أثر بحوث الأدب العربي الحديث ونقده في بناء حضارة الأمة

حولية كلية الآداب والعلوم بجامعة قطر نموذجاً

أ.د سيد علي إسماعيل

ــــــــ

بحوث الأدب العربي الحديث، بوصفها أسلوباً فعالاً في انتشار اللغة العربية، وبالتالي في تحقيق الغايات النبيلة للأمة الإسلامية - هذه البحوث المنشورة - لها نتائج تسهم في البناء الحضاري للأمة العربية والإسلامية. والبحوث المقصودة هنا، هي البحوث الأكاديمية المنشورة في حوليات الكليات، لا سيما حولية كلية الآداب والعلوم بجامعة قطر، بوصفها نموذجاً لهذه الدراسة.

نظرة عامة

صدر العدد الأول من حولية كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية بجامعة قطر عام 1979م، باعتبارها منبراً للفكر، ومنارة للإيمان، ضمن فلسفة إسلامية عربية واضحة المعالم محددة القسمات. وهذه الحولية اهتمت بنشر الأبحاث العلمية الجادة الرصينة المرتبطة بقضايا المسلمين والعرب وقضايا الإنسان المعاصر ([1]). ومنذ صدور العدد الثاني عام 1980م، توجه اهتمام القائمين على الحولية نحو الجوانب الخليجية، وهو اتجاه رُؤيَّ وجوب العناية به، لأن بيئة الخليج – رغم كثرة ما يصدر فيها من مجلات – تظل بحاجة إلى عناية ورعاية ودراسة، فالبيئة وقتئذ كانت بكراً، والقول فيها سيبقى جديداً، وأن الكشوف في حياتها الاجتماعية والتاريخية والجغرافية والأدبية ستبقى رائدة ([2]).

وبعد مرور أربع سنوات – وفي العيد العاشر لجامعة قطر عام 1984م - تبلورت خطة الحولية واكتملت رسالتها التنظيرية في ثلاث دوائر: الأولى هي الدائرة القطرية، وقد انصرفت العناية فيها إلى البحث عن فكر قطر وأدبها وتاريخها وآثارها وطبيعة أرضها وأحوال مجتمعها وماضيها وحاضرها، والدائرة الثانية هي الدائرة الخليجية التي تكمل صورة قطر في محيطها الواسع، أما الدائرة الثالثة فهي الدائرة العربية التي تبحث في الفكر العربي الإسلامي في شتى مناحيه تراثاً ومعاصرة ([3]).

وظلت الحولية تسير على منهجها العلمي - المعتمد على الدوائر الثلاث السابقة – طوال عشرين سنة حتى العام الدراسي 2004/2005م، عندما بدأت جامعة قطر في التطوير بهدف إعداد خريجين مؤهلين ومزودين بالمعرفة وأساليب البحث والمهارات والخبرات التي تُلبي احتياجات المجتمع القطري. وقد امتد التطوير إلى الكليات إذ تم دمج كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية مع كلية العلوم في كلية واحدة سُميت كلية الآداب والعلوم، فأدي هذا الدمج إلى تغيير اسم مجلة كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، إلى اسم جديد هو (مجلة جامعة قطر للآداب)، التي صدر منها عدد واحد فقط عام 2005م ([4])، ومن ثم توقفت عن الصدور، أملاً في إصدارها بشكل يتناسب مع خطة الجامعة في التطوير. وهكذا نلاحظ أن الحولية صدرت طوال ثلاثة عقود – تقريباً – ويُمكن تقييم بحوثها في مجال الأدب الحديث ونقده، لمعرفة مدى إسهام هذه البحوث في تحقيق الغايات النبيلة للأمة الإسلامية، وكذلك إسهامها في البناء الحضاري للأمة العربية والإسلامية.

في مجال الرواية

أول مجال أسهمت فيه بحوث الأدب الحديث، كان مجال الرواية، وتحديداً رواية مريود للطيب صالح. وهذه الرواية تدور أحداثها في عدة لوحات تتناول حياة الإنسان السوداني في القرية، ولكنها في الوقت نفسه تستغل الأسطورة استغلالاً فنياً، ومن خلال الدراسة التحليلية حاول الباحث الكشف عن الرؤية التي يصدر عنها الكاتب، المتمثلة في صراع الإنسان العربي المعاصر، وسط حضارتين، أي تصوير أزمة المثقفين في وطننا العربي، التي تنتهي بموقف يصور الانسجام بين الدين والدنيا. فالإنسان المتمرد – في الرواية - ظن نفسه إلهاً صغيراً ففرت منه الدنيا، وفقد نعمة الدين وكتب عليه القلق الأبدي، برغم جبروته.

إن محاولة إثبات الحقائق الدينية بالفرضيات والنظريات العلمية القائمة حالياً لا تخدم الدين، لأن الحقائق العلمية نسبية قابلة للنقد والتغيير – على الرغم من ثبوت القوانين – وهي تفسيرات لظواهر طبيعية، إلى أن يظهر مزيد من الظواهر تعجز عن تفسيره. أما الحقائق الدينية فهي مطلقة تعتمد على الإيمان ولا تخضع للتعديل، فما هو من عند الله يمكن إثباته برأي المفكرين أو تجارب الباحثين، ولا تعارض بين أن يؤمن الإنسان وأن ينعكس إيمانه على أخلاقه وسلوكه الاجتماعي وبين أن يفكر علمياً في أمور الحياة وأن يبحث بأسلوب علمي ويطبق نتائج الأبحاث تطبيقات تكنولوجية وطبية وزراعية وغير ذلك لخير الإنسانية. فالرواية تؤكد على أن أساس العلم التشكيك وأن أساس الدين الإيمان.

