أبو حيان التوحيدي .. بين التراث والمعاصرة
عرض دولة قطر في مهرجان دمشق المسرحي 2008م
د. سيد علي إسماعيل
ــــــــــ
مهرجان دمشق المسرحي الرابع عشر، الذي أُقيم في ديسمبر 2008م، كان مُميزاً لأنه جاء ضمن الاحتفال بدمشق عاصمة للثقافة العربية. ومما زاد تميزه عروض دول الخليج العربية، التي لاقت استحسان الجمهور والنقاد معاً، حيث عُرضت ضمن أربعين عرضاً مسرحياً من مختلف دول العالم العربية والأجنبية. فالكويت عرضت مسرحية (الهشيم) تأليف عبد الأمير شمخي، وإخراج فيصل العميري. ودولة الإمارات العربية عرضت مسرحية (النمرود) تأليف سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، وإخراج المنصف السويسي. أما سلطنة عُمان فعرضت مسرحية (المنجور) من إخراج أحمد بن سالم البلوشي، كما عرضت السعودية مسرحية (حالة قلق) تأليف فهد الحارثي، وإخراج أحمد الأحمري. أما دولة قطر فعرضت مسرحية (أبو حيان التوحيدي: رسالة حب منسية) تأليف وإخراج حمد الرميحي، وهي موضوع مقالتنا.
شخصية أبي حيان التوحيدي
التوحيدي شخصية تاريخية أدبية عربية فلسفية متصوفة، عاشت في القرن الرابع الهجري، وتُعد من أعلامها الأفذاذ. فالتوحيدي اُشتهر بثقافته الموسوعية، وبجمال الأسلوب وتنوع المؤلفات الفكرية والسياسية والاجتماعية. وبالرغم من ذلك تجاهله أدباء عصره ومؤرخوه، فلم يدونوا عنه إلا القليل، ولم يخلدوا ذكره بترجمة شافية تعكس لنا حقيقته! وهذا التجاهل تعجب منه ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان)، قائلاً: " لم أر أحداً من أهل العلم ذكره في كتاب، ولا دمجه ضمن خطاب, وهذا من العجب العجاب". فأخذ الحموي على عاتقه كتابة ترجمة للرجل، استقاها من نتف شاردة هنا وهناك في كتابات التوحيدي عن نفسه في بعض مما بقى من كتبه، وأطلق الحموي على التوحيدي عدة ألقاب، منها: فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام, ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء.
والتوحيدي - كما يُقال - وُلد في بغداد سنة 310 هجرية، وتوفي في شيراز سنة 414 هجرية. ويُقال أيضاً أن أصله من شيراز أو من نيسابور أو من واسط، والمرجح أنه عربي الأصل. وكلمة (التوحيدي) جاءت نسبة إلى التوحيد، أي جوهر الدين الإسلامي، ويُقال إنها نوع من التمر العراقي، كان أبوه يتاجر فيه. وعندما أصبح التوحيدي شاباً احترف مهنة (الوراقة) - أي نسخ الكتب وبيعها - وهي المهنة التي أتاحت له قراءة وكتابة أمهات الكتب، على اتساعها وتنوعها، فحصل منها على معارف عديدة متنوعة، ساعدته كثيراً في تأليف كتبه. ومع مرور الوقت أهمل التوحيدي هذه الحرفة، وابتعد عنها، لأنها لم ترض طموحه، ولم تجعله يبلغ المكانة الأدبية التي يصبو إليها، لذلك اتصل بأكابر القوم من الأعيان والسياسيين أمثال: الوزير ابن العميد، والوزير الصاحب بن عباد، والوزير المهلبي، وابن شاهويه وأبو سعدان، وأبو الوفاء المهندس .. وهذا الاتصال لم ينفعه، فاشتد يأسه في الحياة!
ومن أقواله اليائسة: " لقد فقدت كل مؤنس وصاحب، ومرافق ومشفق، ووالله لربما صليت في الجامع، فلا أرى جنبي من يصلي معي ..... فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، محتملاً للأذى ". كذلك قوله لأبي الوفاء المهندس: " خلصني من التكفف، أنقذني من لبس الفقر, أطلقني من قيد الضر, أكفني مؤونة الغداء والعشاء. إلى متى الكسيرة اليابسة, والبقيلة الذاوية, والقميص المرقع? إلى متى التأدم بالخبز والزيتون؟ لقد أذلني السفر من بلد إلى بلد, وخذلني الوقوف على باب باب، ونكرني العارف بي, وتباعد عني القريب مني".
