الأصول التراثية لاحتفال الكرنكعوه
أ.د سيد علي إسماعيل
ــــــــــ
ليلة مُبهجة عند أطفال الخليج، هي ليلة النصف من رمضان - أو ليلة النصف من شعبان - وسرّ بهجة هذه الليلة أنها تُعتبر إحياءً لعادة اجتماعية خليجية قديمة، أصبحت بمرور الزمن تراثاً أصيلاً في البيئة الخليجية. فهذه الليلة يعشقها الصغار، لأنهم يحتشدون في جماعات، ويطوفون بالبيوت المجاورة، ويقرعون أبوابها معلقين في رقابهم - أو مُمسكين - أكياساً من القماش، رافعين أصواتهم بالأغاني والأناشيد التراثية، التي تتميز بالدعاء للأصحاب البيوت بالخير واليُمّن والبركات، رغبة منهم في الفوز بأكبر قدر من العطايا والحلوى من قبل أصحاب البيوت، فيعودون وقد امتلأت أكياسهم بجميع أنواع الحلوى والعطايا. وهذه الليلة لها أسماء عديدة تتنوع بتنوع اللهجة المحلية للدولة الخليجية. فهي تُسمى بـ" حق الليلة " في دولة الإمارات، وبـ" كريكشون " في المملكة العربية السعودية، وبـ" قرنقشوه " في سلطة عُمان، وبـ" كركيعان " في الكويت، وبـ" كرنكعوه " في قطر، وبـ" كركعان " في البحرين.
يبدأ الاستعداد لهذا الاحتفال قبيل منتصف شهر رمضان - أو شعبان - حيث تقوم كل أم بحياكة أكياس القماش لأولادها - وتُسمى (الخريطة) - التي تُعلق في رقابهم ليجمعون فيها الحلوى والعطايا. هذا بالإضافة إلى حياكة وتطريز ملابس مخصصة لهذا الاحتفال، مثل (البخنق أو المخنق)، وهو غطاء أسود مطرز للرأس ترتدية الفتيات، و(القحفية) وهو طاقية للرأس يرتديها الأولاد. وهذا الاحتفال يشترك فيه الكبار - مع الصغار - في تزيين المنزل من الداخل والخارج، بل وفي الشوارع، حيث تُعلق الأنوار والزينات الملونة والرايات ولافتات الترحيب وسعف النخيل وإقامة الأقواس .. إلخ هذه المظاهر.
وفي ليلة النصف من رمضان - وبعد الإفطار مباشرة - يتجمع أطفال الحيّ الواحد؛ مرتدين ملابسهم الزاهية المطرزة، معلقين أكياسهم في رقابهم، ويسيرون في جماعات يطوفون منازل الحيّ القريبة منهم، مرددين أغنية (الكرنكعوه) التي تحمل الدعاء لأصحاب البيوت، فيطرقون أبواب المنازل، فتفتح كل صاحبة منزل بابها وتقدم لكل طفل الحلوى والعطيّة المنتظرة، فتتسابق أيدي الأطفال لنيل أكبر قدر منها، ومن ثم يحاول كل طفل ملء كيسه قبل الآخر. ويستمر هذا المشهد أمام باب كل منزل من منازل الحي حتى وقت متأخر من الليل.
وقديماً كانت الحلوى التي تُقدم إلى الأطفال في هذا الاحتفال هي الحلوى التقليدية المحلية، مع بعض الفول السوداني، أو الحُمص، أو التين المجفف والتمر. وهذه الأمور اختلفت الآن حيث أصبحت الحلوى تتسم بمظاهر الثراء في توزيعها، فأصبحت أنواعاً مختلفة من الشيكولاتة والمكسرات باهظة الثمن المغلفة بأوراق الزينة أو المعلبة في أشكال أنيقة. كما أصبحت بعض العطايا عبارة عن أموال تُعطى للأطفال في هذه الليلة، أو بعض الألعاب المتنوعة.
