الفنان العربي .. يحيى الواسطي
أ.د سيد علي إسماعيل
ــــــــــ
من المعروف أن محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري (1054 - 1112م)، المولود في البصرة، هو الأديب المشهور صاحب (مقامات الحريري) المعروفة باسمه. وهذه المقامات تحكي عن أبي زيد السروجي في مواقف إنسانية كثيرة، وأماكن عربية عديدة، ومع شخصيات متنوعة الأخلاق والنفسيات. وربما كان الحريري لا يقصد من مقاماته استحسان القُراء لجمال قصصها أو لحُسن وعظها أو لإفادتها الاجتماعية، بقدر ما كان يقصد إنتاج قطع أدبيه فنية؛ يجمع من خلالها شوارد اللغة ونوادر التركيب في أسلوب مسجوع. ويعتقد بعض الأدباء أن هذه المقامات ليست سوى صورة أوّلية لفن خيال الظل لابن دانيال، الذي كان يُعرض على الجمهور لتسليته. وربما استلهام نصوص خيال الظل لوقائع المقامات كان السبب وراء رواج هذا الرأي. ومهما كان من الأمر، فإن مقامات الحريري بمادتها الأدبية ذات الصبغة الاجتماعية والسياسية، وبصورها ذات الطابع الواقعي، تُعدّ من أهم كنوز المعرفة بالتاريخ الاجتماعي العربي والإسلامي، في زمن كتابتها.
ومقامات الحريري وصفها الدكتور ماهود أحمد محمد – في دراسته (المنمنمات)، قائلاً: " تمتاز مقامات الحريري عن غيرها بأصالتها اللغوية؛ ففيها الكثير من الأبحاث البيانية لا سيما في البديع، والتعقيد اللغوي، وتصعيب الأداء، ولهذا فقد فاقت غيرها من المقامات بلغتها وعباراتها القصيرة المقطعة والإيقاعية، والتي لا يتجاوز عدد كلماتها الخمسة. وتمتاز كذلك بأشعارها إلى جانب اعتبارها مُعجماً حافلاً بالكثير من المفردات اللغوية، والحريري نفسه كان معروفاً كأحد أعلام اللغة والنحو في زمانه وله عدة مؤلفات في ذلك". والجدير ذكره: إن مقامات الحريري تُرجمت إلى عدة لغات، منها: التركية، والفارسية، والفرنسية، واللاتينية، والإنجليزية، والألمانية، والروسية.
الواسطي .. الفنان العربي
على الرُغم من كثرة النُسخ المخطوطة لمقامات الحريري، إلا أن أشهر نسخة هي نسخة الفنان العربي يحيى بن محمود الواسطي عام 1237م، التي زيّنها بتسع وتسعين لوحة فنية؛ عبرت عن بعض مواقف المقامات الخمسين. ومما زاد هذه النسخة قيمة، أن ألوان لوحاتها مازالت زاهية براقة، تُبهر المشاهد. ويُقال أن السبب في ذلك راجع إلى أن الواسطي كان يصنع أحباره وألوانه من محروق ألياف الكافور الممزوج بزيت الخردل، وهذا الخليط ساعد على إبراز أدق التفاصيل، وثبات اللوحة ومقاومتها للزمن ضد عوامل الأكسدة والتآكل.
ولأن الواسطي هو ناسخ المخطوطة بنفسه، فقد سهّل له ذلك ترك المساحات المناسبة لرسم اللوحات، دون التضييق على نفسه في اختيار الفراغ الملائم لرسوماته، ودون تداخل اللوحات مع السطور. ومن براعة الواسطي الفنية، أنه اختار بعض المواقف البارزة - التي تمثل الفكرة الأساسية - في المقامات، وقام بتجسيدها في لوحاته، شارحاً إياه بالرسم واللون، لدرجة أن القارئ يشعر بأن لولا لوحات الواسطي ما كان استوعب المقامة المكتوبة استيعاباً كاملاً. وبنظرة فاحصة على لوحات الواسطي، نجدها خالية من الخلفيات الطبيعية، التي استعاض عنها الفنان برسم بعض الأعشاب أو الشجيرات، أو الاكتفاء بشجرة أو اثنتين.
