وصف مرباط العمانية والمخاء اليمنية وجدة السعودية في القرن الثامن عشر

ثغور الجزيرة العربية في رسائل هنري روكي: 1781- 1782م

 

أ.د/ سيد علي إسماعيل

كلية دار العلوم – جامعة المنيا - مصر

ـــــــــــــــــــ

مقدمة

يهدف هذا البحث إبراز قيمة المصادر الفرنسية في دراسة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بعض ثغور الجزيرة العربية – وبعض مدنها الأخرى - في القرن الثامن عشر، من خلال ما سجله الرحالة الإنجليزي - الضابط في سلاح المشاة - (م. هنري روك M. HENRI ROOKE) في رسائله أثناء رحلته إلى بعض مدن سواحل الجزيرة العربية في عدة أشهر من عامي 1781، و1782م، وهذه المدن هي: ( مِرْباط) في سلطنة عُمان، و(المُخَا) في اليمن، و(جدّة) في المملكة العربية السعودية. وهذه الرسائل الإنجليزية – وغيرها - أصبحت مصدراً فرنسياً، عندما تُرجمت إلى الفرنسية، ونُشرت في باريس عام 1805م في كتاب بعنوان (الرحلة إلى سواحل الجزيرة العربية والبحر الأحمر ومصرVOYAGE SUR LES COTES DE L'ARABIE HEUREUSE, SUR LA MER ROUGE ET EN EGYPTE)، وهو المصدر الفرنسي المُعتمد في بحثنا هذا ([i]).

ولعل القارئ يسأل: ما قيمة هذا الكتاب، بوصفه مصدراً فرنسياً، في دراسة الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر، وهو في الأصل كتاب إنجليزي؟! الإجابة تتمثل في ثلاثة أمور – وهي في الوقت نفسه أهداف البحث -: الأول، أن المُترجم الفرنسي (لانجليس Langles)، هو أحد أشهر المستشرقين الفرنسيين المختصين في الرحلات الشرقية – كما سنبين ذلك لاحقاً – أي أنه الأقدر على معرفة قيمة ما يُترجمه إلى الفرنسية، ويتعلق بالشرق والجزيرة العربية. والثاني، تعليقات المترجم الفرنسي – في هوامش الكتاب - على بعض الأمور المتعلقة بالجزيرة العربية؛ وهي تعليقات تُعد وجهة نظر فرنسية مغايرة لوجهة النظر الإنجليزية، أو مُفسرة لها، وهذا الأمر يُستفاد منه في دراسة أحوال الجزيرة العربية، كما سيتضح لنا. والأمر الثالث والأخير، أن الكتاب تُرجم إلى الفرنسية، وبذلك أصبح مصدراً فرنسياً، يتحدث عن أحوال بعض ثغور الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر.

المُترجِم الفرنسي:

مُترجم كتاب (الرحلة إلى سواحل الجزيرة العربية والبحر الأحمر ومصر) – موضوع البحث - هو المُترجم الفرنسي (لويس ماثيو لانجليس Louis Mathieu Langles 1763 – 1824م)، وهو مستشرق فرنسي، عُني بالرحلات في البلاد الإسلامية. درس اللغات الشرقية؛ لينتفع بها في العمل في السلك الدبلوماسي في بلاد الشرق، فتابع دروس (كوسان دي برسفال Caussin De Perceval) في الكوليج دي فرانس في اللغة العربية، ودروس الأستاذ (روفان Ruffin) في اللغة الفارسية. ثم عُين برتبة ملازم في حرس محكمة مرشالات فرنسا، سنة 1785م. وكانت باكورة إنتاجه ترجمته الفرنسية لكتاب (النظم السياسية والحربية، تأليف تيمورلنك) عام 1783م. وأصدر أيضاً كتابه (خرافات وحكايات هندية، مع مقال تمهيدي وتعليقات خاصة بديانات الهنود وآدابهم وأخلاقهم)، وأدرج ضمنها بعض خرافات (كلية ودمنة) عام 1790م، ثم عُيّن مساعداً لمدير المخطوطات في المكتبة الوطنية، ثم صار مديراً للمكتبة الوطنية عام 1793م. وبعد عامين أسهم في إنشاء المدرسة الخاصة باللغات الشرقية الحية، وأصبح مديراً لها عام 1795م. وضمن مجموعة (تعليقات ومستخرجات من مخطوطات المكتبة الوطنية)، أصدر: شذرة من قانون جنكيز خان، ووصف القناة التي تربط بين البحرين في مصر بحسب المقريزي، وبحث في الإسكندرية والأهرام ومقياس النيل والواحات. ومن سنة 1797م بدأ في نشر مجموعة مثيرة للرحلات، مترجمة عن عدة لغات – ومنها كتاب (الرحلة إلى سواحل الجزيرة العربية) - وتقع في عدة مجلدات، منها: رحلة من الهند إلى مكة، ورحلة من فارس إلى الهند، ورحلة من بنغالة إلى فارس 1798م، ورحلة شائقة في الهند 1805م، ونبذة عن فارس 1801م، ورحلة عند المهراجا 1820م ([ii]).

ومما سبق يتضح لنا مؤهلات هذا المستشرق – مترجم الكتاب – التي توضح بجلاء قدرته على فهم ما يترجمه، وتعكس لنا – في الوقت نفسه - قيمة تعليقاته الفرنسية على أقوال الرحالة الإنجليزي (هنري روك).