كما تؤكد الرواية أيضاً على أن الإنسان مهما بلغ به العلم ينظر فإذا هو أمام غموض يلفه كأنه الإنسان البدائي، إنه ذرة في هذا الكون اللامتناهي، بل هو لم يكتشف بعد إمكانيات السيطرة على مخاوفه، ولم يكتشف عقله بعد الحلول لكثير من معضلات الفكر، وهذه الحيرة الحزينة أو هذا الحزن الحائر يمثلان – ضعف الخائف من صديق – وهو العلم – يمكن أن يغدر به. فسيطرة الغرب – العلم – على الدنيا زادت مأساة الإنسان فصولاً، وسيطرة الشرق – الدين – على الدنيا هل تحل المشكلة؟ لا، فإننا لم نحلها في بيئتنا، والهوة تتسع وتتسع. هكذا طرح الطيب صالح المشكلة في روايته وتركها علامة استفهام كبيرة، أشبه ما تكون بإدانته للعصر، وكانت مريود قمة المأساة التي يعيشها الإنسان في الشرق، وربما في الغرب أيضاً، الإنسان المثقف والمفكر ([5]).

في مجال الأدب الخليجي

أول دراسة في مجال الأدب الحديث المتعلق بالخليج العربي، كانت دراسة تحليلية اجتماعية أدبية، تهدف إلى إبراز ملامح الشخصية الخليجية، عن طريق شعراء الإحياء في الخليج، أمثال: صقر الشبيب وخالد الفرج من الكويت، ومحمد بن عيسى الخليفة وعبد الرحمن المعاودة من البحرين، وأحمد يوسف الجابر وابن درهم من قطر، الذين تناولوا قضايا الوطن العربي نتيجة تأثر البيئة الخليجية بأحداثه، كأن الجميع ينبض عن قلب واحد مهما تباعدت أطرافه أو شغلته الشواغل. لذلك نجد شعراء الإحياء في الخليج خلال الربع الثاني من القرن العشرين لا يتناولون القضايا السياسية والاجتماعية من موقف إسلامي واضح، ولكنهم يحتفلون بالمناسبات الدينية كذكرى المولد النبوي والإسراء والمعراج وحلول شهر رمضان أو العيدين ... إلخ، وإن كانت هذه المناسبات تثير أشجانهم حيناً وغضبهم حيناً آخر حسب رؤيتهم لأحوال المسلمين.

ثم كانت النقلة بعد اكتشاف البترول واستغلاله أشبه بالمفاجأة، وتعقدت الحياة، مما غلّب الجوانب المادية وأوهى عُرى الروابط، فتراجع المفهوم القبلي وبدأ مفهوم الأسرة يحتل وضعاً جديداً، لأن التجمعات تبدأ في الذوبان في المدن الكبيرة. وترتب على هذا أن أصبحت قيم التعليم قيماً أساسية، ثم ظهرت النزعة الفردية نتيجة الإحساس بالذات على أثر ارتفاع الأجور من ناحية والاستغلال الاقتصادي من ناحية أخرى. وبعبارة أخرى أصبح على الفرد أن يواجه زحام الحياة وحده، وأن يواجه التطورات السريعة وحده، مما جعل التكيف مع الحياة الجديدة أمراً بعيد المنال، وظهرت حالة من القلق تتميز بها النقلات الاجتماعية في الحضارات. ومن هنا ظهر تيار جديد في الشعر عرف فيه النقاد سمات الرومانسية، لم تعد موضوعات الشعر مديحاً وهجاء وفخراً ورثاء، ولكنها أصبحت حديث النفس ونجوى الذات الضيقة بالواقع والتي تحلم بالمدينة الفاضلة، وترتب على هذا أن الجهارة الخطابية لم تعد واضحة؛ فرقة الألفاظ حلت محل الجزالة والهمس بدلاً من الخطابة. فالجملة الشعرية ليست جملة منطقية، ولكنها تعبير جمالي ينقل تجربة وجدانية يهمس بها الشاعر إلى رفيقه أو إلى ذات نفسه ولم تعد القصيدة تُكتب لتنشد ولكنها تُكتب لتقرأ والأحزان التي تحيط بالشاعر ليس لها تعليل شخصي مباشر، وإنما هي نتيجة ضغط الحياة وكثرة تحدياتها وإحساس الفرد بالحيرة أمام المتغيرات المادية، فلا ملجأ له سوى العواطف عزاءً عن الواقع وإلى الطبيعة عزاءً عن المدينة، وإلى الماضي عزاءً عن الحاضر. وقد عبر الكثيرون عن رغبتهم في العودة إلى حياة البساطة، إلى الخيمة والناقة .. الرمزين الخالدين للبدوي.

والواقع أن منطقة الخليج التي شهدت التيار الرومانسي في أعقاب ظهور النفط، شهدت مولد التيار الواقعي الذي ارتبط بالشعر الحر يساير التيار الرومانسي في مرحلة من مراحله. وكلما تقدمت الأيام ركد التيار الرومانسي وازداد تدفق التيار الجديد حتى غلب على الموقف الأدبي في الخليج. ومنذ الصدمة الحضارية والتوتر حتى معايشة الواقع ومحاولة التأقلم بقيت عناوين الدواوين تحمل مدلولاً خليجياً في كثير من الأحيان مثل: (نفحات الخليج) لعبد الله سنان و(أغاني البحار الأربعة) لعبد الرحمن رفيع، و(المبحرون مع الرياح) لخليفة الوقيان، و(أنين الصواري) لعلي عبد الله خليفة، و(مذكرات بحار) لمحمد الفايز، و(من أغاني البحرين) لأحمد محمد الخليفة، و(أشعار من جزيرة اللؤلؤ) لغازي القصيبي ([6]).

