى المؤلف هذه الأدوات بالحديث عن الصوت واللغة بالنسبة للممثل. كما أنهى الفصل بالحديث عن قوالب الأداء الكلاسيكية والرومانسية.
أما الفصل السادس (المخرج ومدارس التمثيل)، فقد رصد فيه المؤلف تطور عمل المخرج، والفرق بينه وبين المؤلف أو الممثل النجم، اللذين كانا يقومان بمهمة الإخراج. ووصل من هذا التطور إلى تجربة ستانسلافسكى، وفسرها وأدلى بدلوه فيها. ثم تطرق بعد ذلك لشرح مصطلحي الميتا والبيو ميكانيك، وانتهى إلى شرح تجارب مايرخولد وبرخت.
وفى الفصل السابع (الممثل في المسرح الشرقي)، تحدث عن موضوعات كثيرة متنوعة تتصل اتصالاً مباشراً بالمسرح الشرقي، وذلك من خلال عناوين فرعية، هي: مسرح شرقي ومسرح غربي، مبدأ التشخيص ومفهوم الوساطة، مبدأ التعبير السلبي، الأنماط التمثيلية وصورة الماضي. وأنهى المؤلف هذا الفصل بمداخلة، تنتمي إلى النقد الأدبي بالدرجة الأولى، وفيها تحدث عن علاقة المسرح بالدين.
أما الفصل الأخير (البحث عن الممثل العربي)، فقد تحدث فيه د.صالح سعد، عن المفاهيم والمصطلحات ووسائل التدريب العربية الخاصة بالتمثيل العربي، واعتبرها ميراثاً غامضاً، وخليطاً مكوناً من عدة مناهج غربية مختلفة، حيث قام العقل العربي بنقل ذلك كله، عبر ترجمات واجتهادات معدودة. ثم يتساءل مؤلف الكتاب: إلى أين يتوجه الممثل العربي اليوم من أجل اكتشاف إمكاناته وتطويرها؟ وهل يمكن تأسيس أو تأصيل الفن الدرامي العربي؟ وهل يكون ذلك بإحداث قطيعة مع التراث، أم قطيعة مع الدراما الغربية؟
وبعد إثارة هذه الأسئلة، قام بتفسير بعض المصطلحات الفنية، وبيان الفرق بينها، ومنها: الدراما، التشخيص، التمثيل، الممثل، المماثلة، التماثل، المثل، المثول، الإنابة. وتحت عنوان الجذور التاريخية للأنماط والقوالب السائدة، تحدث المؤلف عن جورج أبيض ومدرسته في الإلقاء، وعن يوسف وهبي ومدرسته الإيطالية الكلاسيكية ذات الطابع الأوبرالى، وعن عزيز عيد رائد الاتجاه الواقعي في الأداء، وأخيراً تحدث عن زكى طليمات ومدرسته التجديدية في الإلقاء. ثم تعرض بعد ذلك إلى إشكالية ثنائية اللغة بين العامية والفصحى، ومن ثم تطرق إلى اللهجات المحلية العربية، ومدى تأثير اختلاف هذه اللهجات على الممثل العربي.
ثم تحدث د.صالح بعد ذلك، عن البطل النجم، مثل: عادل إمام، فؤاد المهندس، عبد المنعم مدبولى، دريد لحام، عبد الحسين عبد الرضا .. الخ، ثم تساءل: لماذا يلجأ الفنانون إلى الدخول في عملية الإنتاج، أو في مشروعات إقامة مؤسسات إنتاجية فنية، وغير فنية أحياناً؟ ولماذا يغالي بعض النجوم في أجورهم، إلى الحد الذي يضاعف بالتالي من قيمة الإنفاق على بقية العناصر الفنية الأخرى؟ ويختتم هذا الفصل بالحديث عن دعوة يوسف إدريس لإقامة مسرح السامر، ومن ثم الحديث عن المسرح الاحتفالي، ومسرح السرادق، ومسرح الحلقة.
وأخيراً يختتم د.صالح سعد كتابه، بنموذج تطبيقي مختصر لتدريب الممثل في المسرح الاحتفالي. وكان هدفه من هذا التدريب، تخليص الممثل من العوائق التقليدية للإبداع، وقوالب الأداء المكتسبة، من أجل بناء لغة تعبيرية خاصة. ويتمثل هذا التدريب في أن يتعرف الممثل على ذاته، وطاقته الفاعلة، حتى تتاح له الفرصة لاكتشاف ذاته، ونفى اغترابه عنها. وهذا النموذج التدريبي يتم داخل حلقة خاصة، ذات تقاليد معينة. وأهم خطوات هذا التدريب: تدريب التطهر، تدريب النرفانا، تدريب الأنا الجماعية، تدريب القطة، تدريب النفس المزدوج، تدريب تدليك الأطراف، تدريب العرائس، تدريب المشى داخل الحلقة.