تعليقات المُترجِم الفرنسي:

أولاً : مدينة مِرْباط

مِرْباط – العُمانية - هي أول مدينة في الجزيرة العربية، كتب عنها الرحالة في رسالته الخامسة بتاريخ 1/12/1781م، وفيها تحدث عن أمور كثيرة – سنتعرف عليها في موضعها من هذا البحث - ولكننا هنا سنقصر الحديث على تعليقات المُترجِم الفرنسي (لانجليس)، المتمثلة في تعليق واحد فقط؛ لأن الرحالة (هنري روك) لم يمكث في مرباط سوى ثلاثة أيام حتى كتابة هذه الرسالة. وهذا التعليق جاء تفسيراً لما ذكره الرحالة عن قيام بدو الجبال المجاورة لمرباط بالإغارة على أهاليها، وهذه الغارات جعلت رجال مرباط في حالة تأهب مستمر "يحملون في أيديهم حربة أو بندقية بدائية؛ سواء كانوا ذاهبين للقتال أم عائدين منه، فهم يسيرون دائماً في نظام، وفي مقدمة صفوفهم نشاهد دائماً بعض الأشخاص يرقصون ويغنون ألحاناً شاذة وهم يضربون تروسهم بأسلحتهم" ([iii]). وفي هذا الموضع كتب المُترجِم الفرنسي تعليقاً قال فيه: " يبدو أن هذه عادة شائعة عند الكثير من الشعوب البدائية. فهنود وسط شيلي لديهم هذه العادة حيث يسير بعض الأشخاص في مقدمة الجيش وهم يرقصون وينشدون" ([iv]).

وتعليق المترجم هذا - ربما لا يضيف جديداً؛ ولكنه – يوضح أن شعب مرباط لم يبتدع هذه البدعة، بل أنه يساير شعوباً أخرى، وبذلك يضع المترجم تصرف رجال مرباط ضمن تصرف شعوب كثيرة ربما كانت أكثر تقدماً - من شعب مرباط - في هذا الزمن، مثل هنود وسط شيلي؛ لذلك يُعد هذا التعليق إيجابياً بالنسبة لعادات العرب، التي يعرفها المترجم الفرنسي أكثر من الرحالة الإنجليزي.

ثانياً : مدينة المُخَا

المُخَا – اليمنية - هي المدينة الثانية في الجزيرة العربية؛ التي كتب عنها الرحالة في رسالته السادسة بتاريخ 30/12/1781م. وهذا التاريخ يدل على أن الرحالة مكث بها شهراً كاملاً - لذلك كانت الرسالة طويلة نسبياً عن سابقتها - ومن ثم كثرت تعليقات المترجم الفرنسي؛ فعندما تحدث الرحالة عن انتقاله من مرباط إلى المخا بواسطة سفينة عربية، تحدث عن بحاراتها وكيفية صلاتهم، قائلاً: " وبدأ القوم يؤدون الصلاة. وهم يواظبون عليها وبحرارة. وهم يأتمون برجل يتقدمهم" ([v]). وفي هذا الموضع كتب المترجم الفرنسي تعليقاً قال فيه: " هذا الرجل الذي يتحدث عنه رحّالتنا يُسمى الإمام، أي القائد، وهو يقوم بمهمة الخوري. لأداء الصلاة يتوجه نحو مكة، وكذلك يفعل المأمومون. ويتلو الصلاة ويقوم بالركوع والسجود ويتبعه الآخرون" ([vi]). وهذا التعليق من قبل المترجم الفرنسي؛ جاء مفسراً لأقوال الرحالة الإنجليزي المبهمة، التي توحي للقارئ بأن ما يقوم به البحارة طقساً دينياً شاذاً، أو غير معروف – تبعاً لسياق الرسالة - لذلك علّق المترجم الفرنسي تعليقه السابق ليبين للقارئ أن هذه الصلاة هي صلاة المسلمين، وأضاف – في تعليقه – أموراً لم يذكرها الرحالة الإنجليزي، مثل: التوجه إلى مكة (أي إلى القبلة)، والركوع، والسجود .. إلخ.

وعندما تحدث الرحالة عن السفينة العربية التي أقلته من مرباط إلى المخا، وصفها قائلاً: " كانت سفينتنا واحدة من أكبر السفن التي من نوعها" ([vii]). وعند هذا الموضع كتب المترجم تعليقاً قال فيه: " السفن العربية التي تمخر البحر الأحمر مصنوعة دون استعمال الحديد، حيث يتم خياطة القطع الخشبية. أما الألواح فيلتحم بعضها ببعض بلحاء بعض الأشجار. هذه الطريقة من أقدم الطرق" ([viii]). وهذا التعليق الفرنسي يضيف معلومات مهمة لما كتبه الرحالة الإنجليزي، حيث إن المترجم الفرنسي أكثر معرفة ببيئة الجزيرة العربية، خصوصاً وأنه من المعنيين بالرحلات إلى الشرق، وتعليقه هذا – ربما - يثبت أن العرب كان لهم السبق في صناعة السفن بطريقة التحام ألواح الخشب بواسطة لحاء الأشجار.

وعندما تحدث الرحالة عن إمام صنعاء – بوصفه حاكماً – تحدث عن حريمه قائلاً: "وحريمه يضم (مائة وخمسون) امرأة. أما الإماء، فلا حصر لهن، مع أن من المحظور أن يكون للرجل أكثر من أربع نساء" ([ix]). وهنا كتب المترجم الفرنسي تعليقاً قال فيه: " وهكذا فإن قانون الأقوى هو السائد في كل مكان. والرجل يستغل تفوقه في الاستمتاع بالجنس. والشرقيون يعزلون النساء فيما يشبه السجن، أما عندنا فهن يتمتعن بالحرية التي تصل إلى حد المجون الذي يضر بهن وبنا على حد سواء. وهن مفسدات قبل أن يفسدن. ونراهن كل يوم يتشبهون بالرجال، بينما الرجال يتشبهن بالنساء. تلك هي النتيجة الطبيعية لتصرفات الجنسين. ومع ذلك فإن الله يحمينا نحن من الحريم ومن الخصيان. وهذا الاستبداد الذي يمارس على النصف الحلو من النوع البشري، لن يصلح الضرر الذي يلحقنا منه. كل ما هناك يجب أن نرد عليه كرامته واعتباره بتذكيره بالواجبات التي تمليها عليه الطبيعة " ([x]).