أما الأغاني التي يرددها الأطفال في هذا الاحتفال، فهي تختلف من بلد إلى آخر، رغم توحدها في الهدف. فمثلاً في الإمارات - تبعاً لمُسمى الاحتفال بحق الليلة - تقول الأغنية: "انطونا حق الله، يرضى عليكم الله، جدام بيتكم دلّه، عسى الفقر ما يدله". والمعنى واضح حيث يطالب الأطفال بحقهم في خير صاحب البيت، داعين له برضى الله عليه، ويقنعونه بأنه كريم لأن الدلّة أمام بيته، دلالة على أنه مضياف، وأن الفقر لن يعرف له طريقاً. أما إذا لم يُفتح لهم الباب فإنهم يدعون على صاحب البيت بقولهم: "جدام بيتكم طاسة، وعجوزكم محتاسة"! وهناك رواية أخرى للأغنية تجمع بين الدعاء والتهديد لصاحب البيت في آن واحد، تقول كلماتها: "عطونا حق الليلة، وألا بنذبح عياله، جدام بيتكم وادي، والخير كله ينادي".
وفي البحرين تقول الأغنية: "سلم ولدهم يا الله، وخلِه لأمه يا الله، إييب المكدة يا الله، ويحطها في جُمّ أمه يا الله، يا شفيع الأمة، كركعون عاده عليكم يا لصيام، ما بين الكصير يا رمضان، الله يسلم ولدكم يا الحباب ... إلخ". ومعنى الأغنية تتمثل في الدعاء لأصحاب البيت بأن الله يحفظ أولادهم، الذين يأتون بالرزق لأمهاتهم .. إلخ هذه الأدعية. وفي حالة عدم فتح الباب، يضيف الأطفال عبارات مضادة لأهل البيت في أغنيتهم!
وفي عُمان يقولون: " قرنقشوه يا ناس، أعطونا شوية حلواس، دوس دوس في المندوس، حارة حارة في السحارة ". وفي حالة عدم حصول الأطفال على مبتغاهم يرددون: "قدام بيتكم صينية، ورا بيتكم جِنيّة". وفي قطر يردد الأطفال أغنية الكرنكعوه قائلين: "كرنكعوه كركعوه، كرنكعوه كركعوه، أعطونا الله يعطيكم، بيت مكة يوديكم، يا مكة يالمعمورة، يا أم السلاسل والذهب يا نورة، أعطونا من مال الله، يسلم لكم عبد الله، أعطونا دحبة ميزان ، يسلم لكم عزيزان، يا بنيّة يالحبابة، أبوج مشرع بابه، باب الكرم ما صكه، ولا حط له بوابة". وهذه المعاني لا تختلف كثيراً في بقية بلدان الخليج الأخرى مثل السعودية والكويت.
وهناك عدة تفاسير لمُسمى هذا الاحتفال ب (كريكشون، أو قرنقشوه، أو كركيعان، أو كرنكعوه، أو كركعان)، حيث إنها مُسميات أصلها (القرع) أو (الكرع) - تبعاً للاختلاف اللهجات الخليجية - أي إحداث صوت من قرع شيء بشيء آخر. وهذا الصوت ربما يكون ناتجاً من قرع الأطفال على أبواب المنازل، أو قرع الحلوى بعضها ببعض في كيس الطفل، أو قرع الأحجار بعضها ببعض، لأن الأطفال كانوا - في بعض البلدان الخليجية - يجمعون الحجارة من شاطي البحر ويقرعونها أثناء سيرهم بين منازل الحيّ.
وقيمة الاحتفال بالكرنكعوه في بلدان الخليج العربي ليلة النصف من رمضان - أو شعبان - تتمثل في التمسك بأحد مظاهر التراث الشعبي، باعتباره صورة من صور التواصل والترابط الأسري، مما يعكس مدى التراحم والتآلف للمجتمع الخليجي. هذا بالإضافة إلى بث القيم الاجتماعية الحميمة في نفوس أطفال الخليج، لدفعهم إلى التمسك بتراثهم الأصيل. هذا بالإضافة إلى بث معاني الرحمة والشفقة على الفقراء والمساكين، وذلك بإطعامهم وإسعادهم في هذه الليلة.
