الحكاية الخرافية في بادية الإمارات
د. سيد علي إسماعيل
ــــــــــــــــــ
الخُرافَة هي الحديث المستملح من الكذب ([i]). وخرافة هو اسم رجل من بني عذرة استهوته الجن كما تزعم العرب، فلما رجع أخبر بما رأى منها فكذبوه، حتى قالوا لما لا يُصدق حديث خرافة ([ii]). ويقول ابن النديم في كتابه الفهرست: ’’أول من صنف الخرافات، وجعل لها كتباً، وأودعها الخزائن، وجعل بعض ذلك على ألسنة الحيوان، الفُرْسُ الأُوَل، ثم أغرق في ذلك ملوك الأشغانية، وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس، ثم زاد ذلك واتسع في أيام ملوك الساسانية، ونقلته العرب إلى اللغة العربية، وتناوله الفصحاء والبلغاء فهذبوه ونمقوه، وصنفوا في معناه ما يشبهه، فأول كتاب عمل في هذا المعنى: كتاب هزار أفسان، ومعناه ألف خرافة‘‘([iii]). أي كتاب ألف ليلة وليلة المشهور.
والحكاية الخرافية أو (الخرّوفة) كما يُطلق عليها في المجتمع الإماراتي، نوع أدبي يدخل ضمن نطاق التراث الشعبي. وقد انتشر هذا اللون الأدبي في بادية الإمارات، معبراً عن أحلام وآمال البدوي، وكذلك عن عالمه الخيالي، الذي تمنى أن يعيشه أو يعايشه. وعلى الرغم من ذلك، فإن البدوي أضفى على هذه الحكايات، من خلال الشعور الجمعي وما ترسب داخله من تراث أصيل وماض عريق، بعضاً من بيئته البدوية وتراثه العربي وتقاليد قبيلته الأصيلة. وذلك حتى تتشكل الحكاية في روايتها، وتتناسب مع منطق وبيئة وتراث البادية. فعلى الرغم من أن الحكاية الخرافية، لا يعلم راويها الأصلي، إلا إنها منتشرة في جميع المجتمعات العالمية، وكل مجتمع يرويها بما يتناسب مع عاداته وتقاليده.
وفي بادية الإمارات، نجد الحكاية الخرافية الواحدة تُروى بأكثر من طريقة، تبعاً لاختلاف القبائل واختلاف عاداتها وأماكن تواجدها، ونظرتها إلى أدق الأمور والتفاصيل. ويصل الأمر إلى أن الحكاية الخرافية العالمية، تتحول إلى حكاية عربية بدوية تتناسب مع طبيعة البدو، من حيث العادات والتقاليد، رغم كون أصل الحكاية فرعونياً أو إغريقياً أو ألمانياً.
وهذه الدراسة تهدف إلى نشر بعض الحكايات الخرافية، المنتشرة في بعض الأماكن من دولة الإمارات العربية المتحدة، ودراستها وتتبع مصادر رموزها وشخصياتها، ومدى ارتباطها بعادات وتقاليد البادية الإماراتية. ومعظم هذه الحكايات، لم يسبق نشرها من قبل، حيث تمّ جمعها من قبل بعض طالبات جامعة الإمارات، نقلاً عن كبار السن في عائلاتهن ([iv]).
والحكايات المجموعة هنا، والبالغ عددها سبع عشرة قصة، جُمعت في باديء الأمر باللهجات المحلية لبعض مناطق دولة الإمارات، وشغلت صفحات كثيرة، تؤلف في مجموعها كتاباً ضخماً!! لذلك قمت بتلخيصها مع عدم الإخلال بمضمونها، وإعادة صياغة هذه الملخصات بالعربية الفصحى، فجاءت كما هي منشورة في ملحق هذه الدراسة ([v]).
وإذا نظرنا إلى مكونات هذه الحكايات، سنلاحظ أنها مكونات تراثية تراكمت عبر الزمن في ضمير الإنسان البدوي. وإذا قمنا بتحليل هذه المكونات، سنجدها تتألف من خليط غريب وعجيب من أشكال تراثية وحضارية عديدة. فعلى سبيل المثال نجد هذه الحكايات متأثرة بحكايات وأساطير عربية وغربية، بالإضافة إلى تأثرها بالتراث الديني الإسلامي والوثني. ثم نجد العلاقات الاجتماعية العربية تتداخل في ثناياها، مختلطة بعوامل التشويق السردي وبالأخص الأفعال الخارقة. ثم نجد أيضاً أن الرواي العربي أضاف إلى تراث هذه الحكايات، بعضاً من شخصيته أو بيئته أو حالته النفسية، فطوع الحكايات وغيّر فيها، لتتناسب مع بيئته وزمنه. وكل هذه التأثيرات والمكونات، جمعتها هذه الحكايات في أشكال متعددة من مفردات البيئة البدوية في الإمارات، كما سنرى.
التأثيرات الدينية
سيلاحظ قاريء الحكايات المنشورة في هذه الدراسة، تأثرها بصورة مباشرة وبصورة غير مباشرة بالتراث الديني الإسلامي. فعلى سبيل المثال نجد في حكاية (أنا أخو الغزلان)، أن الحوت ابتلع المرأة الحامل، فمكثت في بطنه حتى أنجبت تؤماً. وفي حكاية (علقة اللؤلؤ والمرجان)، نجد رواية أخرى لهذه الحادثة، حيث إن سمكة الهامور الكبيرة، هي التي ابتلعت المرأة الحامل، ومكثت في بطنها حتى أنجبت ولدين. وهذا المعنى متأثر بقصة النبي يونس عليه السلام وابتلاع الحوت له، ومكثه في بطنه فترة من الوقت. قال تعالى: ’’وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُون، فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ، فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‘‘([vi]).