واللافت للنظر في تعليق المترجم أنه قام بمقارنة حريم إمام صنعاء بحريم أوروبا، وكانت المقارنة في صالح نساء صنعاء – ولو بنسبة ضئيلة – كما أنه لم يستهجن عدد حريم الحاكم اليمني المبالغ فيه؛ لأنه يعلم جيداً – بوصفه مستشرقاً – القاعدة الشرعية المبنية على قوله تعالى: (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) ([xi]). وبالرغم من رفض المترجم الفرنسي أسلوب تعامل العرب والأوروبيين لحريمهما؛ إلا أنه كان واقعياً في طرح حله لهذه المعاملة المرفوضة، وكان حله عصرياً بمعنى الكلمة؛ مما يثبت أن الفكر الفرنسي يتصف بالعقلانية في حل الأمور. كما أن تعليق المترجم هذا؛ يُعدّ إضافة تفسيرية لما ذكره الرحالة الإنجليزي، وهذه الإضافة تؤيد أحد أهداف البحث؛ كون تعليقات المترجم الفرنسي، تُعدّ مصدراً فرنسياً لدراسة أحوال الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر.

وعندما تحدث الرحالة عن عقيدة الهنود الذين يعيشون في صنعاء – تبعاً لدين براهما – ممن لا يأكلون لحوم الحيوانات، ولا يقتلون ذبابة؛ وفقاً لعقيدة التناسخ، تحدث عن الحاج الإنجليزي المسلم الذي يعيش في صنعاء - قائلاً: " الحاج شيفيرون الإنجليزي (Chefcron Hadjy) ينتمي إلى هذه الفئة؛ ففي عصر كل يوم يعقد اجتماعاً موسعاً من البانيان، وهو الاسم الذي يُطلق على هذه الطائفة" ([xii]). وعند اسم الحاج شيفيرون كتب المترجم الفرنسي تعليقاً، قال فيه: " أعتقد أن الكاتب الإنجليزي أخطأ في كتابة هذا الاسم. فأنا لا أعرف اسماً عربياً بهذا الشكل. ثم إن لقب حاج الذي نطلقه على المسلم الذي يحج إلى الكعبة لا يناسب البانيان الهندي الذي ينتمي إلى عقيدة براهما" ([xiii]). وهذا التعليق يعكس المخزون المعرفي لدى المترجم الفرنسي، الذي يعلم أسماء جميع من أسلم من الأوروبيين ممن عاشوا في صنعاء في تلك الفترة. كما يدل التعليق أيضاً على دقة معلومات المترجم – بوصفه مستشرقاً - فيما يتعلق بديانات الشرق، لا سيما الإسلام والبراهما.

تحدث الرحالة عن نظام الضرائب وجشع حكام اليمن في جمع الأموال، قائلاً: "يوجد هنا تجار أغنياء كثيرون، ولكن لما كانت ثرواتهم تزداد يوماً بعد يوم، فقد طالب الملك بنصيبه فيها. وكلما وجد نفسه في حاجة إلى المال أمر الحاكم أن يطلب من التجار دفع ضريبة معينة وهم لا يترددون في الدفع لأنهم لا يستطيعون الرفض" ([xiv]). الغريب أن المترجم الفرنسي كتب تعليقاً إيجابياً محبذاً هذا الأسلوب، قائلاً: " من الضروري معرفة إذا كان هذا الابتزاز الذي يمارسه الحكام أقسى من نظام الضرائب، فهم لا يستطيعون الأخذ إلا من الأغنياء والذين يجدون من صالحهم القيام ببعض التضحيات، في حين أن هؤلاء الأغنياء في نظمنا، هم بوجه عام، معفون من الضرائب. والشعب الذي لا يملك شيئاً مضطر لإعطاء ثمرة عرقه لدفع الضرائب. ومن الطبيعي أن الذي يحصل من الدولة على أكثر هو الذي يعطي الحاكم أكثر. فالحاكم، من أجل الأغنياء بشكل أساسي، يحافظ على السلام مع جيرانه، ويعمل على صيانة وسائل المواصلات والطرق. إذاً فعلى الأغنياء دفع نفقات صيانة الطرق والإنفاق على الجيوش" ([xv]). وهكذا نجد المترجم الفرنسي يعلق تعليقاً منطقياً على استهجان الرحالة الإنجليزي لنظام الضرائب في اليمن، ويبرر منطقه هذا بمقارنة نظام الضرائب اليمني بنظام فرنسا، الذي ينتصر فيه للنظام اليمني.

في ختام رحلة الرحالة إلى بلاد اليمن، كتب – في رسالته – فقرة فلسفية عن معنى السعادة بالنسبة للشعب اليمني، خصوصاً وأنه يغادر بلاد اليمن السعيد، قال فيها: " أثناء تجوالي في المناطق المختلفة، كانت أول فكرة تفرض نفسها هي معرفة إذا كانت القوانين والعادات في هذه المناطق تهدف إلى إسعاد شعوبها. وهل يمكن أن نكون نحن سعداء لو كنا مكان هذه الشعوب. ستكون المقارنة في غير صالح هذا البلد، حيث يتم التعدي على حق الملكية، وحيث العلاقة مع الجنس اللطيف لا تهدف إلا إلى السيطرة عليه واستعباده. ومع ذلك يجب أن نعترف أنه إذا كان شخص إنجليزي تعساً في اليمن السعيد، فإن العربي سيكون كذلك في إنجلترا. إن قوة العادة والطقس ودرجة الحرارة هي التي تحقق للإنسان قدراً واحداً من السعادة في جميع بلدان العالم. وبذلك أخلص إلى أن جرعة السعادة واحدة في العالم أجمع وأن الطبيعة كيفت البلد مع سكانه" ([xvi]).