الأصول التراثية لاحتفال الكرنكعوه
المعلومات السابقة عن احتفال الكرنكعوه في دول الخليج العربي؛ ربما لا تكون جديدة، حيث إنها معروفة لكثير منّا سواء بالوراثة أو الممارسة أو بقراءتها في بعض المقالات التي نُشرت - سابقاً - حول هذا الاحتفال التراثي. ولكن الجديد الذي أحاول الاجتهاد في توضيحه هنا، يتمثل في البحث عن الأصول التراثية لمفردات هذا الاحتفال.
اسم الكرنكعوه
أتفق مع من سبقني في تفسير اسم (الكرنكعوه)، بأنه إحداث الصوت الناتج من قرع الأطفال على الأبواب، أو قرع الحلوى في الكيس .. إلخ. ويُمكن الاستنارة بالتراث العربي في هذا الشأن، للاسترشاد بأصل الكلمة على اختلاف نطقها، تبعاً للهجة المحلية لكل دولة خليجية. فعلى سبيل المثال نقرأ في معجم (لسان العرب) لابن منظور أن (القرق) لعبة للصبيان يجمعون فيها الحجارة ويصفْونها. وربما هذه الكلمة لها علاقة بالكرنكعوه، مع تطور النطق وإبدال القاف كاف في بعض اللهجات الخليجية، خصوصاً وأن اللعبة بها حجارة، والكرنكعوه به حجارة أيضاً. وفي معجم (العين) للخليل بن أحمد الفراهيدي نقرأ (القرقرة) الضحك، و(الكركرة) ما فوق ضحك القرقرة. وهذا ربما له علاقة بالكرنكعوه لأنه احتفال شعبي للأطفال يكثر فيه الضحك بصورة كبيرة. كما نقرأ أيضاً في معجم العين (القعاقع) وهو نوع من الحجارة تُرمى بها النخيل لتنثر من تمرها، أما (القعقعان) فهو نوع من التمر. ووجود الحجارة والتمر في هذين المعنيين، ربما لهما علاقة بالكرنكعوه لوجود الحجارة فيه، وتوزيع التمر على الأطفال. وأخيراً نجد (قعيقعان) وهو اسم جبل بالحجاز، وربما له علاقة بالاحتفال بالكرنكعوه، أو بمكان نشأته.
موعد الاحتفال
هناك دول خليجية تحتفل بهذه العادة الشعبية الاجتماعية في ليلة النصف من شعبان، مثل دولة الإمارات وتطلق عليها اسم (حق الليلة). وبعض الدول - مثل قطر - تحتفل بها في ليلة النصف من شعبان وتطلق عليها (النافلة)، وأيضاً تحتفل بها في ليلة النصف من رمضان وتطلق عليها اسم (الكرنكعوه)، والثابت أن الاحتفال بالنافلة في قطر يختلف عن الاحتفال بالكرنكعوه، حيث إن النافلة احتفال للأسرة كاملة، وتُغنى فيها أغنية تختلف عن أغنية الكرنكعوه، تقول كلماتها: " يا النافلة يا أم الشحم واللحم، يا رافعة اللي عطا واللي رحم، يا أهل الكرم يا أهل الشيم، زيدوا العطا تزيد النعم، يا النافلة يا أم الشحم واللحم ".