كذلك نجد في حكاية (المدخن والفحم)، أن الفتاة عندما أرادت عبور البحر، قالت: توكلت عليك يارب، فانشق لها البحر فسارت فيه بسلام. وهذا الأمر مأخوذ من قصة موسى عليه السلام مع آل فرعون، قال تعالى: ’’وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ‘‘([vii]). أما في حكاية (الطير الأخضر)، فنجد الأخ الذي تحولت عظامه إلى طائر أخضر، يقوم بعقاب زوجة أبيه لأنها قتلته، بأن وضع شوكة مسمومة في فمها فماتت. كما أنه يُجزي أخته على وفائها، لأنها جمعت عظامه ودفنتها، حيث إن إكرام الميت دفنه. والطائر بهذا السلوك يمثل عمل الإنسان، بناءً على قوله تعالى: ’’وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً‘‘([viii]).
أما رقم سبعة، فهو من الأرقام المثيرة للجدل، والمستخدم بكثرة في هذه الحكايات. ففي حكاية (جلد الدجاجة) نجد حفل الزفاف استمر سبعة أيام. وفي حكايتي (إمشيليف، وأنتيف أنتيفان) نجد السبع خبزات تتحول إلى سبعة أبناء. وفي حكاية (البنت والنوبي) نجد الساحر يريد أكل البنات السبع. وفي حكايات (علقة اللؤلؤ والمرجان، والسمكة والثعبان، ولؤلؤ ومرجان) نجد أن عدد البنات سبع.
ولعل الجانب الديني لهذا الرقم، جعل الوجدان الجمعي العربي، يحتفي به احتفاءً كبيراً، ويستخدمه في الحكايات الشعبية والخرافية، لما له من قداسة دينية. فهذا الرقم الغريب العجيب، نجده في الموروث الديني بكثرة، حيث يحدثنا القرآن في أكثر من سورة عن السموات السبع، كما في قوله تعالى في سورة (البقرة – آية 29): ’’هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‘‘. كما يحدثنا المولى عزّ وجلّ عن صيام الأيام السبعة بعد الرجوع من الحج، في سورة (البقرة – جزء من آية 169): ’’فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ‘‘. وكذلك كان الحديث عن السبع سنابل في سورة البقرة أيضاً، وعن البقرات والعجاف والسنبلات الخضر واليابسات السبع، في سورة يوسف. والأبواب السبعة في سورة الحجر. وأهل الكهف السبعة في سورة أهل الكهف. والبحار السبعة في سورة المؤمنين. والليالي السبع في سورة الحاقة ([ix])، وهكذا حتى يصل تكرار رقم سبعة في القرآن الكريم إلى أربع وعشرين مرة. كما تكرر أيضاً في التوراة مائة وخمس وخمسين مرة، وفي الإنجيل تكرر خمس وثلاثين مرة.
وإذا كان التأثير الإسلامي المباشر، جاء في حديثنا السابق، فإن في حكاية (ميّ)، نجد تأثيراً إسلامياً غير مباشر، وذلك عن طريق الرُقْيَة، حيث قام ابن السلطان بتلاوة آيات قرآنية، ومن ثم المسح على العظام، فتحولت هذه العظام إلى زوجته المختفية. وكذلك قرأ الآيات مع المسح على العظام المدفونة، لتتحول إلى شقيق زوجته الذي كان غزالاً مذبوحاً.
ولم تقتصر الحكايات الشعبية الخرافية على التأثر بالدين الإسلامي، بل تأثرت أيضاً برواسب وثنية دينية عاشت في الوجدان العربي. فعلى سبيل المثال، نجد في حكايات (أنا أخو الغزلان، ميّ، علقة اللؤلؤ والمرجان)، أن الأخ يتحول إلى غزال، فتظل أخته متعلقة به حتى النهاية، وتستنجد به في أزماتها، فيهرع إليها وينقذها!! والسر في ذلك، أنه ليس بغزال عادي، بل أننا نجد أنفسنا أمام غزال خارق، يستطيع أن يقفز إلى الماء ويصارع الحوت فيقتله، ويشق بطنه ليُخرج شقيقته وولديها!! وإذا عدنا إلى التراث العربي القديم، سنجد أن قبيلة جرهم اليمنية الأصل، والتي استوطنت مكة، كانت تعبد غزالين مصنوعين من الذهب الخالص ([x]). ولعل هذا الموروث الوثني، تناقل مع مرور الزمن، حتى تأثرت به الحكايات الشعبية.
التأثيرات الخارجية
لم تكن بادية الإمارات منعزلة عن العالم الخارجي بصورة قطعية، بل كان اتصال بينها وبين العالم الخارجي، عن طريق التجارة والسفر والبحر والمسامرة والمجالس .. إلخ هذه الأمور. وقد أثر هذا الاتصال بطبيعة الحال على الحكايات الشعبية الخرافية، التي انتشرت في البادية، والمنشور بعضها في هذه الدراسة. فعلى سبيل المثال، نجد في هذه الحكايات ملامح فرعونية دينية وأسطورية. كما نجد فيها مشابهة مع بعض الحكايات الشعبية والخرافية المنتشرة في الحضارة الأوروبية القديمة والحديثة. فمثلاً نجد الفتاة في حكايتي (علقة اللؤلؤ والمرجان، ولؤلؤ ومرجان)، تقوم بذبح كلبتها، بعد أن تحدثها في أمر التضحية والفداء، ومن ثم تتنكر في جلدها فترة زمنية ليست بالقصيرة!! وهكذا نجد أنفسنا أمام كلبة أسطورية تتحدث تارة وتتشاور مع صاحبتها تارة أخرى. بل أننا نتعجب من الفتاة عندما تعيش في جلد الكلبة!! فأي جلد هذا الذي يصلح لأن ترتديه فتاة؟! إذن فنحن أمام كلب غير عادي، كلب جسده بحجم جسد الإنسان!! ولكن إذا عدنا إلى الديانة الفرعونية، سنجد عندها حلّ هذا اللغز، حيث إن الإله أنوبيس في مصر الفرعونية ما هو إلا كلب مقدس ([xi])!!