أما الشخصيات في لوحات الواسطي، فهي شخصيات عربية، استطاع أن يميّز بينها من حيث السن من خلال اختلاف ألوان الملابس والعمامة واللحية بألوانها المختلفة – تبعاً للمرحلة السنية - رغم اشتراكها في ثبات الوجة الذي جاء بيضاوياً. والملاحظ على شخصيات الواسطي – من خلال لوحاته – أنها لا تعكس تفاصيل الجسم، أو ملامح الانفعال أو الفرح على الوجه، ولا تتناسب مع المنظور الطبيعي، وهذا راجع إلى طبيعة الفن الإسلامي في تلك الفترة. وربما نالت المرأة حظاً وافراً في لوحات الواسطي، فصورها في مواقف كثيرة، تنوعت بين: شكوى الزوج إلى الوالي، والاستجداء بين المصلين، وغزل الصوف، والعديد على المتوفى، ورعي الإبل ... إلخ هذه المواقف الاجتماعية والإنسانية.
أما الفوارق الاجتماعية بين البشر، فقد عالجها الواسطي في لوحاته بتقسيمها إلى قسمين: أحدهما علوي وبه الطبقة الحاكمة، والآخر سفلي وبه طبقات الشعب المختلفة. وهذا التقسيم طبقه أيضاً لبيان الفرق بين الثابت والمتحرك، حيث خصص الجزء العلوي لمباني المدن، والسفلي لحركة الناس. كذلك اهتم في لوحاته بنقل الأسلوب المتبع في العمارة الإسلامية في زمنه، حيث جسد في لوحاته تفاصيل المآذن والقباب والقصور .. إلخ، بالإضافة إلى تصويره لبعض الأدوات المستخدمه في زمنه مثل: أثاث المنزل، وأدوات الموسيقى، والقناديل .. إلخ. أما الحيوانات – لا سيما الإبل - فكان لها نصيب كبير في لوحاته، سواء جاء تصويرها بصورة فردية أو بصورة جماعية.
واتجه الواسطي في أغلب لوحاته إلى الاهتمام بالزخارف النباتية المستمدة من الطبيعة العربية وبيئتها، وعبر عنها بصورة تجريدية بعيدة عن الواقع الملموس، حيث نجد الأغصان والفروع منثنية بشكل غير مألوف لطبيعتها، أو نجد النباتات تتشابك لتشكل أشكالاً غريبة، بعيدة عن واقع إنباتها، أي بصورة تجريدية تبعاً للمدرسة الفنية العربية الإسلامية في ذلك الوقت، التي كانت تهدف إلى التحوير والتهذيب، والبُعد عن تمثيل الطبيعة تمثيلاً مطابقاً.