وعلى الرغم من منطقية المقارنة بين سعادة اليمني والإنجليزي، وتبادل الأدوار بينهما، كما جاء في وصف الرحالة .. على الرغم من ذلك، وجدنا المترجم الفرنسي يأتي بتفسير فلسفي أكثر واقعية لمعنى سعادة الشعوب في الجزيرة العربية، قال فيه: "هذه الفكرة لا تصدق بالكامل إلا على الشرق حيث الإنسان، بالرغم من مساوئ المجتمع، ما يزال يتمتع بنسبة كبيرة من السعادة، بحيث لا يحاول أن يبحث عنها خارج بلده. إن الإنسان الآسيوي الهادئ لا يمكن أن يفكر في ترك الربوع التي شاهدت مولده، وهو يجد في الطبيعة سلوى له من المظالم التي تقع عليه من أترابه. أما بالنسبة لنا، نحن الذين نزعم أننا أكثر سعادة منه، فإن قلقنا ومزاجنا المتقلب دليل كافٍ على ما بنا من جزع" ([xvii]). وهذا التفسير من قبل المترجم الفرنسي، يوضح وبجلاء التصاقه بشعوب الجزيرة العربية – بوصفه مستشرقاً - ومعرفته بأدق تفاصيل علاقة العربي بوطنه.

ثالثاً : مدينة جدّة

جدّة – السعودية - هي المدينة الثالثة في الجزيرة العربية؛ التي كتب عنها الرحالة في رسالته السابعة بتاريخ 6/3/1782م. وهذا التاريخ يدل على أن الرحالة مكث بها أكثر من شهرين. وفي هذه الرسالة شرح الرحالة رحلته من المخا إلى جدة شرحاً وافياً، لا سيما حديثه عن أخطار البحر، ومن هذه الأخطار قصة رسو سفينته في خور (بيرك Birk) – بين جزيرة (كَمَرَان Camaran) وميناء جدة – من أجل شراء الماء من البدو، الذين غالوا في تقدير ثمنه، فصمم النوخذة "على الحصول على الماء بالسعر الذي يريده أو أن يهلك دون ذلك. لذلك فقد حمل سلاحه وتأهب بصحبة عشرين من رجاله يحملون البنادق والرماح، وتوجه بالسفينة نحو الشاطئ ..... وبعد مفاوضات استمرت ربع ساعة، اجتمع من البدو مائة شخص بدأوا هجومهم، فأرغموا البحارة على الهروب، وأسفرت العملية عن قتل النوخذة  ........ وانتقاماً لموته، قاموا بالقضاء على المعتدين تطييباً لروحه ...... وكانوا وهم يقصون علينا ما قاموا به يتوقعون منا ابتسامة رضى لما حدث. لكننا بدلاً من أن نفعل ذلك، سألت خادمي الذي شاركهم الفرحة العامة كيف يسره مثل هذا العمل؟ فردّ علىّ بأن الرفاق أحسنوا صنعاً لأن كتابهم يأمرهم أن يقتلوا من المعتدين عدداً مساوياً لمن فقدوهم" ([xviii]).

هذه القصة التي رواها الرحالة الإنجليزي، واستهجن فيها أسلوب العرب من بدو الجزيرة العربية – في الانتقام والأخذ بالثأر - علق عليها المترجم الفرنسي – بوصفه مستشرقاً - بأسلوب منطقي، يتفق مع شريعة الإسلام – التي تُوجب حد القصاص من القاتل - قائلاً: "كان رحّالتنا في رأيي شديد الحساسية في هذا الموضوع، ولكن حينما يمعن المرء التفكير نلاحظ أنه هو نفسه يبرر عملهم مادام يرى أن الثأر هو قانون في دينهم. وحينما بكى هؤلاء الرجال رئيسهم ورفاقهم كانوا في ذلك يتجاوبون مع غريزة الطبيعة، وحينما انتقموا لهم تصرفوا باعتبارهم مسلمين يطبقون الشرع" ([xix]).

وعندما تعرض الرحالة إلى وصف أحوال الناس الدينية في جدة، قال: كان لقرب مدينة جدة " من مكة أثر كبيراً في الدين، فالشعب تقي ورع ..... وهم يتجنبون لونين في ملابسهم : الأبيض والأخضر" ([xx]). وهنا كتب المترجم الفرنسي تعليقاً على اللون الأخضر فقط، قائلاً: "الأشخاص من سلالة النبي يسمون الأسياد والأمراء. وعددهم كثير. أهم ما يميزهم العمامة الخضراء والاحترام الشديد من العامة. ولكن عقابهم ليس أقل قسوة من غيرهم، حينما يرتكب أحدهم ذنباً ويصدر بحقه حكم من القاضي بالجلد؛ وقبل توقيع العقوبة، ينزع عنه مُنفذ الحكم العمامة الخضراء احتراماً، ويقبلها، ثم يعيدها إليه ويقبلها مرة أخرى"([xxi]). وهذا التفسير يوضح قدرة المترجم – بوصفه مستشرقاً – على معرفة تاريخ المسلمين، وتصرفاتهم. وهذا التعليق – على وجه الخصوص - يُستفاد منه في دراسة أحوال المسلمين في جدة في القرن الثامن عشر الميلادي.

أما آخر تعليق للمترجم؛ فجاء تعليقاً ختامياً مفسراً لجميع السلبيات التي ذكرها الرحالة الإنجليزي عن أهالي مدينتي المخا وجدة. وفي هذا التعليق قال المترجم: " الوصف الذي يورده السيد روك لسكان المخا وجدة بغيض، لكنه للأسف دقيق وصادق، وهو لا ينطبق على العرب الآخرين الموجودين في المناطق الداخلية الذين يعيشون مثل البطارقة القدامى. المخا وجدة مدينتان نصادف فيهما كل أنواع الفسق وكل الفساد اللذين يفرزهما العمل بالتجارة وحب المال. أيّ فكرة يمكن أن يكونها عربي عن فرنسا من خلال سكان مدنها الكبرى!  من حسن الحظ أنه بقى لدينا بعض الأقاليم الريفية التي يسكنها ناس شرفاء على الرغم من الضرائب الباهظة المهينة التي ندمرهم بها. إن طيبة الفلاحين عندنا تعطينا فكرة عن طيبة عرب اليمن، الذين بسبب كونهم أقل شقاءً، فهم أفضل" ([xxii]).