وفي حكايتي (الفتاة عويش، والسمكة والثعبان)، نجد تأثيراً مباشراً من القصص والأساطير الفرعونية، حيث إن الحكايتين ما هما إلا مضمون القصة الفرعونية المعروفة باسم سندريلا المصرية أو رادوبي الجميلة، مع تغييرات في الأحداث الثانوية. كذلك نجد في حكايتي (ميّ، والطير الأخضر) أن الأخت تقوم بتجميع عظام أخيها المقتول وتدفنها، ومن ثم تعود هذه العظام في نهاية الأمر إلى صورتها الإنسانية. وهذه الفكرة، ما هي إلا الفكرة المعروفة لأسطورة إيزيس وأوزوريس الفرعونية.
كما نجد في الحكايات أيضاً تأثيراً من قبل الحكايات والأساطير الغربية الأوروبية. فعلى سبيل المثال نجد فكرة الساحر الذي يخطف الفتاة إلى عالم مجهول، لا يستطيع الوصول إليه إلا شقيقها بعد عناء كبير، هي فكرة أسطورة أوروبا، التي تحكي عن ملك فينيقي له ابنة جميلة هي أوروبا وابن هو كادموس. وفي يوم كانت الابنة تتنزه في الحديقة، فظهر لها الإله زيوس متنكراً في شكل ثور هائل، وراح يلتف حولها حتى جلست على ظهره، فنهض بها وجرى سريعاً إلى مصير مجهول. فحاول والدها العجوز البحث عنها دون جدوى، فطلب من ابنه البحث عن أخته بحيث لا يعود إلا وهي معه ([xii]).
وفكرة هذه الأسطورة، جاءت بالمضمون نفسه في حكاية (البنت والساحر) عندما خطف الساحر الفتاة أثناء رعيها للماعز، وذهب بها إلى المجهول. وكذلك في حكاية (البنت والنوبي) نجد الساحر يخطف الفتاة أثناء وجوده في البادية، ويخفيها بين جبلين. وفي حكاية (علقة اللؤلؤ والمرجان) نجد الساحر يخطف الفتاة من أبيها ويخفيها في شجرة الغاف. وفي حكاية (لؤلؤ ومرجان) نجد الساحر يخطف الفتاة من أبيها أيضاً، ويخفيها في أحد الكهوف. وفي جميع هذه الحكايات، يستطيع الأخ الوصول إلى أخته وإنقاذها، بعد قتل الساحر.
كذلك نجد الحكاية الخرافية في بادية الإمارات، تأثرت بالقصة الشعبية الألمانية (العظام المغنية) للأخوين جرم ([xiii]). ففي هذه القصة ’’تغنت عظام الميت – التي صنع منها أحد الرعاة ناياً – بالشرور نفسها التي كتب على الميت أن يعيشها، فحياة المقتول انتقلت إلى عظامه. وفي بعض الروايات، وهي الروايات القديمة نسبياً، عاشت الروح تجارب أبعد من ذلك. ففي المكان الذي دفن فيه المقتول نبتت شجرة صنع من خشبها ناي أو قيثارة. وفي النهاية خرج القتيل من الآلة الموسيقية‘‘([xiv]).
وتأثير هذه القصة واضح في عودة روح الأخ المقتول إلى عظامه، مع تحول العظام إلى طائر تارة، وإلى ساقية تنوح وتأنّ تارة أخرى، بالإضافة إلى إنبات شجرة ضخمة مكان دفن العظام، وذلك في حكايتي ميّ، والطير الأخضر. وهذا التأثير الغربي، يُضاف إلى تأثر هذه الحكايات بأسطورة إيزيس وأزوزريس الفرعونية، كما أشرنا سابقاً.
كما أن تحول عظام الأخ إلى طائر، ربما جاء من أثر بعض الحكايات الشعبية الغربية أيضاً. فإن ’’أغلب تصور للروح شيوعاً هو بحق تصوره وهو يطير في صورة طائر. وربما يرجع هذا إلى اعتقاد الإنسان أن الروح شيء خفيف الوزن، إذ أنه يقدر على الطيران في الأحلام. وربما يرجع هذا كذلك إلى أن صوت بعض الطيور كثيراً ما يتشابه بعض الشيء مع صوت الإنسان، إلا أنه أجمل وأرق. وفي الحكاية الخرافية الألمانية (ماخاندل بوم) تحولت روح الأخ الصغير المقتول إلى طائر، وأخذ يتغنى بالشر الذي قدر له أن يقاسيه‘‘([xv]).
كما نجد تأثيرات خارجية غير مباشرة على البيئة البدوية الإماراتية، في هذه الحكايات. فعلى سبيل المثال، نجد أن الحاكم أو المُخلِّص - الذي يملك اللؤلؤ والمرجان والذهب والفضة والمال .. إلخ، أي الذي يملك أسباب السعادة للفقراء والمظلومين - هو ابن السلطان في حكايتي (ميّ، والفتاة عويش)، وهو السلطان في حكاية (علقة اللؤلؤ والمرجان). ولقب أو منصب السلطان غير معمول به في البيئة البدوية الإماراتية!! ولعل هذا الاسم من تأثير الحكايات الوافدة على البيئة الإماراتية، عن طريق وسائل الاتصال المتنوعة التي تحدثنا عنها سابقاً. لأن اللقب المستخدم في بقية الحكايات، هو الشيخ أو ابن الشيخ، وهو اللقب المعروف في البيئة البدوية للحاكم أو المخلص، أو من يملك القدرة على إنصاف المظلومين.