وظل التوحيدي في منطقة الظل الأدبي سنوات طويلة، فانخرط في طريق الصوفية، فلم يجد فيه مأمله، مما جعله ينقم على عصره ومجتمعه، فأقدم على فعل جنوني، حيث أحرق كتبه - وهو في التسعين من عمره - عندما شعر بأن عصره تجاهلها، وأنها ليست جديرة بالوجود وسط قُراء لا يقدرون العلم والفكر، قائلاً: " إني جمعتُ أكثرهَا للنَّاسِ ولطلبِ المثالةِ منهم، ولعقدِ الرياسةِ بَيْنَهُم، ولمدِّ الجاهِ عندهم، فحرمتُ ذلك كُله، ولقد اضطررتُ بيْنَهم بعد العشرةِ والمعرفةِ في أوقاتٍ كثيرةٍ إلى أكلِ الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بين الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحْسُنُ بالحرِ أن يرسِمَهُ بالقلم، ويطرحُ في قلب صاحبه الألم".
ورغم هذا التصرف الجنوني اليائس - أي إحراق الكتب - فقد وصلتنا عدة كتب للتوحيدي، هي ما تبقى من ذكره وآثاره العلمية النفيسة - ربما أُنقذت من الحريق، أو أنها نُسخت في أماكن أخرى - منها: الامتاع والمؤانسة، والبصائر والزخائر، والصداقة والصديق، وأخلاق أو مثالب الوزيرين، والإشارات الإلهية، والمقابسات، والهوامل والشوامل، وتقريظ الجاحظ، ورسالة العلوم، والرسالة الصوفية، والرسالة البغدادية، والحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي، ورياض العارفين.
وشخصية أبي حيان التوحيدي من الشخصيات الجدلية في تاريخ العرب، حيث انقسم العلماء حيالها بين قادح ومادح! فالعسقلاني في كتابه (لسان الميزان)، أبان عن صاحبها أنه صاحب زندقة وانحلال. أما الذهبي في كتابه (سير أعلام النبلاء) فوصفه بالضال الملحد الكاذب قليل الدين المجاهر بالبهتان القادح في الشريعة. أما أبو الفرج الجوزي فقال: " زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري، وأشدهم على الإسلام أبو حيان". وفي مقابل هذا القدح، وجدنا علماءً يمدحونه، ومنهم السبكي في كتابه (طبقات الشافعية الكبرى)، واصفاً إياه بشيخ الصوفية .. كثير التدين .. صحيح العقيدة!!
النص المسرحي
هذه الشخصية القلقة المثيرة للجدل الفكري والفلسفي والتاريخي، استدعاها الكاتب المسرحي القطري (حمد الرميحي) في مسرحيته (أبو حيان التوحيدي: ورقة حب منسية)، من خلال تصوير حياة التوحيدي بكل قلقها وأفكارها ويأسها في صورة جثة تبحث عن قبر لها في معظم البلدان العربية والإسلامية، حيث تجوب هذه الجثة المضطربة النوازع والمشاعر بلاد: العراق، ومصر، والشام، وتونس، وشط العرب، وشيراز .... جابت جثة التوحيدي هذه البلدان بحثاً عن المأوى، الذي يُريحها من عذاب الحياة!
ومن خلال هذه الرحلة بث المؤلف أفكار التوحيدي في حواره مع شخصيات المسرحية، وهي شخصيات تتنوع بين الوجود الحقيقي التاريخي لها، والمختلق الفني لشخصيات لم نقرأ عنها في حياة التوحيدي - وفق ما بين أيدينا من مراجع - مثل شخصية (أم التوحيدي)، وشخصية الحبيبة (ماء الحياة)، ولعلها شخصية اعتبارية رامزة إلى إكسير الحياة الخالدة، التي يرنو إليها التوحيدي من خلال جثته الباحثة عن قبر لها. والجدير بالذكر أن فكرة عقاب الإنسان بعد موته بعدم دفن جثته؛ فكرة مسرحية قديمة، تناولها كُتاب قدامي في تناولهم لقصة أنتيجون، وسعيها إلى دفن جثة أخيها، التي حُكم عليها بعدم الدفن عقاباً لصاحبها، وعلى الرغم من ذلك فحمد الرميحي عالج هذه الفكرة عربياً باقتدار، حيث استغلها استغلالاً فنياً، لتصبح محور أحداث المسرحية، والمتكأ الفني لتجوال التوحيدي في الأقطار العربية من خلال جثته الباحثة عن قبر لها.