ومن رحاب الشعر انتقلت الأبحاث إلى مجال القصة القصيرة، التي أبانت عن موقف الجيل الجديد من الجيل القديم، جيل تربى ونشأ لا يقتنع بشيء من التقاليد إلا إذا أثبت منهج الحياة الحديثة صلاحيته بعد إعمال الفكر، أما التسليم بالأمور لمجرد أن الآباء ورثوها، فلم يعد الموقف مقبولاً في عصر التطور السريع والتفكير العلمي الذي يناقش كل شيء، ومن هذا المنطلق كان منطق الفتاة الشابة وهي تتأفف من محاصرة التقاليد لها في كل حركة وكل خطوة وكل موقف حتى تكاد تختنق. إن هذه اللمسات السريعة التي تمسها وهي تجري كأنها تحاول الهروب من واقعها، تجعلنا ندرك بعض زوايا هذا الحصار الذي تتحدث عنه هذه القصص، مثل: غلاء المهور والمباهاة بها حتى أصبحت هذه المغالاة عقبة في سبيل زواج العديد من الفتيات، زواج الأقارب كأنه القدر المحتوم، أو كأن الفتاة لا رأي لها في شريك حياتها، مشكلة دراسة الفتاة في الخارج أو إكمال دراستها.

ولكن الفتاة الجديدة لا تقف أمام هذه العوائق مكتوفة اليدين، فهي ابنة عصرها، كما كانت أمها ابنة عصرها، وعصرها علمها أن تكون قوية الإرادة واعية لحقوقها وواجباتها. وإذا كانت قد أدركت في النهاية أن كثيرين من شباب أوروبا الذين حسدتهم يعيشون تائهين ضائعين، وأن أعلى نسبة انتحار موجودة عندهم في الغرب، وأن المرأة الغربية ربما تحسد المرأة الشرقية لأنها تجد من يهتم بها، فإنها في الوقت نفسه لم تسلم بالكثير من تقاليدنا، وهي قادرة على مناقشتنا بموضوعية ووعي حتى تقنعنا أو نقنعها، إن الشخصية الرئيسية - في القصص - تقول الكثير وإن كانت حركتها ذهنية في أكثر الأحيان، لأن الحدث الذي أعاد إليها توازنها، وإدراكها أن من عاداتنا وتقاليدنا ما ينبغي أن يستمر لأنه في صالح الفتاة نفسها، هذا الحدث هو معرفتها أن خطيب شقيقتها يعاملها معاملة الأخت الصغيرة المتمردة لا أكثر ولا أقل، وإحساسها أن الغرور دفعها إلى توهم أمور بعيدة عن الواقع، ومن ثم عادت إلى واقعها ورأت الأمور بوضوح أكبر.

إن ظهور القصة القصيرة في قطر – والخليج بصفة عامة – يعد مؤشراً مهماً في تطور التجربة الثقافية والفكرية، بعد أن بدأت المرحلة التقليدية المرتبطة بفن الشعر تستنفد موروثها من الأساليب والمضامين، حيث استجدت كثير من الموضوعات التي قد تتوفر للشعر القدرة على استنباطها، الأمر الذي جعل من ظهور فن القصة القصيرة وغيره من الفنون النثرية الحديثة، ظرفاً تاريخياً، حيث يتجه إلى التفاعل مع ما يتدفق في المجتمع من عوامل مختلفة يرتوي منها هذا اللون الفني فتتضح ظواهره ([7]).

بعد الشعر والقصة يأتي المسرح الذي يُعد الضلع الثالث في الأدب الحديث خليجياً، من خلال مجموعة من النصوص المسرحية، التي تتناول المشاكل الاجتماعية بشكل تسجيلي، أو بتعبير آخر تنقل بعض هذه المشاكل نقلاً فوتوغرافياً، وقد انحصرت معظم هذه المسرحيات أو المشاكل التي تناولها الكُتاب في مشاكل الزواج، وغلاء المهور والجوانب السلبية في بعض الموظفين والإدارات، وبعض مظاهر الانحراف لدى الشباب ونحو ذلك من المشاكل الظاهرة على السطح، والتي لا تتطلب من الكاتب سوى التقاطها وتسجيلها ثم عرضها بأسلوب تقريري غالباً ما يقوم على السخرية.

وقد وقفت الدراسة عند مجموعة من النصوص المسرحية تستجلي منها بعض القضايا الفكرية والاجتماعية والقومية التي تشغل الكُتاب وتوجهاتهم الحضارية فهي تشكل توجهاً جاداً وتطرح قضايا ومواقف تمس جوانب مختلفة من حياتنا العربية المعاصرة، وتعبر عن تلك التطلعات والطموحات والآمال التي ينشدها الإنسان العربي؛ ليتجاوز بها واقعه الحالي إلى آفاق المستقبل المشرق، كرد فعل للغزو الحضاري الغربي الذي يحمل الكثير من القيم والأعراف والنظم التي لا تتلاءم في الكثير منها مع القيم والعادات والأعراف الإسلامية والعربية. من هنا أيضاً تتولد المعاناة، ويتفجر الصراع الفكري والنفسي والحضاري ليس بين حضارة وحضارة فحسب بل بين أبناء الحضارة الواحدة أو الأمة الواحدة.