التأثيرات الاجتماعية
للمجتمع البدوي العربي تقاليده خاصة، تُمثل عصب حياته وتاريخه. وهذه التقاليد تأخذ أشكالاً متشددة، بعكس المجتمع الحضري، الذي يتعامل معها بحلم وروية، لا نجدهما في حياة البادية. ومن هذه التقاليد، العلاقة الأخوية بين الشقيق والشقيقة. فالرجل البدوي هو نواة الأسرة التي تنبت العائلة وتطرح القبيلة، وشرفه متعلق بشرف أخته. فما يمسّ الأخت، يمسّ الأخ والأسرة والعائلة والقبيلة. وفي المقابل نجد الأخت تنظر إلى أخيها، نظرة الحامي والمخلص والمنقذ والسند لها في الحياة.
ومن هذا المنطلق نجد أغلب الحكايات المنشورة في هذه الدراسة، تظهر قوة هذه العلاقة. ففي حكاية (أنا أخو الغزلان)، نجد الفتاة تنتحب بكاءً لتحول أخيها إلى غزال، لأنها ستسير في الحياة بدون سندها وحاميها. وعندما يبتلعها الحوت، تطلب النجاة من أخيها الغزال عندما تسمع صوته، ولا تطلبها من زوجها. وفي المقابل نجد هذا الأخ أثناء وجوده في شكل غزال، يقفز إلى البحيرة ويصارع الحوت ويتغلب عليه وينقذ أخته، وكأنه ينقذ شرفه. علماً بأنه غزال رقيق لا يجيد السباحة، ولا يقدر على مصارعة الحوت!! ولكن طالما الحكاية نابعة من البيئة البدوية الإماراتية، فإن الراوي وضع قوة جبارة في هذا الغزال أو الشقيق، ليتحول إلى وحش كاسر، من أجل إنقاذ شرف أخته، وبالتالي شرفه وشرف عائلته وقبيلته. وبهذا المفهوم، نجد هذه العلاقة أيضاً واضحة بين الأخ وأخته في حكايتي (ميّ، والطير الأخضر).
ومن العلاقات الاجتماعية الواضحة في حكايات هذه الدراسة، علاقة زوجة الأب بابنة زوجها. فعلى الرغم من مشروعية زواج الرجل بأكثر من امرأة إسلامياً، وعلى الرغم من مشاكل تعدد الزوجات والطلاق والعنوسة في الإمارات، إلا أن الوجدان الشعبي في بادية الإمارات رفض إظهار الرجل في حكاياته الشعبية بأنه مزواج، أو أنه كثير الطلاق!! بل أن الرجل في الحكايات الشعبية لا يتزوج بامرأة أخرى، إلا عندما تتوفى زوجته الأولى. وربما هذا الأمر - رغم وضوحه في أغلب الحكايات المنشورة - غير صحيح، حيث قام الرواي بتغييره وتبديله، باعتبار أن أغلب رواة هذه الحكايات من النساء، وأن هذه الحكايات كانت تُروى للفتيات!!
ومهما يكن من أمر هذا التعليل، إلا أن أغلب الحكايات صورت زوجة الأب بصورة سيئة. وتفسر هذا الأمر آمنة راشد الحمدان، قائلة: ’’ولعل من أبشع أدوار المرأة التي تجسدها الحكايات الشعبية دور زوجة الأب. فبالرغم من التصريح الديني والقبول الاجتماعي بتعدد الزوجات - رغم جهل العامة بالشروط التي نص عليها القرآن - فإن الوجدان الشعبي لم يعمل على تخفيف هذا الواقع بل عمل على تجسيده وإبرازه ببشاعة تفوق هذا الواقع‘‘([xvi]).
وبناءً على ذلك نجد زوجة الأب - في أغلب الحكايات المنشورة، ولا سيما حكايات: ميّ، الفتاة اليتيمة والأفعى، الفتاة والثعبان، البنت والغول، الفتاة عويش، المدخن والفحم، الطير الأخضر، السمكة والثعبان - ظالمة قاسية، تجبر ابنة زوجها على القيام بكافة الأعمال المنزلية، وفي أوقات غير مناسبة، كتقطيع وجلب الحطب في أيام ممطرة ذات رياح عاصفة، وإجبارها على القيام بأعمال تفوق قدرات البشر، كالتقاط كمية كبيرة من الحبوب والشعير منثورة على الأرض، مع تفريق كل نوع على حدة، وإجبارها على أكل كمية كبيرة من البصل والسمك المملح. كما تجعلها ترتدي الثياب الرثة الممزقة، وتهمل في تنظيفها، وتلطخ وجهها بالفحم لإخفاء جمالها، وتجعلها تنام مع ثعبان في غرفة واحدة. وفي مقابل هذه الصورة، نجد ابنة الزوج مطيعة عطوفة جميلة مغلوبة على أمرها، مؤمنة بقضاء الله وقدره، تُعامل زوجة أبيها كأنها أمها، وذلك من أجل استمرار الحياة.