هذا التعليق من قبل المترجم مهم للغاية؛ لأنه يدافع فيه عن أهالي مينائي المخا وجدة، بوصفهما ثغرين - أي مدينتين ساحلتين – يفد إليهما البشر من جميع البلدان مع اختلاف الأجناس والطباع والميول والثقافات، ناهيك عن منطقة الموانئ وما فيها من بيع وشراء ومزاد وسمسرة وإغراء ونصب واحتيال .... إلخ ما نجده في حركة الموانئ التجارية. وبسبب حيوية هذه المناطق، واختلاط الأجناس المختلفة – ربما - اختلط على الرحالة سلوك أهالي البلاد الأصليين بسلوك الوافدين، أو أن أهالي البلاد الأصليين تطبعوا بطباع الوافدين، فصدرت منهم بعض الأعمال السلبية، أو بعض التصرفات المشينة. واللافت للنظر أن المترجم الفرنسي يُفرق – ويُقارن - بين أهالي المخا وجدة – بوصفهما ثغرين - وبين أهالي الجزيرة العربية في المناطق الداخلية – البعيدين عن السواحل – وينتصر في هذا التفريق – أو المقارنة – لأهالي الجزيرة العربية من الداخل، ويشبههم بأهالي فرنسا الشرفاء من الفلاحين، كما يشبه أهالي المخا وجدة بأهالي باريس والمدن الفرنسية الكبرى.

المصدر الفرنسي:

أوضحنا من قبل أن الكتاب الفرنسي (الرحلة إلى سواحل الجزيرة العربية والبحر الأحمر ومصر) – رغم ترجمته من الإنجليزية – أصبح مصدراً فرنسياً؛ ولكن ما قيمة هذا المصدر الفرنسي في دراسة الأحوال الاقتصادية والاجتماعية لبعض ثغور الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر؟ الإجابة عن هذا السؤال تتطلب الوقوف على بعض الأمور التي جاءت في هذا الكتاب - وتُمثل إضافة لمعارفنا، أو تعضيداً لها، أو توضيحاً وتفسيراً لها – حيث إنها أمور ذكرها أحد رحّالة القرن الثامن عشر فيما يتعلق ببعض ثغور الجزيرة العربية ومدنها الأخرى.

وقبل الولوج إلى هذه الأمور؛ يجب الإشارة إلى أن الرسائل الثلاث المُرسلة من (مرباط، والمخا، وجدة) في الفترة بين 1/12/1781 و 6/3/1782، تُمثل أربعة أشهر تقريباً، قضاها الرحالة متنقلاً بين هذه الثغور؛ ولكنه في رسائله أيضاً تحدث عن بعض المدن الأخرى مثل: صنعاء، والحُدَيْدَة، وكذلك عن بعض الجزر مثل: جزيرة (كمران)، وخور (بيرك)، ومنطقة (كونسيدة). لذلك سنقصر حديثنا على هذه الأمور – في صورة نقاط محددة - كما جاءت في الرسائل – حسب ترتيب ورودها - بحيث تخدم هدف البحث، وهو إظهار قيمة الكتاب بوصفه مصدراً فرنسياً في دراسة أحوال الجزيرة العربية.

1 – يقول الرحالة في رسالته الخامسة عن مدينة مرباط: " ما كان يمكن للمصادفة أن تقودنا إلى ملجأ أسوأ ولا أفقر من مِرْباط، فالعيون المرهقة لم تكن لتحط هنا على أي شيء أخضر؛ ليس هناك سوى جبال جرداء، وسهول رملية. والأرض لا تخرج أي ثمر". وهذا الرأي غير صحيح، ويتناقض مع ما هو معروف من أن مرباط ينبت فيها "شجر اللبان الذكر ويجهز إلى سائر البلاد ويسمى في اليمن اللبان الشحري" ([xxiii]).

2 – يقول الرحالة عن أهالي مرباط: "إن الغارات التي يقوم بها البدو تجبر السكان على أن يكونوا على حذر دائماً. كما أن حالة الحرب الدائمة تطبع نظراتهم وتصرفاتهم بالقسوة التي تضفي عليهم الكثير من مظاهر العدوانية". والجدير بالذكر أن مظاهر العدوانية التي لاحظها الرحالة، لها تفسير منطقي آخر عند رحالة ثانٍ، زار مرباط عام 1893م، قال فيه: "رحَّب بنا أهلها [ أي أهل مرباط ] أولاً ثم رابهم أمرنا فانتفضوا علينا لغير سبب ظاهر ومنعونا من دخول مدينتهم ولعلهم ظنوا أننا أتينا لنتجسس أمرهم لأنهم يتجرون بالعبيد" ([xxiv]). وبناء على ذلك؛ نجد تصرفات أهالي مرباط العدوانية منطقية ومقبولة، فمن غير المعقول أن تكون تصرفاتهم سلمية، وهم معرضون في كل وقت لإغارة البدو من البر، وهجوم الأجانب من البحر.

3 – من الجدير بالذكر إن ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان)، قال عن مرباط "هي مدينة مفردة بين حضرموت وعمان على ساحل البحر لها سلطان برأسه ليس لأحد عليه طاعة" ([xxv]). وهذا السلطان لم أجد له ذكراً أو اسماً - فيما بين يدي من مراجع – وهنا تأتي أهمية ما ذكره الرحالة عن هذا السلطان، الذي ذكر اسمه، ومجلسه، وهيئته بعد إصابته في إحدى المعارك مع البدو المغيرين، قائلاً: " عبد الله بن حميد زعيم مِرْباط هو الآن يعاني من بعض الجروح التي أصيب بها في إحدى العمليات، يرقد على شيزلونج في كابينة مظلمة يتخذها قاعة للاجتماعات. أدخلونا على هذا الزعيم، فأجلسنا على الأرض لنشرب القهوة معه ومع بعض الضباط. في حين تدور (الهوكا Houkah) دورتها". وهذا القول يُعدّ إضافة مهمة عن حاكم مرباط، والظروف الأمنية لهذه المدينة في تلك الفترة، ناهيك عن وصف مجلس الحاكم وكرسي عرشه .. إلخ من معلومات.