نماذج من لوحاته
المقامة الرَّحبية – نسبة إلى مدينة الرَّحبة بالفرات – موقفها الأساسي يدور حول اتهام شيخ لصبي بقتل ابنه، والصبي ينكر ذلك. وأدى تشاحنهما إلى ازدحام الجمع حولهما، مما أدى إلى مثولهما أمام الوالي. " فلمّا حضَراه. جدّدَ الشيخُ دعْواهُ. واستَدْعى عدْواهُ. فاستَنطَقَ الغُلامَ وقدْ فتَنَهُ بمحاسِنِ غُرّتِه. وطَرَّ عقلَهُ بتصْفيفِ طُرّتِهِ. فقالَ: إنّه أفيكَةُ أفّاكٍ. علِ غيرِ سفّاكٍ! وعَضيهَةُ مُحْتالٍ. على منْ ليس بمُغْتالٍ. فقال الوالي للشّيخ: إنْ شهِدَ لكَ عدْلانِ منَ المُسلِمين. وإلا فاسْتَوْفِ منهُ اليَمينَ. فقال الشيخُ: إنّهُ جدّلَهُ خسياً. وأفاحَ دمَهُ خالِياً. فأنّى لي شاهِدٌ. ولم يكُنْ ثَمّ مُشاهِدٌ؟ ولكِنْ ولّني تلْقينَهُ اليَمينَ. ليَبينَ لكَ أيصْدُقُ أم يَمينُ؟ فقال لهُ: أنتَ المالِك لذلك. معَ وجْدِكَ المُتَهالِك. على ابنِكِ الهالِك. فقال الشيخُ للغُلام: قُلْ والذي زيّن الجِباهَ بالطُّرَرِ. والعُيونَ بالحَوَرِ. والحَواجِبَ بالبَلَجِ. والمباسمَ بالفلَجِ. والجُفونَ بالسّقَمِ. والأنوفَ بالشّمَمِ. والخُدودَ باللّهَبِ. والثّغورَ بالشّنَبِ. والبَنانَ بالتّرَفِ. والخُصورَ بالهيَفِ. إنّني ما قتَلْتُ ابْنَكَ سهْواً ولا عمْداً. ولا جعلْتُ هامَتَهُ لسَيْفي غِمْداً".
وهذا الموقف جسده الواسطي في لوحة تُظهر الوالي جالساً على كرسي العرش في أعلى اللوحة - مرتفعاً عن المتخاصمين - دلالة على علو مكانته، مُمسكاً برمح رمزاً للقوة. أما الشيخ فيقف في المستوى الأدنى ممسكاً بملابس الصبي متضرعاً للوالي من أجل إنصافه. أما الفتى فلا تظهر عليه أية انفعالات، رغم أنه متهم بالقتل. واللوحة بأكملها تشرح عبارات المقامة المكتوبة فوقها وأسفلها. ويُلاحظ جمال الألوان ودقتها في الملابس وكرسي العرش، مع اختلافها في اللحى والعمائم. كذلك وضوح الوجوه بشكلها البيضاوي، مع اختلاف الشخصيات في المنظور الطبيعي تبعاً للمدرسة العربية في الفن التجريدي.
و(المقامة البغدادية) - نسبة إلى بغداد - تدور حول خداع امرأة عجوز تستجدي مال الناس بالكذب - بواسطة مجموعة من الأطفال - مدعية بأنها مسكينة تحتاج إلى الصدقة، ومن وسائلها في ذلك استدرار عطف الناس بإنشادها الشعر الحزين المؤثر. ولكن بطل المقامة شكّ في أمرها، بعد أن سلبت أموال أصدقائه بتمثيلها المُتقن. وتصف المقامة هذا الموقف: "ونهضْتُ أقْفو أثرَ العَجوزِ. حتى انتهَتْ إلى سوقٍ مُغتَصّةٍ بالأنام. مُختصّةٍ بالزّحامِ. فانغَمَسَتْ في الغُمارِ. وامّلَسَتْ منَ الصّبْيَةِ الأغْمارِ. ثمّ عاجَتْ بخُلُوّ بالٍ. إلى مسجِدٍ خالٍ. فأماطَتِ الجِلْبابَ. ونضَتِ النّقابَ. وأنا ألمَحُها منْ خَصاصِ البابِ. وأرقُبُ ما ستُبْدي منَ العُجابِ. فلمّا انسرَتْ أُهبَةُ الخفَرِ. رأيتُ مُحَيّا أبي زيدٍ قد سفَرَ. فهمَمْتُ أن أهْجُمَ عليْهِ. لأعنّفَهُ على ما أجْرى إليْهِ. فاسْلَنْقَى اسلِنْقاءَ المتمرّدينَ. ثمّ رفَعَ عَقيرةَ المغرّدينَ".