أثر البادية
هناك مظاهر كثيرة تمّ توظيفها في هذه الحكايات، مستوحاة من بادية الإمارات، تتعلق بعاداتها وتقاليدها، كما تتعلق ببيئتها الصحراوية الحيوانية والنباتية والبحرية. فعلى سبيل المثال نجد منصب (الشيخ)، وهو منصب رئاسي يتعلق بالمخلص والمنقذ وحامي الحمى، يتحقق بمعناه في أكثر من حكاية. فهذا الشيخ بهذه الصفات، نجده في حكاية (أنا أخو الغزلان)، هو شيخ القافلة الذي يُؤمِّن الطعام للفتاة المختبئة في الشجرة، وهو الذي يرثي لحالها، فيتزوجها ليضمن لها الأمان، باعتبار منصبه. وفي حكاية (السمكة والثعبان)، نجده شيخ القبيلة، الذي يتزوج من الفتاة المظلومة، ليخلصها من عذاب زوجة أبيها. وفي حكاية (لؤلؤ ومرجان)، نجده ابن الشيخ الذي يتزوج من الفتاة الشاردة عوشة، ليؤمن لها حياتها ومستقبلها.
كما اهتمت الحكايات المنشورة في هذه الدراسة، بإظهار قيمة الحيوان في البادية بخيره وشره. ففي حكايات (أنا أخو الغزلان، وميّ، وعلقة اللؤلؤ والمرجان)، نجد الأخ يتحول إلى غزال. والغزال من الحيوانات البرية المهمة في حياة البدوي، وبالأخص في الإمارات. حيث مازال هذا الحيوان يُقتنى ويُربي في المزارع، ويلقى عناية خاصة، لا يلقاها أي حيوان آخر. وهذه العناية تتناسب لأن يكون الغزال ممثلاً للشقيق في هذه الحكايات. واحتفاء بادية الإمارات بالغزال، له دلالة خاصة. حيث إن الغزال من الحيوانات الأثيرة لدى الإماراتي بصفة عامة، حيث كان هذا الحيوان منتشراً بكثرة في البادية قديماً، ومازال هذا الانتشار موجوداً في بعض الأماكن حتى الآن. وكفى بنا أن نشير - لإثبات هذا الاهتمام - أن دولة الإمارات لم تجد رمزاً يدل على هويتها البدوية، إلا صورة الغزال لتضعه على عملتها الرسمية، وهو الدرهم الفضي. هذا بالإضافة إلى إطلاق اسم الغزال على أكثر الميادين شهرة في الإمارات المختلفة بالدولة.
أما الثعبان - كحيوان بري منتشر في البادية - فكان من الحيوانات المثيرة للاهتمام في هذه الحكايات، حيث نجده يقدم المساعدة للفتاة المضطهدة من زوجة أبيها، بأن يلتف حول حطبها لربطه، ويحول منزلها المهجور إلى قصر كبير. ثم نجده يتحول إلى شاب وسيم، فيتزوج من الفتاة، ويُلبسها الذهب والفضة، وذلك في حكايات: الفتاة اليتيمة والأفعى، والفتاة والثعبان، والبنت والغول. وكأن الثعبان كنز يُمنح للفتاة عن طريق المصادفة، ليحقق لها آمالها. ولعل إظهار الثعبان بهذه الصورة، راجع إلى أهميته في بلاد جنوب شرق آسيا، كمعبود لبعض سكانها، وبالأخص في الهند. وهذه البلاد قريبة جداً من بادية الإمارات، ناهيك عن مظاهر الاتصال بينها وبين الإمارات منذ القدم.
ومن الملاحظ أن تحول الثعبان إلى إنسان، له وجود في الحكايات الشعبية الغربية القديمة، حيث كانت تصور الثعبان بوصفه الحيوان الروح. ’’وربما يرجع هذا إلى أن الحية تخرج من باطن الأرض، وتزحف إلى سطحها، وأن أجساد الموتى مآلها إلى الأرض‘‘([xvii]). كما أن تصور الثعبان بوصفه الكنز الثمين، الذي يظهر للإنسان عن طريق المصادفة، له جذور في قصص التراث العربي القديم. فيُحكى أن عبد الله بن جدعان طرده أبوه، وابغضته عشيرته لما اقترفه من ذنوب. فخرج في شعاب مكة حائراً يتمنى الموت، حتى وجد ثعباناً في مغارة فاقترب منه حتى يلدغه الثعبان فيموت. ولكن الثعبان لم يتعرض له، فأمسكه عبد الله فإذا به ثعبان من الذهب وعيناه ياقوتتان. وعندما كسره وأخذ عينيه، وجد كنزاً أسفله، فراح يصل أباه وعشريته وينفق عليهم من مال هذا الكنز ([xviii]).
ومن الحيوانات المنتشرة في بادية الإمارات، والتي ظهرت بصورتها الطبيعية في هذه الحكايات، (الضبعة) التي تأكل الأولاد في حكاية (أنا أخو الغزلان). أما في حكاية (علقة اللؤلؤ والمرجان)، فنجد الأم تضحي بأبنائها إلى الضبعة المفترسة، الواحد تلو الآخر، حتى ترفض الأخت التضحية بأخيها الأخير. ومن الجدير بالذكر، إن ’’التضحية بالأطفال، عادة شعائرية أو دينية كانت تمارس في أغلب مجتمعات العالم القديم، وما تزال لها بقاياها السارية عند عديد من القبائل .. .. وعند قبائل (المابايا) في البرازيل، تقتل الأم كل أطفالها، إلا ما تعتقد بأنه آخر أطفالها‘‘([xix]).