فمسرحية "ها الشكل يا زعفران" لعبد الرحمن المناعي، بطلها شخصية تتسم بالطيبة إلى حد السذاجة، وفي الوقت نفسه هي رمز للرجل المثابر المنتج أو المواطن الصالح في مجتمعه، وهي أيضاً معادل موضوعي أو رمز للشعب الذي يمثل الطيبة والعطاء والقناعة، وفي الوقت نفسه تكون ضحية للانتهازيين والوصوليين. ونتوقف عند نقطة لها مدلولها العميق في هذه المسرحية ونعني بها لجوء زعفران إلى المقبرة فبالرغم من أنه ظاهرياً قد وُجد في هذا المكان بطريق الصدفة، إلا أن مدلول اللجوء إلى المقبرة – في الغالب – يوحي باليأس والقنوط والهروب من مواجهة الواقع، ويشكل الانهزامية أمام قوى الاستبداد والقهر والتسلط. ولكننا في هذا الموضع نجد أن المؤلف قد اتخذ من هذا الموضوع بالذات نقطة للانطلاق والتحدي والمواجهة. فمن بين قبور الموتى يبدأ الكفاح ومن هناك كانت بداية التغيير التي كشفت الزيف والنفاق والابتزاز وكل السبل الملتوية التي تتمثل في الأنانية والوصولية. ومن هنا بدأت الحياة الحقيقية التي يجب أن يحياها الإنسان. حياة تسودها العدالة والحرية وتخلو من النفاق والابتزاز والأنانية.

وفي مسرحية "الصغير والبحر" لصالح المناعي، نجد اغتراب الشخصية الذي هو نتيجة للصراع بين ما هو ذاتي وما هو واقعي. أو الاغتراب الفكري الذي هو نتيجة للقهر والطمس الناجم عن خضوع شخص ما لشخص آخر يمارس نفوذه وإرادته على تلك الشخصية. وفي مسرحية "يا ليل يا ليل" لعبد الرحمن المناعي، نجد المؤلف يحاول أن يعري بعض السلوكيات المنحرفة، ويجسد تلك السلبيات التي تعيشها بعض النماذج البشرية. فالمصالح الشخصية والانتهازية هي التي تتحكم في مواقف الكثيرين من شخصيات المسرحية – وعندما يغيب صوت الضمير الحي – فـ(مبارك) عندما ينضوي تحت لواء أبي مسعود لم يكن ذلك عن إيمان بمبدأ أو دفاع عن عدالة وإنما كانت تحكمه مصلحة شخصية وهو حبه (لفرحة) التي وجد أن أبا فلاح قد استولى عليها من هنا نجده وقف إلى جانب أبي مسعود. ولكن التوجه الفكري عند الكاتب يرفض هذا الوضع، فهو نتيجة للتقاعس والتواكل والكسل الذي يعيشه هؤلاء الناس، وإن التغيير لابد أن يأتي من داخل نفوسهم. وهذا الموقف نفسه نجده يتكرر عند الكاتب في مسرحيته "حكاية حداد" حيث نجده يركز على موضوع التواكل والتقاعس والروح الاتكالية التي يتسم بها البعض، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى التبعية. أما فكرة مسرحية "المتراشقون" لغانم السليطي، فتدور حول تصوير المأساة القومية التي يعاني منها المجتمع العربي وهي الخلافات والتناقضات السائدة في المجتمع العربي، وانعكاس هذه المشاكل والخلافات بآثارها السلبية على المواطن وعلى المجتمع بأسره ([8]).

ونختتم هذا المجال بدراسة مهمة رصدت موقف الشعراء الأوائل في الخليج العربي تجاه القضايا العربية، ومدى تفاعلهم تجاهها. وأول قضية برزت في هذا المضمار كانت قضية التحرر، عندما قام الشاعر الإماراتي صقر القاسمي بدعوة الشباب العربي إلى البذل والفداء لكي يستعيدوا مجد الأمة وتتحرر بلادهم من السيطرة الأجنبية قائلاً:

راية الحق يا شباب البـــلاد    مزقتها بالغدر كف الأعـادي

والفخار العظيم بكفيــه ذلاً    أن توالت على علاه الأيـادي

سنحت فرصة الوثوب وحانت    ساعة الفتك بالظلوم المعـادي

ويستثمر الشاعر تاريخ الأمة فيذكِّر الشباب بأمجاد أسلافهم، وبطولاتهم وسيادتهم على الأمم، لكي يستثير هممهم. فمن قصيدة يتحدث فيها عن حال الأمة وتقاعسها، وخضوعها للسيطرة الأجنبية، وانشغال بعض أبنائها بحياة اللهو والترف، في حين أن أوطانهم نهباً للمستعمر:

وساءني أن أرى قومي نفوسهـم    عن مطلب الحق لفت بأحقــاد

واشغل الترف المعتوه قادتنـــا    وغرهم لؤلؤ في كف صيـــاد

لو في الأكف سيوف الهند لحن لما    كان ابن آوي مهيباً بين آســاد

ويرتفع صوت الشاعر الإماراتي سالم العويس في دعوته التحررية، ومعاناته القومية، وثورته ضد التقاعس والتخلف الذي تعيشه الأمة العربية، فالشاعر رغم ثقافته التقليدية، والعزلة التي عاشها مجتمعه آنذاك، إلا أنه كان يواكب قضايا التحرر والثورات التي كانت تتفجر في مختلف المناطق من الوطن العربي. ففي قصيدته (الحرب الصليبية الجديدة) تتوقد عاطفة الشاعر بتلقائية مباشرة لتعبر عن روح ثائرة ضد الواقع المؤلم، قائلاً:

يا من غزانا أتنجو من أراضينـا    فإن نجوت فما تدري بماضينـا

قتل النبيين لن ينساه غابرنــا    وما نسيناه فادروا كيف تبنونا

كنا على الروم قمنا يوم ثورتنا    وما علمنا لكم إذ ذاك ملعونـا

ومن البحرين ينطلق صوت الشاعر أحمد محمد الخليفة متغنياً بأمجاد الشرق، داعياً إياه إلى الثورة على الظلم والاضطهاد، وإن ذلك لن يتحقق إلا برفع راية الجهاد والكفاح:

صرخة دمدمت على الغبـراء    خضبت جبهة السني بالدمـاء

دكت السهل بالدوى وهزت    فجوات الجبال بالأصـــداء

ويواكب الشاعر الكويتي عبد الله زكريا الأنصاري تطلعات هذه الأمة، وطموحاتها فيتخذ من شعره وسيلة في الكثير من المناسبات للتغني بآمالها، وتطلعاتها، حاثاً إياها على الصحوة، والأخذ بأسباب النهضة:

يا بني العرب والعدو مجـد    ليس تنحو أوطاننا بالنواح

ما عليه إذا استباح ضـراماً    أي لوم، وما له من جناح

ومن هنا نجد أن بعض الشعراء قد استغل المناسبات المختلفة لكي يوقظ الإحساس الوطني، ويحاول الربط باستمرار بين أبناء الأمة الواحدة، فها هي جريمة العدوان الثلاثي على مصر تهز الإنسان العربي هزاً عنيفاً، ويقف الشعراء الخليجيون – رغم وقوع بلدانهم تحت نير الاستعمار آنذاك – منددين بالاستعمار الغربي، داعين إلى مساندة مصر والوقوف معها. فالشاعر الكويتي عبد الله سنان محمد يرتفع صوته بهذه المناسبة مشيداً بالبطولة والبسالة التي أبداها أبناء مصر، قائلاً:

اليوم يومك بور سعيـد    يوم تمثل في الوجــود

يوم على صفحاتـــه    نقشت علاه يد الخلود

أما قضية الوحدة العربية، فقد ظلت أمنية الإنسان العربي على امتداد الخارطة العربية، بل تحولت الأمنية إلى حلم من الأحلام لدى المواطن العربي. وكان للشعراء في الخليج وفي فترة مبكرة دور واضح في دعوتهم لهذه الوحدة، فها هو الشاعر خالد الفرج تؤرقه أحلام الوحدة ويتغنى بها ويدعو إلى هذه الوحدة، ويتمنى لو أن (بسمرك) قد ظهر في هذه الأمة ووحدها، كما وحد الأمة الألمانية، يقول في قصيدة نظمها عام 1926م وبعث بها إلى أحد أصدقائه:

عرج بنا نحو الخيال فإنـــه    رحب المجال لذيذة خطراتــه

هل في الجزيرة غير شعب واحد    قد مزقت بيد العدا وحداتــه

والشاعر صقر الشبيب يرى أن مصير الأمة مرتبط بوحدتها، وأنها بلا وحدة ضياع كما يقول في قصيدة نشرها عام 1938م، يقول فيها:

ستبقى على الأحقاب حقباً إلى حقب    خيالاً على رغم المنى وحدةُ العُـرب

وأيُّ أمور الناس وحدَّ بينهــــم    إذا لم توحد بينهم شدة الخطـــب

وكان للوحدة المصرية السورية، وإعلان الجمهورية العربية المتحدة عام 1958م أثره الواضح على نفوس هؤلاء الشعراء فأشاد الكثيرون منهم بهذه الوحدة ودبجوا الكثير من أشعارهم في مدح الزعيمين – جمال عبد الناصر، وشكري القوتلي – لدورهم في بزوغ هذه الوحدة، التي كانت حلماً فأصبحت حقيقة، يقول الشاعر صقر بن سلطان القاسمي:

قف وأحن رأسك هيبة وجلالاً    حي الذي بالأمس كان محـالا

أشرقت يا فجر الجهاد ولم تعد    تلقـى لديك الحادثات مجـالا

ويهز إعلان الوحدة بين مصر وسوريا شاعر الكويت صقر الشبيب فيعتبرها المنجي والمنقذ لهذه الأمة، وأنها الخطوة الصحيحة التي بدأت بها أمة العرب للحفاظ على وجودها، وتقرير مصيرها، وحماية حقوقها من الأطماع، فيقول:

بين شكري وجمال العــرب    خير حلف موصــل للأرب

أتبعاه باتحاد صـــــارف    مثل ما نهوى صروف النوب

وهكذا نجد هؤلاء الشعراء من أبناء المنطقة، قد تجاوبوا وتفاعلوا مع أحداث وطنهم العربي في كل مناسبة قومية. فإنشاء الجامعة العربية عام 1945م كان له أثره في نفوس الشعراء، وهم يرونها دعامة وأساساً لوحدة عربية منشودة، فالشاعر سالم العويس يرى أن الجامعة بارقة أمل في زمان مظلم، ضاع فيه العالم العربي بين التمزق، ونزوات الحاكم الفرد، فتقاسمته الأهواء والأنانية، وغزته المطامع الاستعمارية، وإن إنشاء الجامعة بارقة أمل:

حيوا الجامعة العروبة مجدهـا    وبريقها بين الزمان المظلـم

برق يسوق إلى مراكش غيثه    ليشد من ذود الشقيق المرغم

والملاحظ أن منظور الوحدة العربية عند هؤلاء الشعراء ينطلق من مفهوم إسلامي بالدرجة الأولى، وإن وحدة العرب هي عزة للإسلام والمسلمين. ولسنا بحاجة إلى التدليل على ذلك فكل النماذج الشعرية التي تتناول قضية الوحدة أو قضية التحرر، تتحذ من تاريخ الإسلام، ودور الرسول في توحيد الأمة منطلقاً لمعالجة الحاضر، واستثارة المشاعر، وبث الوعي بين أبناء الأمة لكي تسترد حقوقها، وتحافظ على شخصيتها الإسلامية العربية.