ولوحة الواسطي - لهذه المقامة - تجسد هذا المشهد تجسيداً أميناً، حيث نجد جمع الأصدقاء مرصوصاً بصورة متوازية، وكأنهم مسحورون بحديث العجوز الشعري، كما أوضحت اللوحة سلطة المرأة عليهم بوضعها في المستوى الأعلى، وخلفها الأطفال - أدواتها في الاستجداء واستدرار عطف الناس - ممسكين بملابسها كأنها الأم الحنون. كذلك تظهر براعة الواسطي في رسم الشجرة بصورة تجريدية، حيث أوراقها الغريبة غير المتناسقة مع الأغصان والساق، ولكنها تمثل نوعاً من زخرفة اللوحة. كذلك نلاحظ الألوان وتناسبها مع أزياء الشخصيات، رغم اختلافها. كذلك اختلاف لون اللحى والعمائم. أما حركة الشخصيات فجاءت مُعبرة عن الموقف، لا سيما أيدى الأصدقاء، وانحناءة العجوز تعبيراً عن شيخوختها.
و(المقامة المغربية) تحكي عن موقف لأحد المتطفلين، اقتحم مجلس جماعة أثناء مسامرتهم بعد صلاة العشاء، رغبة في إطعامه. ويروي صاحب المقامات هذا الموقف بقوله: " وقلتُ لهُمْ: أتقْبَلون نَزيلاً يطلُبُ جنى الأسْمارِ. لا جنّةَ الثّمارِ. ويبْغي مُلَحَ الحِوارِ. لا مَلْحاءَ الحُرارِ. فحَلّوا ليَ الحِبى. وقالوا: مرْحباً مرحَباً. فلمْ أجلِسْ إلا لمحَةَ بارِقٍ خاطِفٍ. أو نغبَةَ طائِرٍ خائِفٍ. حتى غَشيَنا جوابٌ. على عاتِقِه جِرابٌ. فحيّانا بالكلِمتَينِ. وحيّا المسجدَ بالتّسليمتَينِ. ثمّ قال: يا أولي الألبابِ. والفضلِ اللُبابِ. أما تعلَمونَ أنّ أنْفَسَ القُرُباتِ. تنْفيسُ الكُرُباتِ؟ وأمْتَنَ أسبابِ النّجاةِ. مؤاساةُ ذوي الحاجاتِ؟ وإني ومَنْ أحلّني ساحتَكُمْ. وأتاحَ ليَ استِماحتَكُمْ. لشَريدُ محلٍّ قاصٍ. وبَريدُ صِبيَةٍ خِماصٍ. فهلْ في الجَماعةِ. منْ يفثأُ حُمَيّا المَجاعَةِ؟".
واللوحة تصف هذا الموقف بصورة تجريدية، حيث اختلاف المنظور وعدم تناسب الأشخاص مع بناء المسجد. ويُلاحظ أن الواسطي عبّر عن تصوير الحريري في جلوس الأصدقاء القرفصاء، مع حركة أيدهم المعبرة عن الحوار والدهشة من اقتحام المتطفل لمجلسهم. مع التأكيد على اختلاف الأزياء باختلاف مستوى المتطفل عن مستوى الجماعة، واختلاف شكل وألوان العمائم واللحى. أما البناء الخشبي للمسجد فهو صورة تبين العمارة الإسلامية في زخرفتها التجريدية، بما فيها من مآذن وقباب خشبية.
أما لوحة (المقامة السنجارية)، فتحكي عن وليمة التف حولها الجائعون، يشتهون ما بها من ألوان الطعام، وكان من بينهم أبو زيد، الذي هاج وماج وأصرّ على رفع الطعام من أمامهم، وعلى الفور قام من مجلسه "فلمّا فاءَ إلى مجْثمِهِ. وخلَصَ منْ مأثَمِهِ. سألناهُ لمَ قامَ. ولأيّ معنًى استرْفَعَ الجامَ؟ فقال: إنّ الزّجاجَ نَمّامٌ. وإني آليتُ مُذْ أعوامٍ. أنْ لا يضُمّني ونموماً مَقامٌ. فقُلنا لهُ: وما سبَبُ يَمينِكَ الصِّرّى. وألِيّتِكَ الحرّى؟ فقال: إنهُ كانَ لي جارٌ لسانُهُ يتقرّبُ. وقلبُهُ عقْرَبٌ. ولفظُهُ شهدٌ ينقَعُ. وخَبْؤهُ سمٌ منقَعٌ. فمِلْتُ لمُجاورَتِهِ. إلى مُحاورَتِهِ. واغتَرَرْتُ بمُكاشَرَتِهِ. في مُعاشرَتِهِ". وقد أبدع الواسطي في رسم هذه اللوحة، حيث نجد ألوان الطعام، وعيون الجالسين زائغة عليها، مع الاعتناء بالأزياء وألوانها، وكذلك العمائم والستائر والأواني وزخارفها.