وإذا تركنا مظاهر الحيوان في البادية الإماراتية، إلى مظاهر النبات، سنجد الشجرة تحتل مكانة رفيعة ومهمة في الحكاية الخرافية، وخصوصاً شجرة الغاف، التي تنتشر بكثرة في الإمارات. وأهمية الشجرة في البادية تتمثل في كونها رمزاً للأمان والاستظلال والحماية. وبهذا المفهوم نجد شخصيات الحكايات المنشورة في هذه الدراسة، يحتمون بالشجرة خوفاً من الغريب القادم، أو المكوث فيها فترات زمنية كبيرة، وكأنها منزل لهم. أو نجدهم يجلسون أسفلها ويستظلون بها طلباً للراحة من عناء السفر والترحال، وهذا في حكايات: أنا أخو الغزلان، ميّ، مشيليف، علقة اللؤلؤ والمرجان، لؤلؤ ومرجان.
وإذا كانت صورة الشجرة بهذا المفهوم - كما جاءت في الحكايات السابقة - صورة مألوفة ومعروفة، فإن الضمير الجمعي أضاف إليها صورة أسطورية، تتناسب مع خرافة الحكايات الشعبية. لذلك نجد شجرة الغاف - في حكايتي علقة اللؤلؤ والمرجان، ولؤلؤ ومرجان - تتحدث وتحذر والد الفتاة من صعودها، لوجود ساحر يحرسها. كما نجد في حكاية (ميّ)، أن شجرة هائلة تُنبت مكان عظام الأخ المدفونة. ولعل هذا التصور الأسطوري للشجرة، له ما يبرره في الديانة العربية الوثنية القديمة، حيت كان رمز عبادة الإله (العُزى)، هو ثلاث شجرات من نوع السمر ([xx])، وهو نوع منتشر في البادية الإماراتية بكثرة.
وباعتبار أن معظم إمارات الدولة تطل على البحر، فإن البحر - بما يمثله من خير وفير ومصدر للثروة - كان له وجود مميز في هذه الحكايات. فنجد الفتاة في حكاية (ميّ)، تبحث عن ابن السلطان الذي يملك اللؤلؤ والمرجان. ثم نجد الأسماك المتنوعة والمنتشرة في الإمارات، مثل: الهامور والبديحة والبياحة والبياض، لها وجود أسطوري في هذه الحكايات. حيث نجد سمكة البديحة تتحدث مع الفتاة عويش، وتساعدها وتقدم لها الطعام، وتسخر لها الطيور لمساعدتها في التقاط الحبوب وتفريقها، وذلك في حكاية (الفتاة عويش). كما نجد سمكة البياض أو جنية البحر، تتحدث مع الفتاة وتقدم لها كميات كبيرة من أسماك البحر كل يوم، وذلك في حكاية السمكة والثعبان. كما نجد سمكة الهامور الكبيرة، تبتلع الزوجة كصورة أخرى لقصة الحوت مع النبي يونس عليه السلام، وذلك في حكاية علقة اللؤلؤ والمرجان. وأخيراً نجد الفتاة في قصة (الفتاة عويش)، تأكل السمك المالح ، فتتقيأه ذهباً وفضة!
وهذا التصور الخرافي للأسماك، له وجود في التراث العربي القديم، حيث يُقال: إن السمك في الرؤيا إذا وصل عدده إلى أربع فهو النساء، وإذا كثر عن ذلك فهو المال والغنيمة. كما أن السمك المالح، يدل على خير ومال باقٍ، لأن الملح يحفظ السمك من التلف ([xxi]).
وقبل أن نترك هذه النقطة، الخاصة بأثر البادية على الحكايات الشعبية الخرافية، نُبدي ملاحظة مهمة، تتعلق بالبادية أيضاً. حيث إن راوي هذه الحكايات، قام بتغييرات في بعض الحكايات المشهورة عالمياً، لتتناسب مع بيئته البدوية. وخير مثال على ذلك قصة (رادوبي الجميلة) أو سندريلا المصرية الفرعونية. فهذه القصة تدور أحداثها في مدينة منف الفرعونية، حيث يعيش التاجر (سنوفر) مع زوجته (تننت) وابنته (رادوبي) الجميلة. ولكن الأم تمرض وتموت، فيتزوج الأب بأخرى وينجب منها ابنتين. وبمرور الأيام، تكثر مكائد زوجة الأب لرادوبي التي عاملتها كخادمة ووصيفة لابنتيها، وذلك بسبب غيرتها من جمالها الذي فاق جمال ابنتيها. وفي يوم يقرر الأمير ابن فرعون إقامة حفلة لعيد الربيع، وسيختار فيها زوجته، وسينتقيها من بين فتيات منف الجميلات. وفي هذا اليوم تقوم زوجة الأب بتجهيز ابنتيها بأفخر الثياب والمجوهرات، ثم أغلقت القصر على رادوبي حتى لا تتمكن من الهرب أو حضور الحفلة. ولكن رادوبي استطاعت حضور الحفلة، بمساعدة أسطورية، فأعجب بها الأمير، ولكنها تنصرف تاركة حذاءها في الغدير، فيجده الأمير ويقرر الزواج من صاحبته.
ومضمون هذه القصة، هو مضمون حكاية (الفتاة عويش) نفسه، بعد تغييره وإلباسه الزيّ العربي، الذي يتناسب مع زمان ومكان البادية الإماراتية. فقد قام الراوي بتحويل الفتاة (رادوبي) الفرعونية ابنة التاجر، إلى الفتاة (عويش) الإماراتية ابنة الصياد. كما جعل السمكة بديحة تقدم المساعدة لعويش، بدلاً من تقديم المساعدة الأسطورية لرادوبي .. .. إلى آخر التغييرات الواضحة من مقارنة الحكايتين. وهذا إن دلّ، فإنما يدل على قدرة راوي البادية على التعامل مع الحكايات الشعبية الوافدة عليه، بعد صهرها وإعادة تشكيلها في بوتقة البادية.