أما بقية الدول الخليجية فتحتفل بالكرنكعوه في ليلة النصف من رمضان. وربما هذا الاختلاف - بين ليلتي النصف من شعبان أو رمضان - راجع إلى النظرة الدينية لهاتين الليلتين المباركتين، فالبعض يقول بأن ليلة النصف من شعبان هي ليلة مباركة استناداً إلى ما ورد في فضلها من حديث نبوي رواه الإمام أحمد، وابن ماجه - وهو حديث حسنٌ - يقول فيه النبيُّ عليه الصّلاة والسّلام: " إنَّ الله يطَّلع ليلة النِّصف من شعبان؛ فيغفر لجميع خلقه؛ إلاّ لمشركٍ أو مشاحن"، والمشاحن هو الذي في قلبه حقد على أخيه المسلم.
وليلة النصف من شعبان دُبجت حولها عدة رسائل وكُتب، منها ما كتبه الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي في رسالته المنشورة باسم (رسالة في فضل ليلة النصف من شهر شعبان)، وفيها جاء المؤلف بأسانيد كثيرة عن فضل هذه الليلة؛ التي سُميت بأكثر من اسم، منها: (الليلة المباركة، وليلة القسمة والتقدير، وليلة الحياة، وليلة الرحمة، وليلة الإجابة، وليلة الغفران، وليلة عيد الملائكة، وليلة الشفاعة والعفو). وفي التراث العربي نجد النويري في كتابه (نهاية الأرب في فنون الأدب)، يقول: " من الليالي المشهورة ليلة البراءة. وهي ليلة النصف من شعبان، قيل سُميت بذلك لأنها براءة لمن يحيها". وفي كتاب (حُسن البيان في ليلة النصف من شعبان) لعبد الله بن محمد بن الصديق الغماري، نقرأ قصصاً تراثية عن إحياء هذه الليلة في الشام، حيث كان أهلها يكثرون الدعاء بعد صلاة المغرب في صورة جماعية في المساجد، وهم في أحسن ملابسهم. وفي التراث العربي نقرأ في كتاب (المثل الثائر في أدب الكاتب والشاعر)، لعز الدين أبو الحسن الجزري المشهور بابن الأثير - المتوفى سنة 637 هجرية: "وفي الأعوام مواسم لصلوات مخصوصة كالتراويح في شهر رمضان والرغائب في أول جمعة من رجب وليلة النصف من شعبان فتملأ المساجد في هذه المواسم التي تكثر فيها شهادات الأقلام في كتب الطاعات ومحو الآثام".
والسؤال الذي لم أجد له إجابة حتى الآن، يقول: إذا كانت ليلة النصف من شعبان ليلة مباركة، وقديماً كان الناس يحتفلون بها بكثرة الدعاء مرتدين أفضل الملابس .. أليس هذا الأمر يتشابه مع الاحتفال بالكرنكعوه في بعض مظاهره ؟! وإذا كان هذا التشابه يخصّ بعض الدول الخليجية، التي تحتفل بهذه المناسبة في ليلة النصف من شعبان .. فما هو الأصل التراثي في الاحتفال بالكرنكعوه في ليلة النصف من رمضان، بالنسبة بقية دول الخليج الأخرى؟! والسؤال بصيغة مباشرة: لماذا تحتفل دول الخليج العربية بالكرنكعوه في ليلة النصف من رمضان؟!
هذا السؤال طرحته على مجموعة كبيرة من أهل الخليج، وعلى المتخصصين في علوم الاجتماع في جامعة قطر، فلم أجد إجابة له! لذلك حاولت أن أبحث عن الإجابة - من وجهة نظري - في تراثنا العربي، فلم أجد احتفالاً معيناً أقامه العرب في ليلة النصف من رمضان. بل ولم أجد سنداً دينياً يجعل ليلة النصف من رمضان لها أفضلية عن أية ليلة أخرى، لأن شهر رمضان شهر مبارك من أوله إلى آخره، وأفضل ليلة فيه هي ليلة القدر لقوله تعالى في سورة القدر: " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ". وقوله تعالى في سورة الدخان: " حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ".