4 – لاحظت أن الرحالة أسهب كثيراً في الوصف التفصيلي لـ (الهوكا Houkah)، والمقصود بها (الشيشة، أو الأرجيلة، أو النرجيلة) – تبعاً لاسمها المعروف عربياً في مصر والشام – ولكن اسم (الهوكا) لا يُطلق عليها إلا في الهند فقط هكذا (हुक्का)، وهذا يعني أن اللغة الهندية كانت منتشرة بكثرة في مرباط – أو في الجزيرة العربية – وما يُعد إضافة في هذا الشأن – من قبل الرحالة – قوله : " والهوكا معروفة في سائر بلاد الشرق. وفي البلاد التي يميل الناس فيها إلى الرفاهية مثل مِرْباط، فكل شخص يمتلك الهوكا الخاصة به ........ وأصحاب الذوق الرفيع يملأون الوعاء الذي يمر فيه الدخان بماء الورد ". وهذا القول يدل على أن المستوى الاقتصادي للفرد في مدينة مرباط – في هذه الفترة – كان مرتفعاً. أما قوله عن الهوكا في مرباط، أنها أصبحت " قطعة أثاث غالية فمنها ما هو مصنوع من الفضة المطعمة بالأحجار الكريمة"، فهو كلام صحيح، يؤكده ما هو موجود بالفعل - من نماذج لهذا الوصف للهوكا المطعمة بالأحجار الكريمة – في المتحف الإسلامي في قطر؛ حيث شاهدت قطعتين هنديتين، تعودان إلى القرن الثامن عشر، إحداهما مصنوعة من يشم نفريت، ومكفتة باللازورد والياقوت والذهب، والأخرى مصنوعة من الفضة والمينا، ومطعمة بحجر السّفير والياقوت المبطن بالذهب ([xxvi]).

5 – وصف الرحالة - في رسالته - مدينة (المخا)، قائلاً: " مدينة جيدة البنيان على شاطئ البحر، وبيوتها شديدة الجمال وهي مغطاة، شأنها شأن الحصون والقلاع، بنوع من الملاط يضفي عليها بياضاً ناصعاً. أما الميناء، فهو على شكل هلال (نصف قمر) طرفاه من اليابسة يمتدان داخل البحر، على كل طرف حصن ....... وليس في المدينة أي مصادر للماء، لكن يوجد بعض المصادر الممتازة في غابة من النخيل على بعد ربع ميل تقريباً من هنا. كما توجد مؤن وفواكه وخضروات بكثرة ". وهذه معلومات مهمة عن مدينة المخا، ومينائها، ومصادر مياهها، ومحاصيلها؛ يُمكن الاستفادة منها في بعض البحوث المهتمة بالعمران، وهندسة المدن والموانئ، ومصادر المياه في الجزيرة العربية في تلك الفترة.

6 - أما قوله عن المخا: " ونشاهد في المدينة مساجد جميلة. يبرز منها المسجد الذي شُيد تكريماً للشاذلي الذي أسس هذه المدينة، وجلب البن في ضواحيها". فهذا القول يؤكد – حالياً - أهمية هذا المسجد، الذي يُعدّ مزاراً دينياً وسياحياً في اليمن؛ لأن المسجد يشتمل أيضاً على ضريح الشيخ الشاذلي، وهو الأمر الذي لم يشر إليه الرحالة. وقول الرحالة عن هذا الشيخ فيما يتعلق بجلب البُنّ، يتفق مع ما جاء في التراث بهذا الشأن؛ فالشيخ الشاذلي المتوفي سنة 909 هجرية (1503م) هو " الشيخ الصالح العارف بالله تعالى أبو بكر بن عبد الله الشاذلي المعروف بالعيدروس مبتكر القهوة المُتخذة من البُنّ المجلوب من اليمن. وكان أصل اتخاذه لها أنه مرّ في سياحته بشجر البُنّ، فاقتات من ثمره حين رآه متروكاً مع كثرته، فوجد فيه تجفيفاً للدماغ، واجتلاباً للسهر، وتنشيطاً للعبادة، فاتخذه قوتاً وطعاماً وشراباً، وأرشد أتباعه إلى ذلك. ثم انتشرت في اليمن، ثم في بلاد الحجاز، ثم في الشام ومصر، ثم سائر البلاد" ([xxvii]).

7 – وعن تجارة البُنّ في المخا، قال الرحالة: " قَلّتْ التجارة منذ أن بدأت أوروبا تحصل على البُنّ من الهند الغربية، وهو السلعة الأساسية في هذا البلد. ويزرعونه في مكان يُسمى بيت الفقيه على بعد ستة أميال من المُخا. ويتم جلبه على الجمال". وهذا القول يُعد حقيقة تتفق مع ما هو معروف عن مدينة (المخا) " وباسمها سمى الأفرنج أفخر البُنّ عندهم أي (مُكا Moka)" ([xxviii]). والوصف الذي جاء عند الرحالة، وفي كُتب التراث يتفق اتفاقاً تاماً مع صورة رمزية مرسومة ومنشورة في كتاب رحلة كارستن نيبور Niebuhr (1733 – 1815م) إلى الجزيرة العربية المنشور بالفرنسية عام 1779م ([xxix]). أما بيت الفقيه المذكور في أقوال الرحالة، فهو منسوب إلى الفقيه أحمد بن موسى بن علي بن عمر عجيل المدفون فيها ([xxx])، ومن حُسن الحظ أن لوحة قبر هذا الفقيه، نشرها نيبور Niebuhr في كتابه أيضاً، كما نشر كذلك صورة مرسومة لمزارع البن في المخا ([xxxi]).