عنصر التشويق
هناك مقومات عديدة، كانت السبب في بقاء واستمرار هذه الحكايات الخرافية، في بادية الإمارات، منها وجود الشخصيات الغامضة، مثل السحرة والجن والشياطين والغيلان والعفاريت. ولكن أهم عنصر سَبّبَ بقاء واستمرار هذه الحكايات، كان عنصر التشويق، الذي اتخذ أشكالاً عديدة. ومن أهم هذه الأشكال عقدة الحكاية، أو محاولة تنفيذ الشروط الصعبة والمستحيلة.
ففي حكاية (ميّ)، نجد الأب يشترط على ابنته لمسّ سقف البيت بيديها، ثم نجد الساحرة تشترط عليها وعلى أخيها، عبور الغدير المسحور مع شرب مائه دون تنفس، وإلا تحولا إلى غزالين. وفي حكاية (إمشيليف) نجد شرطاً صعباً، وهو وجوب اجتياز إمشيليف وأخوانه لبحرين الأول من السمن، والآخر من اللبن. وفي حكاية (أنتيف أنتيفان)، نجد الأخ وأخوانه لزاماً عليهم اجتياز بحر كبير ثم نار هائلة. وفي حكاية (الفتاة اليتيمة والأفعى)، نجد الأفعى تشترط على الفتاة الزواج منها، وكذلك نجد هذا الشرط في حكاية (البنت والغول). وفي حكاية (الفتاة عويش) نجد زوجة الأب تشترط على ابنة زوجها أكل كميات كبيرة من المالح والبصل. وفي حكاية (المدخن والفحم)، نجد بحراً هائلاً أمام الفتاة يجب اجتيازه للوصول إلى الفحم. وفي حكاية (علقة اللؤلؤ والمرجان)، نجد ساحراً شريراً يجب اجتنابه للوصول إلى العلقة الموجودة في شجرة هذا الساحر.
ومن أهم هذه الشروط وأصعبها، ما جاء في حكايات (البنت والساحر، والبنت والنوبي، ولؤلؤ ومرجان)، حيث يجب على الأخ من أجل إنقاذ أخته، أن يقتل خاطفها الساحر بضربة واحدة مميتة، ولا يزد في الضربات، لأن الضربة الثانية تعيد للساحر المحتضر الحياة مرة أخرى. وعلى الرغم من صعوبة هذا الشرط، وأهميته في إضفاء عنصر التشويق، إلا أن له أساساً في التراث العربي القديم. فقد ’’كانت خرافات الغيلان منتشرة بكثرة شديدة في الجزيرة العربية، وينسب لكائن خرافي يسمى (تأبط شراً) ([xxii]) أنه قتل غولة بضربة واحدة من سيفه فقتلها، وأن الغولة عندما ضربها أول ضربة، طلبت منه أن يضربها ثانية، لكنه رفض. وهي تلك التضمينة الأسطورية المعروفة في خرافات الجان، والتي مؤداها أن ضربة الرجال (ما تتناش) لا تثنى‘‘([xxiii]).
ومن عناصر التشويق أيضاً، في هذه الحكايات، عنصر التحول. فقد تحولت الخبزات السبع إلى سبعة أبناء في حكايات (إمشيليف وأنتيف أنتيفان ومشيليف). كما حولت الأخت أخاها إلى أبرة، كي تخفيه من الساحر في حكاية (البنت والنوبي). وفي حكاية (الفتاة اليتيمة والأفعى) يتحول الثعبان إلى شاب وسيم. كما تحولت عظام الأخ المدفونة إلى طائر تارة، وإلى ذهب تارة أخرى في حكاية (الطير الأخضر). كما تحول الأخ إلى غزال في حكايتي (أنا أخو الغزلان، وعلقة اللؤلؤ والمرجان).
كذلك كان من عناصر التشويق في هذه الحكايات، الأعمال الخارقة. ففي حكاية (إمشيليف) نجده يشرب بحرين الأول بحر السمن، والآخر بحر اللبن. وفي حكاية (أنتيف أنتيفان) نجده يشرب ماء البحر كله، ثم يخرجه ليطفيء به ناراً هائلة. كذلك نجد في حكاية (أنا أخو الغزلان)، أن الغزال يصارع الحوت ويتغلب عليه.
ومن مقومات بقاء هذه الحكايات أيضاً، النهاية السعيدة التي تنتهي بها كل حكاية. ففي حكاية (أنا أخو الغزلان)، نجد الأخ ينقذ أخته من بطن الحوت. وفي حكاية (ميّ) نجد الأخ يعود إلى طبيعته البشرية بعد أن كان غزالاً. وفي حكاية (جلد الدجاجة) نجد الزوج يحرق الجلد لتقتنع الزوجة إنها امرأة، وتعيش معه حياة سعيدة. وفي حكايات (إمشيليف، وأنتيف أنتيفان، ومشيليف) يستطيع الأخ المنبوذ أن ينقذ أخوانه من الساحرة، ويصبح الأخ المحبوب، بل ويصبح رئيساً للقرية. وفي حكايتي (الفتاة اليتيمة والأفعى، والفتاة والثعبان) يتحول الثعبان إلى شاب وسيم ويتزوج من الفتاة. وفي حكايتي (البنت والساحر، والبنت والنوبي) يتم التخلص من الساحر، ومن ثم عودة الأخت إلى أسرتها. وفي حكايتي (الفتاة عويش، وعلقة اللؤلؤ والمرجان) تتزوج الفتاة من ابن السلطان أو من السلطان. وهكذا كانت النهايات السعيدة في باقي الحكايات.