ولوحة (المقامة الفراتية): تعبر عن بداية نص المقامة، عندما: "حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أوَيْتُ في بعضِ الفتَراتِ. إلى سقْيِ الفُراتِ. فلَقيتُ بها كُتّاباً أبْرَعَ منْ بَني الفُراتِ. وأعْذَبَ أخْلاقاً منَ الماء الفُراتِ. فأطَفْتُ بهِمْ لتهَذُّبِهِمْ. ولا لذَهَبِهِمْ. وكاثَرْتُهُمْ لأدَبِهِم. لا لمآدِبِهمْ. فجالَسْتُ منهُمْ أضْرابَ قَعْقاعِ بنِ شَوْرٍ. ووصلتْ بهِمْ إلى الكَوْرِ. بعدَ الحَوْرِ. حتى إنّهُمْ أشرَكوني في المرْتَعِ والمرْبَعِ. وأحَلّوني محَلّ الأنْمُلَةِ منَ الإصْبَعِ. واتّخذوني ابنَ أُنسِهِمْ عندَ الوِلايَةِ والعَزْلِ. وخازِنَ سِرّهِمْ في الجِدّ والهزْلِ. فاتّفَقَ أنْ نُدِبوا في بعْضِ الأوْقاتِ. لاستِقْراء مَزارِعِ الرُزْداقاتِ. فاخْتاروا منَ الجَواري المُنْشآتِ. جاريةً حالِكَةَ الشِّياتِ. تَحْسَبُها جامِدةً وهي تمُرّ مرّ السّحابِ. وتنْسابُ في الحَبابِ كالحُبابِ. ثمّ دعَوْني إلى المُرافَقَةِ. فلبّيتُ بلِسانِ المُوافَقَةِ. فلمّا تورّكْنا على المَطيّةِ الدّهْماء. وتبَطّنّا الوَلِيّةَ الماشيةَ على الماء. ألفَيْنا بها شيخاً علَيْهِ سحْقُ سِرْبالٍ. وسِبٌّ بالٍ. فعافَتِ الجَماعَةُ مَحْضَرَهُ. وعنّفَتْ منْ أحضَرَهُ. وهمّتْ بإبْرازِهِ منَ السّفينةِ. لولا ما ثابَ إلَيْها منَ السّكينَةِ". وفي هذه اللوحة نجد اهتمام الواسطي بإظهار أسلوب بناء السفن، وعنايته الزخرفية باستخدام الطيور، وتجريده في رسم الماء والأسماك بأسلوب زخرفة المنمنمات، واختلاف المنظور في اصطفاف الشخصيات، إضافة إلى براعته في الألوان، واختلافها بالنسبة للملابس من شخص لآخر.