وبناء على ذلك، وجدت أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان له ما يسانده في التراث، خلافاً لعدم وجود هذا السند التراثي لليلة النصف من رمضان! فهل معنى ذلك أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان تمّ نقله؛ كي يُقام في ليلة النصف من رمضان؟! هذا ما تبين لي! والسبب في ذلك - من وجهة نظري - راجع إلى اختلاف العلماء والفقهاء في فضل ليلة النصف من شعبان. فتاريخياً وجدنا - كما سيأتي ذكره - أن العرب عظموا هذه الليلة واحتفلوا بها؛ ولكن علماء الحجاز وفقهاءها - وأيضاً فقهاء المدينة - أنكروا ذلك الفضل، والاحتفال به، وقالوا بأنه بِدّعة، مستندين إلى عدم وجود حديث صحيح في ذلك!! ولكن هذا الحُكم من الصعب تنفيذه عملياً، بالنسبة لاحتفال اعتاد الناس إقامته منذ مئات السنين، وأصبح جزءاً من تراثهم الشعبي، يعيش في وجدانهم بصورة متوارثه! لذلك .. وتجنباً للوقوع في المحرمات، ومن خلال اللاشعور الجماعي - من وجهة نظري - تم تحويل الاحتفال من ليلة النصف من شعبان، إلى ليلة النصف من رمضان، على اعتبار أن شهر رمضان هو احتفال ديني كبير من بدايته إلى نهايته، وفيه يكثر الدعاء، وأهم مظهر من مظاهر الاحتفال بالكرنكعوه هو الدعاء.
أشكال الاحتفال
علمنا مما سبق أن من مظاهر الاحتفال بالكرنكعوه؛ تزيين البيوت من الداخل والخارج بالأنوار - وهو المُعبر عنه في مصر بفانوس رمضان - وهذا المظهر له في التراث العربي ما يؤيده. ففي كتاب (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)، المعروف بكتاب (رحلة ابن بطوطة)، نقرأ عن عادات أهل مكة في ليلة النصف من شعبان، أنهم يبادرون فيها إلى أعمال البرّ من الطواف والصلاة في صورة جماعية، ويجتمعون في المسجد الحرام، ويوقدون السرج والمصابيح والمشاعل. ويقابل ذلك ضوء القمر فتتلألأ الأرض والسماء نوراً. كما أورد أحمد بن علي المقريزي في كتابه (اتعاظ الحنفا) - الذي أرخ فيه للخلافة الفاطمية - أن المساجد في ليلة النصف من شعبان، كانت تكثر فيها الإنارة بواسطة القناديل، التي يتنافس في وضعها الناس، وكانت هذه القناديل في تزايد مستمر من عام إلى عام. ويؤكد هذا المعنى ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية) ويبين أن هذه العادة استمرت أكثر من مائتي سنة، حتى أبطلها - خصوصاً في جامع دمشق - الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاوون، باعتبارها بدعة.
ومن مظاهر الكرنكعوه المعروفة توزيع الحلوى - أو النقود - على الأطفال. ومن الطريف أن التراث العربي فيه ما يشبه هذا الأمر. ففي كتاب (المنتظم في التاريخ) للجوزي، نقرأ في أحداث سنة 783 هجرية، أن ابن سمعون رغب في الحلوى (الحلواء) ليلة النصف من شعبان، وكانت جارية التاجر أبي سعيد الصائغ موجودة. وفي المساء جاءه غلام التاجر بخمسمائة قطعة من الحلوى، وعندما كسر ابن سمعون القطعة الأولى وجد بها ديناراً، فكسر الثانية فوجد أيضاً ديناراً، وهكذا في بقية القطع؛ فظن أن الجارية قامت بذلك لإسعاده ومساعدته في هذه الليلة، دون علم سيدها. فذهب إلى التاجر وأخبره بالأمر، فأبان له التاجر أن الجارية فعلت ذلك بعلمه، بل وساعدها فيه هو وأهل داره.