ومما يُحسب إلى النص المسرحي أن مؤلفه كان صادقاً مع تاريخ التوحيدي، حيث استند إلى وقائع تاريخية معروفة عن البطل، مثل تطرقه إلى النزعة الصوفية عند التوحيدي، والإشارة الذكية إلى عمله بالوراقة والتبرم من هذه المهنة في مشاهد مؤثرة، هذا بالإضافة إلى بيان صورة التوحيدي بوصفه زنديقاً في نظر البعض، ومتديناً شديد الإيمان في مواقفه عند البعض الآخر. كذلك أوضح المؤلف بعض المواقف السياسية للتوحيدي، وأبان فترات يأسه وتبرمه من الأصدقاء والحياة، وصولاً إلى الطامة الكبرى، عندما أقدم على حرق كتبه.
هذه الأمور التاريخية المعروفة عن التوحيدي، وظفها الرميحي فنياً في نصه المسرحي، مستنداً في صدقها إلى بعض أقوال التوحيدي ونصوصه المنشورة في كتبه، وكان المؤلف يُشير إلى مواضع هذه الاقتباسات في نصه. وربما كثرة هذه الاقتباسات - في النص المسرحي - وتعمق الرميحي في كتابات التوحيدي، أثر على أسلوبه المسرحي في التأليف بصورة إيجابية، فجاءت عباراته أشبه بعبارات التوحيدي نفسه، حيث جاءت سطور المسرحية مشبعة بالجدل الفلسفي والعبارات الشاعرية، التي يستمتع القارئ بها أكثر من استمتاعه بسماعها، وكأنها مسرحية ذهنية يتمثلها القارئ في ذهنه وخياله. ومثال على ذلك قول الجوقة في وداع التوحيدي: "وداعاً أيها الحرف الغائر المنقوش في الذاكرة، أطلب الرحمة والمغفرة، لتربة خصبة، حزينة، تفترس لحمها طيور جارحة تعشش في مقبرة ".
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ماذا كان هدف حمد الرميحي من كتابة هذه المسرحية؟ أكان هدفه سرد حياة التوحيدي المعروفة تاريخياً في صورة مسرحية؟ أم كان هدفه مناقشة آراء التوحيدي؟ أم كان هدفه وضع حدّ لانقسام الكُتّاب أمام هذه الشخصية القلقة؟ الحقيقة - من وجهة نظري - أن هدف الرميحي من كتابة هذه المسرحية هو إسقاط التاريخ على الوضع الراهن لأزمة العراق - وأزمة الأمة العربية الإسلامية - حيث استغل جدلية شخصية التوحيدي لتكون معادلاً موضوعياً لأزمة العراق السياسية الآن. والمواضع الدالة على هذا التفسير كثيرة في النص المسرحي، ومنها على سبيل المثال الحوار التالي، الذي يصور العراق مقبرة ضاقت بموتاها، فهجرها الأحياء تاركين أماكنهم قبوراً تستوعب القتلى الجدد:
أبو حيان: (يجلس في نعشه، ينظر إلى المجموعة، تستدير لمغادرة المكان) لما الخروج من أرض الرافدين.
الجوقة: لنترك فسحة للقتلى، ضاقت القبور، ألم تسمع العويل؟!
أبو حيان: (في خجل) سمعت، أخجلتني الفجيعة (تتحرك المجموعة للخروج) إلى أين؟
الجوقة: إلى مكان لا توجد به حياة نداري فيه خجلنا، ألمنا، خزينا، فجيعتنا، لم تعد أرض بني يعرب تشرف الموتى بالدفن فيها تعال معنا.
وهكذا نجح المؤلف في توظيف التراث العربي بصورة معاصرة؛ للتعبير عن أزمة راهنة بطريق فني غير مباشر، محققاً المعادلة الفنية: المزاوجة بين التراث والمعاصرة.
العرض المسرحي
مسرحية (أبو حيان التوحدي: ورقة حب منسية) بوصفها مسرحية ذهنية، يُخشى على معانيها من الضياع والضبابية عند عرضها على خشبة المسرح، خصوصاً إذا تلقفها مخرج لا يُحسن فهم معانيها، ولا يحسّ بشاعرية عباراتها الفلسفية! ولكن لحُسن الحظ أن مخرجها هو نفسه مؤلفها حمد الرميحي، وبذلك جمع الرميحي بين الحُسنيين! فعندما عُرضت هذه المسرحية في مهرجان دمشق المسرحي، لاقت استحساناً نقدياً وجماهيراً كبيراً، لما فيها من احتفالية وعناصر عرض مُميزة، دلت على قدرة المخرج في امتلاكه لأدواته الفنية، بمساعدة فريق العمل، الذي لم يبخل في عطائه مستنفراً طاقاته الفنية استنفاراً كبيراً، مُصمماً على نجاح العرض وتألقه وسط عروض بلغت الأربعين عرضاً في هذا المهرجان.