8 – ذكر الرحالة معلومات مهمة جدا عن حاكم المخا – دون ذكر اسمه – قائلاً : "ويمتلك الحاكم أسطبلاً هائلاً لترويض الخيول يقع أمام المنزل الذي أقيم فيه. وأنا أذهب كثيراً لزيارته من باب التسلية. والخيول في هذا الأسطبل صغيرة الحجم، لكنها متينة البنية وفائقة النشاط والحيوية. يوجد في هذا الأسطبل حوالي خمسين فارساً. وقد بدأوا في التحرك جميعاً، وفي لحظة واحدة. وقاموا بعدة حملات بسرعة فائقة. ثم تفرقوا بعد ذلك، وبعضهم يتقاتل ويقومون بتمثيل بعض المعارك. مستخدمين حراباً يبلغ طولها من عشرة إلى اثنى عشر قدماً. والبعض الآخر يقلدون بهذه الأسلحة معارك وهمية، يقومون خلالها بعمليات هجوم ودفاع. أما الخيول فهي مزينة تزييناً رائعاً، تعلوها سرج ذهبية وفضية، وتتدلى من رقابها أجراس. وأما الفرسان، فيظهرون في ملابس جميلة وعمامات بيضاء". ثم جاء الرحالة بوصف مشابه لأسطبل خيول إمام صنعاء، من غير ذكر اسمه – ويقصد به الإمام منصور بن عباس، الذي تولى الإمامة في الفترة من (1775-1813م) – قائلاً عنه: "أما الإمام فلديه جيش كبير. وأسطبل خيوله يضم خيولاً ممتازة". وعلى الرغم من أهمية هذه المعلومات – في هذه الفترة - فإنها تدل على أن اهتمام الحكام بسباق الخيول استمر منذ عهد هارون الرشيد إلى وقت حديث الرحالة، فالأصمعي قال: "إن هارون الرشيد ركب سنة خمس وثمانين ومائة إلى الميدان لشهود الحلبة، فدخلت لشهودها فيمن شهد من خواص أمير المؤمنين والحلبة يومئذ أفراس للرشيد ولولديه الأمين والمأمون ولسليمان بن أبي جعفر المنصور ولعيسى بن جعفر فجاء فرس أدهم يقال له الربيذ لهارون الرشيد سابقة فابتهج لذلك ابتهاجاً علم ذلك في وجهه وقال عليَّ بالأصمعي فنوديت له من كل جانب فأقبلت سريعاً حتى مثلت بين يديه. فقال يا أصمعي خذ بناصية الربيذ ثم صفه من قَوْنَسِهِ إلى سُنبكه" ([xxxii]). كما أن وصف الرحالة لخيول الحكام، إن كان قاصراً على اليمن، فيجب أن نشير إلى أن هذا الاهتمام كان منتشراً في بلاد الجزيرة العربية، لا سيما عُمان. ففي عام 1831م كتب جي. إن. ستوكلر كتابه (رحلة خمسة عشر شهراً عبر خوزستان وبلاد الفرس) - طبعة لندن 1832م (ص3 -8) – وفيه تحدث عن سلطان مسقط سعيد بن سلطان، ووصفه بأنه مزيج من التاجر والمحارب الشجاع، وهوايته تربية الخيول، وقد شاهد الكاتب بعض أصناف هذه الخيول. وهو يصدر الخيول إلى الخارج، كما انه أحياناً يقدمها هدية لأصدقائه ([xxxiii]). وأخيراً نلاحظ أن وصف الرحالة لأسطبلات الخيول في اليمن، يتطابق تطابقاً تاماً مع صورة مرسومة ومنشورة في كتاب (نيبور Niebuhr) سالف الذكر ([xxxiv]).

9 – في رسالة الرحالة من جدة، وصف رحلته بسفينة عربية من المخا إلى الحُدَيْدَة، ومن الحُدَيْدَة إلى جدة، إلى أن قال: " استأنفنا إبحارنا ليلاً كان البحر هائجاً أكثر مما كان بين المخا والحُدَيْدَة، كانت الأمواج من الشدة بحيث اعتقدت لحظة أن سفينتنا الضعيفة لن تقاوم. كنا نهتز ونرتج بصورة مزعجة على مدى اثنتي عشرة ساعة. لذلك فقد رسونا في (كَمَرَان Camaran)، تلك الجزيرة الصغيرة التي لا تشتهر إلا بالمياه العذبة". وربما يظن القارئ أن رسو السفينة في هذه الجزيرة، كان من أجل الماء العذب؛ ولكن الرحالة لم يذكر ذلك، بل ذكر أن الماء حصلوا عليه من خور بيرك – كما سيأتي - والحقيقة التي لم يتنبه إليها الرحالة؛ أن ربان السفينة العربية، عندما شعر بخطر شدة الأمواج، وتعرض سفينته للغرق، قرر التوقف بها في جزيرة (كَمَرَان)؛ كي يجلب تراباً من قبر مُبارك في الجزيرة ليرشه في البحر حتى يحمي سفينته من الغرق، وذلك وفق المعتقد الشعبي في ذلك الوقت. وخلاصة هذا المعتقد: إن الفقيه محمد بن عَبْدوَيه عاش في هذه الجزيرة، وتوفي بها سنة 525 هجرية (1130م)، وبها قبره يُستسقى به، ويزعم أهالي الجزيرة أن البحر إذا هاج مراكبه ألقوا فيه من تراب قبره فيسكن بإذن الله ([xxxv]).