أما قضية فلسطين فكان لها النصيب الأكبر، حيث تجسدت عند الشاعر سالم العويس في رسم صورة اليهودي الذي جُبّل على الغدر والخيانة منذ القدم، والشاعر يمزج موقفه السياسي في الطرح ببعض الحكم التي تثير الهمم وتحيي الآمال في استعادة الحق لأصحابه:

خذ بالهوى والحق أخذة مؤمـن    واترك هداية من يقيس ويحسب

ظل اليهود عن الصراط وأدبـروا    إن اليهود إلى الخيانة أقــرب

أما صقر القاسمي فإن اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها، واضطهاد أهلها، كان يمثل عنده قمة المأساة في تاريخ العرب، ولذلك حفل ديوانه بالعديد من القصائد التي تصور هذه المأساة وتستحث العرب على الثورة، وإعلان الجهاد لتحرير فلسطين، وغالباً ما يربط القاسمي موقفه من الواقع بذكريات الماضي المجيد ودور البطولات العربية. ففي إحدى قصائده يتناول فيها مأساة فلسطين منطلقاً من معركة اليرموك الخالدة مخاطباً فيها خالد بن الوليد ومتمنياً لو يعود مرة أخرى ليقود جحافل المسلمين لإنقاذ فلسطين. أما الشاعر العماني السيد هلال بن بدر البوسعيدي، فإنه تهزه مأساة فلسطين وضياعها فيستصرخ بني قومه، ويدعوهم إلى إنقاذها، ويعاتب العرب على قبولهم بالهدنة بعد أن شحذوا الهمم واستعدوا لاسترداد الحق. ولكنهم تراجعوا واختلفوا ([9]).

التأريخ بالشعر

نشرت الحولية دراسة مميزة بعنوان " أهمية الشعر في دراسة التاريخ الفلسطيني المعاصر"، أبان فيها كاتبها مدى أهمية الشعر في دراسة تاريخ فلسطين المعاصر، وعما إذا كان هذا الشعر مجرد عامل مساعد في دراسة التاريخ، كما تساءل: هل كان الشعر مجرد تعبير فني عن مأساة فلسطين أم أنه كان يتضمن تسجيلاً صادقاً لأحداثها؟ وفي محاولة للإجابة عن هذا السؤال، وجدنا المؤلف يرصد أحداثاً ووقائع تاريخية تم تسجيلها بالشعر أكثر مما سجله التاريخ عنها، ومن أمثلة ذلك:

قبل أن يصدر تصريح بالفور بخمسة أعوام نجد قصيدة لشاعر فلسطيني هو سليمان التاجي الفاروقي ينبه فيها العرب من أخطار الصهيونية ويدعوهم إلى مقاومتها، ويشير الشاعر إلى أن العرب في فلسطين قد استمرأوا النوم واستكانوا لحياة الذل ويدعوهم الشاعر إلى اليقظة والتنبه والمحافظة على بلادهم. ولا شك أن ذلك يرسم لنا صورة صادقة عن تلك السلبية التي اتسمت بها مواقف عرب فلسطين في ذلك الوقت وهو ما يدفع المؤرخ إلى محاولة البحث عن أسباب لتلك الظاهرة.

ومثال آخر، في 24/7/1918م أقيم احتفال في القدس لوضع حجر أساس الجامعة العبرية حضره الجنرال اللنبي وبعض الشخصيات العربية المهمة. وقد وضع كل من مفتي القدس (الشيخ كامل الحسيني) والمطران حجراً من أحجار الأساس. وهذه الواقعة – أي مشاركة مفتي القدس في وضع حجر أساس الجامعة العبرية – لم ترد في أي مرجع من المراجع التاريخية العربية التي عاصر مؤلفوها ذلك الحدث، لكنها وردت في قصيدة لشاعر هو وديع البستاني، قال فيها:

أفتني بالله بالكعبة بالحجــ    ر الأسود بالركن الأغـر

إن علت في عزها شامخـة    فوق رأس الطير تلهو بالعبر

وغدت جامعة عبريـــة    ونهى الحاخام فيها وأمـر

أيقول الشيخ والقس اتئــد    إن للمطران والمفتي حجر

مثال ثالث: راجت في فلسطين خلال سنوات العشرينيات سياسة التصريحات والنداءات والمؤتمرات وتقديم المذكرات، ولم تتجه القيادات الوطنية إلى محاولة بناء اقتصاديات البلاد أو إعداد خطة لمواجهة تلك الغزوة الاستعمارية. ولم تكن اللجنة التنفيذية العربية التي كانت تدير الحركة الوطنية تملك في كثير من الأحيان غير تقديم المذكرات حتى أن أحد أعضاء اللجنة الملكية التي ذهبت إلى فلسطين عام 1936 للتحقيق في أسباب الثورة سأل الدكتور حسين الخالدي عن وظيفة اللجنة التنفيذية، فأجابه (تقديم الشكاوى الكثيرة والاحتجاجات). وفي قصيدتين عن هذا الموضوع - لإبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود - يتبين لنا كم كان الشعر معبراً عن تلك الظاهرة التي ظلت سائدة أكثر من عشرة أعوام. وها هو إبراهيم طوقان يعبر في صدق عن هذه الظاهرة فيقول:

يا رجالَ البلاد يا قادة الأمة ماذا دهاكمُ ودهاهــــا؟

هل لديكم سياسة غير هذا القول يحي من النفوس قواهــا

صكت الألسنُ المسامعَ حتى لقيت من ضجيجكم ما كفاها

عرف الناس والمنابرُ والأقلامُ أفضالكم فهاتوا سواهـــا

كلكم بارعٌ بليغٌ – بحمد الله – طبٌ بحالنا ودواهـــا

غير أن المريض يرقب منكم هذه الجرعة التي لا يراهــا

كان أولى بكم لو أن مع القول فعالاً محمودةً عقباهــا

مثل القول لا يؤيده الفعل أزاهيرُ لا يفوح شذاهــــا

أما عبد الرحيم محمود فيعبر عن تلك الظاهرة قائلاً:

قدمتمُ – قبل أيام – مذكــرة    إلى الحكومة يا قوم الزعامـات

ياليت أنّا عرفنا ما يطرزهـــا    من المعاني ومن سامي العبارات

مثال رابع: ظاهرة أخرى أحسن الشعراء التعبير عنها وتقييمها، وهي ظاهرة بيع الأراضي في فلسطين. فلقد ذكرت المصادر والمراجع المعاصرة أن معظم الذين باعوا الأراضي من عرب فلسطين كانوا من الأغنياء، وها هو إبراهيم طوقان يؤكد هذه الحقيقة في منظومة شعرية فيقول مصوراً ما حدث موجهاً قصيدته إلى بائعي الأراضي:

باعوا البلاد إلى أعدائهم طمعــاً    بالمال لكنما أوطانهم باعـــوا

قد يعذرون لو أن الجوع أرغمهـم    والله ما عطشوا يوماً ولا جاعوا

مثال خامس: كان زعماء فلسطين قد اتفقوا عام 1933 على القيام بمظاهرة سلمية في جميع مدن فلسطين بعد صلاة الجمعة يوم 13 أكتوبر، وقامت المظاهرة فعلاً يتقدمها رجال البلاد وزعماؤها. وألقت الشرطة القبض على بعض الشخصيات الوطنية حيث حاكمتهم وصدر الحكم بحبسهم ستة أشهر أو التعهد بعدم تكرار ذلك. وقد وقّع الجميع على التعهد وتم الإفراج عنهم ما عدا الشيخ عبد القادر المظفر الذي فضل السجن ستة أشهر عن توقيع شهادة بحسن السير والسلوك للحكومة البريطانية المنتدبة في فلسطين. والشيخ عبد القادر المظفر نموذج من النماذج الفلسطينية الصلبة التي كان لها مواقفها ضد الاستعمار البريطاني، لكن بعض المراجع الأساسية لم تشر إلى موقفه الوطني بينما اكتفت مراجع أخرى بإشارة عابرة. لكن الشعر الوطني يبرز هذا الموقف الثوري ويمجد دور هذه الشخصية الوطنية المغمورة:

أحرارنا قد كشفتم عن بطولتكـــم    غطاءها يوم توقيع الكفـــــالات

أنتم رجال خطابات منمقـــــة    كما علمنا، وأبطال احتجاجــــات

وقد شبعتم ظهوراً في مظاهــــرة    مشروعة وسكرتم بالهتافـــــات

ولو أصيب بجرح بعضكم خطـــأ    فيها، إذا لرتعتم بالحفــــــاوات

بل حكمةُ الله كانت في سلامتكــم    لأنكم غير أهل للشهــــــادات

أضحت فلسطين من غيظ تصبح بكـم    خلوا الطريق فلستم من رجـــالاتي

ذاك السجين الذي أغلى كرامتـــه    فداؤه كل طلاب الزعامـــــات

مثال سادس: واقعة أخرى تتعلق بإعدام الشيخ فرحان السعدي عام 1937 خلال الثورة الفلسطينية 36-1939م. والشيخ فرحان مناضل فلسطيني تجاوز السبعين من عمره، وكان يقود إحدى المجموعات الفدائية عندما قبضت عليه السلطة وقدمته للمحكمة بتهمة حيازة بندقية. وقد نفذ فيه الإعدام وهو صائم في شهر رمضان. وقد رفض هذا المناضل تناول طعامه قبل إعدامه ولم يطلب إلا أن يعطى فرصة لصلاة ركعتين لله. هذا الحادث لم يشر إليه كثير من المراجع العربية الأساسية. وأشار بعضها إليه إشارات عابرة. بينما اهتم كتاب قليلون بذكر هذه الواقعة وآثارها بشيء من التفصيل. هذه الواقعة المهمة يترجمها الشاعر عبد الكريم الكرمي في إحدى روائعه الشعرية فيقول:

هل تشهدون محاكم التفتيش في العصر الجديــد

قوموا اسمعوا من كل ناحية يصيح دم الشهيــد

قوموا انظروا القسام يشرق نوره فوق الصـرود

يوحي إلى الدنيا ومن فيها بأسرار الخلـــود

قوموا انظروا (فرحان) فوق جبينه أثر السجـود

يمشي إلى حبل الشهادة صائماً مشي الأســود

سبعون عاماً في سبيل الله والحق التليــــد

خجل الشباب من المشيب بل السنون من العقود

وهكذا كانت القضية الفسطينية هي القضية التي هزت ضمير الشعر العربي في تاريخنا المعاصر فانفعل بها الشعراء وتأثروا بأحداثها فقدموا لنا شعراً وطنياً جديراً بالتأمل والتحليل وفهم دلالاته. ومع قناعتنا بأن الشعر ليس علماً أو تاريخاً وأنه ليس من أهداف الشاعر أن يؤرخ لما ينفعل به من أحداث، لكن العمل الأدبي لا يمكن أن ينفصل عن مجتمعه. فالشاعر مثل كل فنان يحس بما يدور حوله من أحداث ويتأثر بها وقد يؤثر فيها، وهو يتابع تطورات مجتمعه أو عصره، ويحاول استشفاف المستقبل وكلما كان الشاعر صادقاً مع نفسه قريباً من مجرى الأحداث كلما أعطى للمؤرخ فرصة طيبة للاستفادة من شعره في إضافة بعض الحقائق أو في تحليل بعض الوقائع أو تفسيرها أو إبرازها أو في الربط بين الظواهر التاريخية المختلفة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. ولقد كان الشعراء الذين اعتمدت الدراسة على شعرهم قريبين من مركز الأحداث، بل أن بعضهم شارك في صنعها بشكل أو بآخر. فعبد الرحيم محمود مثلاً لم يكن مجرد شاعر ينفعل بقضايا أمته بل كان أحد المناضلين في ثورة 1936-1939م وأحد مستشاري عبد الرحيم الحاج محمد أبرز القيادات الفسطينية خلال تلك الثورة. وإضافة إلى ذلك فقد كان هؤلاء الشعراء من الذين عرفوا بصدق وطنيتهم وعدم مهادنتهم للاستعمار أو الصهيونية، كما أنهم لم يتقربوا لحاكم ولم ينافقوا أو يداهنوا, ومن هنا فقد تميز شعرهم بالصدق وهو ما يجعل هذا الشعر مصدراً من مصادر دراسة تاريخ هذه الفترة في فلسطين ([10]).

مجالات أخرى

خلافاً لما سبق من مجالات أدبية، اهتمت الحولية بنشر بحث "رؤية فنية في دراسة النص الأدبي"، الذي يبين أن تاريخ حياة الأديب يعيننا على فهم شخصيته من ناحية، وظروف العمل الفني من ناحية أخرى. ومن هنا كانت اهتمامات الكاتب الفرنسي سانت بيف بالسير الأدبية، وإن كان موضع النقد الذي وجه إليه أنه يتناول حياة الأديب بعد أن يذيع صيته أو بعبارة أخرى تفلت منه مرحلة تفجر العبقرية فلا يصل إليها. ولكن تاريخ الحياة يعيننا على إدراك كثير من أبعاد الاتجاهات الأدبية. فمثلاً: لماذا اتجه حافظ إبراهيم إلى البكائيات في شعره؟ لأنه نشأ يتيماً. وماذا كان أثر نشأة المتنبي في تضخيم الأنا عنده، هل يعود ذلك إلى نشأته المشبوهة كما يرى طه حسين أم إلى نسبه المتميز كما يرجح محمود شاكر؟! ([11]).

وفي دراسة "الرسول في الأدب العربي الحديث" ([12])، أوضح المؤلف أن البوصيري قد وضع أساس المدائح النبوية، الذي لم يستطع الشعراء الإفلات منه. ومن الواضح أن البوصيري ومن تبعه قد تأثروا بالسيرة النبوية، فتناولوا الإسراء والمعراج باقتضاب حيناً وبإطناب حيناً آخر باعتباره التكريم الأكبر للرسول، والهجرة باعتبارها الخطوة الحاسمة في تاريخ الدعوة، والجهاد من أجل العقيدة، ولكن أحمد شوقي يقف عند الجهاد ليعرض رؤيته في قضية انتشار الإسلام بالسيف وهي قضية معاصرة أثارها المستشرقون، كأن المسلمين قد نسوا ما صنعه أهل أوروبا بأندلس العرب. وقد فند مفكرو المسلمين هذه الدعوى على أساس استحقاق الكافرين العقاب من الله لهم في الدنيا والآخرة وأن الأنبياء السابقين الذين ورد ذكرهم في العهد القديم قاتلوا الكفار وأن الجهاد في الإسلام لا يعني الإكراه على الدخول في الإسلام، وأن الجهاد في الإسلام يمتلئ بصور الرحمة التي لا مجال للموازنة بينها وبين وحشية الحروب الدينية الأخرى. ولذلك نحس انفعال شوقي في تناوله لهذا الاتهام:

قالوا غزوت ورسل الله ما بعثـوا    لقتل نفس ولا جاؤا لسفـك دم

جهل وتضليل أحلام وسفسطـة    فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم

وفي دراسة "من حركات التجديد في الأدب العربي: مسرحية ميسون لمحمد فريد أبو حديد"، نجد الباحث يرمي إلى: إذا كان المسرح أداة من أقوى أدوات التعبير ومن أكثرها فاعلية في تثقيف الأمة، فإنه في الوقت نفسه يمكن

المصدر: بحث قُدم في المؤتمر العالمي الأول للغة العربية تحت عنوان (إسهامات اللغة والأدب في البناء الحضاري للأمة الإسلامية)، الذي عقده قسم اللغة العربية وآدابها بكلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، في الفترة 28-30/11/2007م.
sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

753,692