ومن المعروف أن الأصل في الاحتفال بالكرنكعوه هو إسعاد الآخرين ومساعدتهم بالعطايا والأطعمة، خصوصاً الفقراء منهم والمساكين، وهذا الأمر له أصل تراثي. فالنويري في كتابه (نهاية الأرب في فنون الأدب) - وكذلك ابن تغري بردي في كتابه (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة) - أخبرنا بأن في ليلة النصف من شعبان سنة 630 هجرية، فُتحت دار الحديث الأشرفية المجاورة لقلعة دمشق، ووقف عليها الملك الأشرف أوقافاً جليلة. ومن المعروف أن الأوقاف تُخصص لمساعدة وإطعام الفقراء والمساكين، وهو المعنى المُراد بثه في نفوس الأطفال في ليلة الكرنكعوه.
ونختتم أشكال الاحتفال بليلة النصف من شعبان، التي انتقلت إلى النصف من رمضان، فأصبحت احتفال الكرنكعوه - من وجهة نظري - بقصة تراثية - ذكرها لنا ابن بطوطة المتوفى سنة 725 هجرية - تُجمل كافة المظاهر السابقة، وهي (حكاية أدهم) الذي " مرّ ذات يوم ببساتين مدينة بُخارى، وتوضأ من بعض الأنهار التي تتخللها، فإذا بتفاحة يحملها ماء النهر. فقال: هذه لا خطر لها. فأكلها، ثم وقع في خاطره من ذلك وسواس، فعزم على أن يستحل من صاحب البستان، فقرع باب البستان فخرجت إليه جارية. فقال: أدعي لي صاحب المنزل فقالت إنه لامرأة. فقال: استأذني لي عليها، ففعلت فأخبر المرأة بخبر التفاحة. فقالت له: إن هذا البستان نصفه لي، ونصفه للسلطان، والسلطان يومئذ ببلخ، وهي على مسيرة عشرة من بخارى وأحلته المرأة من نصفها، وذهب إلى بلخ فاعترض السلطان في موكبه فأخبره الخبر، واستحله. فأمره أن يعود إليه من الغد. وكان للسلطان بنت بارعة الجمال، قد خطبها أبناء الملوك فتمنعت وحببت إليها العبادة وحب الصالحين. وهي تحب أن تتزوج من ورع زاهد في الدنيا. فلما عاد السلطان إلى منزله أخبر ابنته بخبر أدهم، وقال: ما رأيت أورع من هذا، يأتي من بخارى إلى بلخ لأجل نصف تفاحة. فرغبت في تزوجه. فلما أتاه من الغد، قال: لا أحلك إلا أن تتزوج ببنتي. فانقاد لذلك بعد استعصاء، وتمنع، فتزوج منها، فلما دخل عليها وجدها متزينة، والبيت مزين بالفرش وسواها. فعمد إلى ناحية من البيت، وأقبل على صلاته حتى أصبح، ولم يزل كذلك سبع ليال. وكان السلطان ما أحله قبل فبعث إليه أن يحله فقال لا أحلك حتى يقع اجتماعك بزوجتك. فلما كان الليل واقعها، ثم اغتسل، وقام إلى الصلاة فصاح صيحة وسجد في مصلاه فوجد ميتاً رحمه الله، وحملت منه، فولدت إبراهيم. ولم يكن لجده ولد فأسند المُلك إليه. وكان من تخليه عن الملك ما اشتهر. وعلى قبر إبراهيم بن أدهم زاوية حسنة فيها بركة ماء، وبها الطعام للصادر والوارد وخادمها إبراهيم الجمحي من كبار الصالحين والناس يقصدون هذه الزاوية ليلة النصف من شعبان من سائر أقطار الشام، ويقيمون بها ثلاثا. ويقوم بها خارج المدينة سوق عظيم، فيه من كل شيء ويقدم الفقراء المتجردون من الآفاق لحضور هذا الموسم، وكل من يأتي من الزوار لهذه التربة يعطي لخادمها شمعة".
ساحة النقاش