كان الممثل القدير (عزيز خيّون) بطل العرض مجسداً لشخصية التوحيدي، وهي الشخصية التي ستُلصق به لسنوات كثيرة قادمة في أذهان الجمهور، على غرار شخصية صلاح الدين الأيوبي الملتصقة في أذهاننا بالممثل أحمد مظهر، وشخصية عمر المختار الملتصقة بالممثل أنتوني كوين. فعزيز خيون جسد التوحيدي أبلغ تجسيد، لا سيما في حركاته وإشاراته، ناهيك عن جهارة الصوت والإلقاء، والتنوع في تغيير النبرات وفق مقتدى حال الموقف التمثيلي. ومهارة هذا الممثل في أدائه أثرت سلباً على بقية الممثلين، فلم تؤثر في نفوس الجمهور شخصية في العرض مثلما أثرت شخصية التوحيدي، وهذا الأمر سببه مساحة الحوار الكبيرة في النص المخصصة لها.
أما الممثلة (لارا حتى) التي جسدت شخصية (ماء الحياة) حبيبة التوحيدي، فلم تكن على قدر المساواة فنياً مع حبيبها التوحيدي، وهذا الأمر ربما سببه أنها شخصية مختلقة لا أصل لها في تاريخ التوحيدي، حيث جلبها المؤلف من خياله، فلم يستطع أن يضع لها حواراً مناسباً، أو مجابهاً في قوته لحوار التوحيدي، الذي شغل معظم النص. وهذا الأمر لا يقلل من قيمة أداء الممثلة، التي حاولت بكل طاقتها أن تظهر بمظهر البطلة حبيبة التوحيدي، ولكن - كما ذكرنا - عزيز خيّون كان عملاقاً، فتهمشت الشخصيات الأخرى أمامه.
شذت عن هذه القاعدة شخصية واحدة، وهي المطربة (شروق محمد)، التي طالعتنا بمقاطع غنائية ذات نبرات موسيقية متناغمة، تنم عن طرب أصيل، فأعادتنا إلى جو الطرب الأصيل أيام كوكب الشرق أم كلثوم. والحق يُقال: فإذا كان عزيز خيون امتلك خشبة المسرح بجهارة الصوت والأداء المتميز، فلم تظهر أمامه شخصية أخرى استطاعت إبعاده عن هذه السيطرة إلا المطربة شروق في مقاطعها الغنائية، لدرجة أن الجمهور كان يتشوق لسماعها بين فترة وأخرى، وعندما تصل نغماتها إلى آذانه، كان ينسى العملاق خيون حتى أثناء وجوده على خشبة المسرح. ولو أعاد حمد الرميحي عرض هذه المسرحية مرة أخرى، وأعطى لهذه المغنية دور البطولة، لضمن ضماناً كبيراً نجاح عرضه بصورة غير مسبوقة، وخفف - في الوقت نفسه - الجهد المبذول من خيون، ولأسعد جماهيره بمشاهدة وسماع خامة فنية جديرة بالتشجيع، لتظهر ظهوراً متألقاً يليق بإمكانياتها التمثيلية والغنائية.
أما البطل الثالث الذي أسهم في نجاح العرض، فكان الإضاءة، التي جاءت متوافقة مع حركات الشخوص وعبرت بجلاء عن مناحي الحياة، وشكلت مع الحوار جواً شاعرياً جعل المشاهد يعيش بوجدانه حياة التوحيدي، ويتلمس بإحساسه معاناته وعذاباته. كذلك لا نستطيع إلا الإشادة بالملابس التي جاءت متوافقة مع عصر التوحيدي، والموحية بأنها بقايا أكفان ممزقة، كتمزق النفس البشرية التراثية المتمثلة في شخصية التوحيدي، أو المعاصرة المجسدة لمعاناة الشعب العراقي في وقتنا الراهن.
وربما نعقد مقارنة - في المستقبل - بين هذه المسرحية، ومسرحية أخرى يكتبها حمد الرميحي الآن عن الفيلسوف (ابن رشد). ومن الواضح أن نجاح التوحيدي دفع المؤلف إلى السعي وراء نجاح آخر يأمله من خلال شخصية عربية تراثية أخرى هي (ابن رشد). ولو التزم الرميحي بهذا اللون في التأليف المسرحي، سيكون صاحب اتجاه مميز في التأليف، وصاحب رسالة فنية تهدف إلى توظيف التراث العربي بصورة معاصرة.
ساحة النقاش