10 – قبل الوصول إلى ميناء جدة، قال الرحالة: " اضطرنا الطقس ذات صباح إلى الرسو في خَوْر صغير يسمى (بيرك Birk) سكانه من البدو، فقد بعث النوخذة بعض الأفراد إلى الشاطئ بحثاً عن الماء الذي اعتدنا شراءه. وقد غالى البدو في الثمن كما توقعنا. ولما لم يصل رجالنا إلى اتفاق فقد، عادوا لمشاورة رئيسهم الذي غضب وصمم على الحصول على الماء بالسعر الذي يريده أو أن يهلك دون ذلك. لذلك فقد حمل سلاحه وتأهب بصحبة عشرين من رجاله يحملون البنادق والرماح، وتوجه بالسفينة نحو الشاطئ". وهذا القول يحمل أمرين مهمين: الأول، أن سكان خور (بيرك) ([xxxvi]) من البدو، كانوا يتاجرون في الماء العذب، وهو أمر شائع في هذا الوقت – في الجزيرة العربية – فقد ذكر ابن بطوطة (1304 – 1378م) في رحلته عن مدينة عدن: أن "بها صهاريج يجتمع فيها الماء أيام المطر. والماء على بعد منها، فربما منعته العرب وحالوا بين أهل المدينة وبينه حتى يصانعونهم بالمال والثياب" ([xxxvii]). كما أبان أحد الرحالة عن هذا الأمر – عام 1893م - قائلاً: "وليس على ساحل البحر بين عدن ومسقط بقعة خصبة غير سهل ظفار، وهو غزير الماء خصب التربة. فيه كثير من شجر النارجيل وعلى ساحله قرى عامرة؛ فرسونا لدى قرية منها واستقينا من مائها، ودفعنا للسكان تمراً بدل الماء، وهي عادة لهم يعطون الماء للمسافرين ويأخذون التمر بدلاً منه" ([xxxviii]). والأمر الآخر، تمثل في نشوب حرب بين البحارة وبين البدو بسبب الاختلاف على ثمن الماء، انتهت بمقتل النوخذة ومجموعة من رفاقه، مما أدى إلى تجدد الحرب في اليوم التالي أخذاً بالثأر. وهذا الأمر يعكس لنا قيمة الماء العذب في الجزيرة العربية، كما يعكس أيضاً أحد أسباب نشوب الحروب بين القبائل العربية في تلك الفترة، وأخيراً يكشف لنا عن أهمية الأخذ بالثأر في وجدان بدو الجزيرة العربية.

والجدير ذكره؛ أن الرحالة تحدث عن أمور أخرى في رسائله، تتعلق بالجانبين الاجتماعي والاقتصادي لثغور الجزيرة العربية، ومدنها، وجزرها – لم نقف عندها بالتفصيل – خشية تضخم البحث من جهة، ومن جهة أخرى، وجدناها أموراً مذكورة ومعروفة من قبل، رغم طرافة بعضها – لذلك سنشير إليها هنا في صورة إجمالية، وسنكتفي بوجود ترجمة نصها العربي الكامل المنشور في الملحق الأول للبحث.

ومن الأمور الاجتماعية، التي أشار إليها الرحالة تأقلمه – بوصفه أجنبياً – مع أسلوب المعيشة العربية على ظهر السفن العربية مع البحارة والغواصين، ووصفهم بالطيبة والشرف، مع تبجيله واحترامه الشديد لقبطان السفينة (النوخذة Noakhodah) أحمد علي. كذلك مقارنته بين جمال النساء في صنعاء وفي إنجلترا، وإسهابه في وصف جمال المرأة الأكثر سواداً. كما أوضح أن النساء في جدة أكثر حرية من أترابهن في مدينة المخا، مع إسهابه كذلك في وصف ملابسهن وزينتهن ([xxxix])، وقد جاء برأي غريب – لا أعلم حقيقته – قائلاً عن نساء جدة: " فهن يعشقن مثل الرجال تدخين الهوكا، التي يحملنها دائماً في زياراتهن". كما اعتبر أن طقوس التدليك في الجزيرة العربية، تُعدّ نوعاً من الرفاهية الشرقية لا تتمتع به أوروبا. كما لفت نظره وجود (قبر أمنا حواء) في جدة، وأن الأهالي يزورونه كل يوم جمعة ويؤدون الصلاة، ويمنعون أي نصراني من الاقتراب منه.

أما الأمور الاقتصادية – التي ذكرها - فمنها: أن مدينة (الحُدَيْدَة Hodeidah)؛ لقربها إلى بيت الفقيه من المخا، فهي تصدر إلى جدة من البن أكثر مما تصدر المخا. وأن (كونسيدة) مكان تتزود منه السفن بالماء العذب، وأن جدة أكبر ميناء تجاري لتبادل السلع بين العرب وأوروبا، وأن حصيلة ضرائب هذا الميناء توزع بين السيد الكبير وبين شريف مكة، وأن أفضل منتجات مدينة جدة دهان (Gilead)، والـ (Senne) السنا: الأول يستخرج من إحدى الأشجار الجبلية، أما الآخر فهو عبارة عن شجيرة توجد في ضواحي مكة.

 


([i]) – انظر: ملحق البحث الثاني الخاص بالصور، صورة رقم (1) لغلاف الكتاب، وبياناته.

([ii]) – للمزيد يُنظر: د.عبد الرحمن بدوي – موسوعة المستشرقين – دار العلم للملايين – بيروت – ط3 – 1993م – ص(506، 507).

([iii]) – يُنظر: ملحق البحث الأول، الرسالة الخامسة.

([iv]) – يُنظر: ملحق البحث الأول، الرسالة الخامسة، تعليق المترجم.

([v]) – يُنظر: ملحق البحث الأول، الرسالة السادسة.

([vi]) – يُنظر: ملحق البحث الأول، الرسالة السادسة، تعليق المترجم الأول.

([vii]) – يُنظر: ملحق البحث الأول، الرسالة السادسة.

([viii]) – يُنظر: ملحق البحث الأول، الرسالة السادسة، تعليق المترجم الثاني.

 

المصدر: بحث قُدم في ندوة دارة الملك عبد العزيز بمدينة الرياض في المملكة العربية السعودية، تحت عنوان (الجزيرة العربية والخليج العربي في الوثائق الفرنسية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين)، في الفترة 8 – 9/5/2010م
sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

752,582