وهذا الملخص اليسير، لا يعتبر عرضاً لفحوى الكتاب، حيث يعجز أي قلم عن تلخيصه، لأن القلم يقع في حيرة كبيرة، فلا يستطيع أن يختار شيئاً ويترك الآخر. فالكتاب بأكمله قيمة علمية مفيدة، ولكنني هنا أردت فقط أن أعطى فكرة موجزة عنه. وبالرغم من ذلك، يستطيع أي قارئ أو ناقد متخصص أنه يوجه لهذا الكتاب بعض الأقوال النقدية، التي لا تمس جوهره، ولا تستطيع أن تقلل من قيمته.
فعلى سبيل المثال، يلاحظ القارئ أن د.صالح سعد، أثار في أكثر من موضع في الكتاب، قضية الأفضلية بين النص والعرض المسرحي، وأصدر أحكاماً كثيرة، ودلل عليها بنماذج أكثر، ليثبت ميله إلى أفضلية العرض على النص. وكنت أتمنى ألا يصدر المؤلف حكمه بأفضلية العرض، باعتباره مخرجاً مسرحياً، حيث لا يليق بأن يكون صاحب الحُكم أحد المتخاصمين!! علماً بأن هذه قضية أثيرت منذ زمن بعيد، وكان محورها الصراع بين المؤلف والمخرج من جهة، وبين القارئ والمشاهد من جهة أخرى. ووصل هذا الصراع إلى إبراز مقولات منها: نص المؤلف، وعرض المخرج! وتساؤل مفاده: من هو صاحب الفكرة المسرحية، هل هو المؤلف الذي ابتكرها ودونها وسجلها كهيكل عظمى جاف، في نص مطبوع باق على مر الزمن؟ أم هو المخرج الذي أبرزها أمام الجمهور، وكسى عظامها لحماً، فتحركت على خشبة المسرح، لفترة محدودة من الزمن؟ وبالرغم من ذلك فإن الصراع بين المؤلف والمخرج لم يحسم بعد، ولن يحسم في يوم ما، طالما هناك إبداع مسرحي من قبل المؤلف، ورؤية حية لهذا الإبداع من قبل المخرج.
قضية أخرى، أثارها المؤلف في الفصل الثالث، قائلاً: ‘‘والحقيقة أن دخول المرأة مجال التمثيل لم يكن سهلاً، تاريخياً، فقد حدث هذا متأخراً جداً، وبعد انقضاء أزمنة طويلة لعب فيها الفتيان الأدوار النسائية من خلف قناع’’. وهذا الأمر غير صحيح، رغم العزف على وتره سنوات طويلة، حتى أصبح ميراثاً لدى الكُتاب والنقاد، يتناقلونه دون تفنيد أو مناقشة. فعلى سبيل المثال هناك دراسات حديثة صدرت في مصر، وأثبتت أن المرأة العربية بصفة عامة والمصرية بصفة خاصة، واكبت مسيرة المسرح، منذ ظهوره بالمفهوم الحديث. ففرقة سليم النقاش، هي أول فرقة مسرحية عربية تعرض عروضها المسرحية في الإسكندرية عام 1876، وبالرغم من ذلك، كانت تضم العديد من الممثلات العربيات. وأيضاً كانت الممثلة هيلانة بيطار، هي بطلة فرقة يوسف الخياط في مصر عام 1877. ولم تكتف المرأة بالاشتراك التمثيلي فقط، بل تخطت ذلك إلى التأليف المسرحي. فالممثلة لطيفة عبد الله، هي بطلة جوق السرور المصري، لصاحبه ميخائيل جرجس، منذ عام 1890، وهى أيضاً أول مؤلفة مسرحية مصرية وعربية معروفة لنا حتى الآن، حيث ألفت وطبعت ومثلت مسرحية (المكلة بلقيس) عام 1893.
ومهما يكن من أمر هذه النقاط الجانبية، التي لا تتعلق بالبناء الأساسي للكتاب، فأنني أشيد بقدرة مؤلف الكتاب على إثارة الأسئلة الفنية المتخصصة، وكم كنت أتمنى أن يحاول أن يجيب عنها هو من خلال منظوره لها كممثل وكمخرج، حتى تكون إجاباته وثيقة حية، يستفيد منها المتخصصون فيما بعد، خصوصاً وأن د.صالح سعد صاحب رؤية فنية ونقدية كبيرة، لاسيما تجربته الفريدة في تأسيس ورئاسة جماعة السرادق المسرحية منذ عام 1985. وأرجو منه أن يتبع هذا الكتاب الاستفهامي النظري، بكتاب آخر متمم له، كإجابات عملية، من خلال إقامة ورشة عمل تطبيقية، تحاول فيها مجموعة من الممثلين، الإجابة على أسئلة الكتاب، عن طريق تدريبات خاصة، تدور حول كل سؤال على حدة، وفى النهاية تُجمع هذه الإجابات، ويتم تحليلها، ومن ثم تسجيلها في كتاب مستقل، سيكون تجربة عملية غير مسبوقة، في عالم المسرح المصري والعربي. وأقترح أن تُقام هذه الورشة في مسرح الهناجر، ذلك المسرح الذي يعتبر مفخرة مصرية فنية في عصرنا الحديث، تحت إدارة الناقدة د.هدى وصفى، ذلك الاسم الذي سيظل باقياً طوال بقاء مسرح الهناجر، وسيظل خالداً طوال خلود المسرح المصري.
د.سيد على إسماعيل
ساحة النقاش