أما لوحة (المقامة القطيعية)، فهي تصور نزهة للأصدقاء، تحولت المسامرة فيها إلى مباراة في النحو والتلاعب بالألفاظ، ومنها هذه الفقرة المكتوبة حول اللوحة: "وما اسمٌ لا يُعرَفُ إلا باستِضافَةِ كلِمتَينِ. أوِ الاقتِصارِ منه على حرْفَينِ. وفي وَضْعِهِ الأوّلِ التِزامٌ. وفي الثّاني إلْزامٌ؟ وما وصْفٌ إذا أُردِفَ بالنّونِ. نقَصَ صاحِبُهُ في العُيونِ. وقُوّمَ بالدّونِ. وخرَجَ منَ الزَّبونِ. وتعرّضَ للهُونِ؟ فهَذِهِ ثِنْتا عشْرَةَ مسألةً وفْقَ عدَدِكُمْ. وزِنَةَ لَدَدِكُمْ. ولو زِدْتُمْ زِدْنا. وإنْ عُدْتُمْ عُدْنا. قال المُخبرُ بهذِهِ الحِكايةِ: فورَدَ عليْنا من أحاجِيهِ اللاّتي هالَتْ. لمّا انْهالَتْ. ما حارَتْ لهُ الأفكارُ وحالَتْ". والواسطي في هذه اللوحة وجه اهتمامه إلى حياة الريف، حيث نجد ثورين يجران الساقية، والماء ينزل في صورة ديدان، أما الأعشاب فهي غريبة وملونة، والنباتات بصورة تجريدية ملتفة التفافاً غير طبيعي، كذلك الشخصيات وكثرتها وازدحامها في صورة منمنمات، أوضحت قدرة الواسطي على امتلاك فنه العربي.
أما (المقامة الكرجية) فتحكي عن أبي زيد السروجي الذي تنكر في شخصية شحاذ مسكين، يجوب القفار بملابس رثة في فصل الشتاء، فيقابله الحارث بن همام ويُخدع في هيئته ويعطف عليه، حتى عرف أنه أبو زيد " وأنّ تعرّيَهُ أُحبولَةُ صيدٍ. ولمحَ هوَ أنّ عِرْفاني قد أدْركَهُ. ولمْ يأمَنْ أنْ يهتِكَهُ. فقال: أُقسِمُ بالسَّمَرِ والقمَرِ. والزُّهْرِ والزَّهَرِ. إنهُ لنْ يستُرَني إلا مَنْ طابَ خِيمُهُ. وأُشرِبَ ماءَ المُروءةِ أديمُهُ. فعقَلْتُ ما عَناهُ. وإنْ لم يدْرِ القومُ معْناهُ. وساءني ما يُعانِيهِ منَ الرِّعدَةِ. واقشِعْرارِ الجِلْدَةِ. فعمَدْتُ لفَرْوةٍ هيَ بالنّهارِ رِياشي. وفي الليلِ فِراشي. فنضَوتُها عني. وقلتُ له: اقْبَلْها مني". والواسطي عبر عن هذا الموقف خير تعبير في لوحته، التي امتازت برسم الحمار الأسود بأذنيه الطويلتين الموجهتين لبعض الرجال، كأنهما تتسمعان لحوارهم.
وأخيراً نجد لوحة (المقامة الرّملية)، التي تمثل أفواج الحجيج، وهي لوحة فنية بما اشتملت عليه من تركيز المنمنمات وتجميعها في وسط اللوحة، حيث نجد سبعة رجال بين ممتطين للأحصنة والجمال، وبين مترجلين، يضربون بالدفوف وعلى الطبول، وينفخون في الأبواق، ويرفعون البيارق ابتهاجاً برحلتهم المباركة. ومن جانب آخر نجد براعة الواسطي في رسم رؤوس الجمال ورقابهم الممثلة لإنحنائه دائرة اللوحة، كذلك عنايته بزخرفة الهودج والبيارق، واستخدامه للنباتات والحشائش الأرضية، ناهيك عن تناسق الألوان واتساقها مع مفردات اللوحة.
وبهذه النظرة اليسيرة على نماذج لوحات الواسطي الشارحة لمواقف مقامات الحريري؛ نحد أنها لوحات، تُعدّ مرجعاً اجتماعية للعادات والتقاليد العربية، وتاريخياً لبعض الأحداث، واقتصادياً لبعض المواقف، ودينياً لبعض الشعائر، ومعمارياً لأساليب البناء، وزخرفياً لأنواع النباتات، وفنياً لألوان الملابس والأزياء.
ساحة النقاش