د. سيد علي إسماعيل
ملحق الدراسة
القصص الخرافية
ـــــــــــــــ
1 - أنا أخو الغزلان ([xxiv])
كان هناك أربعة أولاد منهم بنتان وولدان، يعيشون وحدهم في المنزل بعد وفاة الأهل. وفي يوم ما، نزلت عليهم الضبعة فأكلت بنتاً وولداً، واستطاع الولد الآخر وشقيقته الهرب منها. وبعد السير مسافة طويلة قالت الأخت لأخيها: أنا ما أخذت المشط معي، وقال هو: أنا لم أحضر العصا معي. قالت له: أرجع وأحضر المشط والعصا، وأنا أنتظرك هنا. فذهب وأحضر المشط والعصا، بعد أن تأكد من عدم وجود الضبعة. وأثناء عودته وضع المشط على رأسه، وصنع من العصا ذيلاً له، وعندما وصل إلى أخته قال لها: أنا ليس شقيقك بل أنا شقيق الغزلان. فأخذت الأخت في البكاء، وعندما هدأت وافقت أخاها على كلامه حتى تستأنس به في طريقها. وبعد السير مسافة كبيرة، شعرا بالعطش فتقابلا مع سيدة عجوز وسألاها عن مورد الماء، فقالت لهما أشربا من هذا الماء المغطى، لأنه للبشر، ولا تقتربا من الماء المكشوف لأنه خاص بالغزلان. فقال الأخ لأخته: أشربي أنت من الماء المغطى، وأنا سأشرب من الماء المكشوف. وبعد أن شربت الأخت لم تجد أخاها، فقد تحول إلى غزال وجرى وسط الغزلان، فأخذت في البكاء على فقد أخيها. وبعد فترة من السير في الصحراء، شاهدت جماعة من الناس قادمين على شكل قافلة، فخافت وصعدت إلى شجرة كانت بجوارها واختبأت فيها. فجاءت القافلة واستقر مقامها حول الشجرة، وقال شيخ القافلة جهزوا الطعام حتى أغفو قليلاً تحت الشجرة. وفي هذه اللحظة تذكرت الأخت شقيقها فبكت فتساقطت دموعها على وجه الشيخ النائم تحت الشجرة، فلاحظ وجود الفتاة، فأراد أخفاء الأمر عن أفراد قافلته، فوقف ونادى على قومه أن ينتهوا من الطعام سريعاً. وبعد الانتهاء أمرهم بوضع كمية من الطعام على الصخرة الموجودة أسفل الشجرة. ففعلوا ذلك، ثم قام الشيخ بوضع خاتمه بجوار الطعام، ثم انصرف مع جماعته. فنزلت الفتاة وأكلت من الطعام ولبست الخاتم. وفي الطريق قال الشيخ لجماعته سأعود إلى الشجرة لأنني نسيت خاتمي هناك. وعندما عاد أمسك بالفتاة بعد أن لاحظ خاتمه في يدها، فطلبت منه أن يتركها وستعطيه الخاتم، فقال لها: لن تخلعي هذا الخاتم أبداً لأنك ستكونين زوجتي الثانية، حيث إنني متزوج من امرأة أخرى، ولكن أخبريني ما قصة اختفائك في الشجرة؟ فروت له قصتها مع أخيها. وبعد فترة تم زواجه منها، وحملت في أحشائها طفلاً منه. وفي هذه الفترة ذهبت إلى البحيرة لتمشط شعرها، فقامت الزوجة الأولى بإسقاطها في البحيرة، فابتلعها الحوت. فعاشت في بطن الحوت فترة حتى أنجبت تؤماً من ولد وبنت. وفي يوم ما سمعت وهي في بطن الحوت صوت شقيقها على شاطيء البحيرة، جاء ليشرب منها هو والغزلان، فنادته بأعلى صوتها، حتى سمعها وتعرف على صوتها. فنزل إلى الماء وصارع الحوت حتى تغلب عليه وقام باصطياده، وشق بطنه فأخرج أخته وولديها. وعندما سألها عن هذين الوليدين، روت له قصتها مع زوجها شيخ القبيلة، وطلبت منه حمايتها وعدم تركها، فوعدها بذلك شريطة أنه ليس شقيقها بل هو شقيق الغزلان .. فوافقته وعاشت معه في بيت واحد مع قطيع الغزلان.
2 - حكاية ميّ ([xxv])
ميّ .. فتاة صغيرة يتيمة شديدة الجمال، كانت تعيش مع أخيها الأكبر، ومع زوجة أبيها، بعد وفاة والدتها. وكانت عيشتهما بائسة، بسبب ظلم وجور زوجة أبيهما. وفي يوم من الأيام فكرت في الخروج من المنزل هرباً من ظلم زوجة الأب، فطلبت من والدها أن يسمح لها بالخروج مع أخيها، فوافق ولكنه وضع شرطاً لذلك، وهو أنها تقوم بلمس سقف المنزل بيديها. وظلت تفكر ماذا تفعل؟ إلى أن وصلت إلى حل، تمثل في وضع الوسائد فوق بعضها البعض، ووقفت فوقها ونجحت في لمس السقف. وهكذا خرجت مع أخيها من المنزل، وبدأت رحلة هروبهما. وفي الطريق تقابلا مع امرأة عجوز، فسألتها ميّ عن بلاد ابن السلطان الذي يملك اللؤلؤ والمرجان. فدلتهما على الطريق وقالت لهما: إنهما سيجدان في طريقهما رجلاً مسناً، لا يتحدثان معه، ثم امرأة ساحرة يجب أن يأكلا من خبزها. وبالفعل وجدا الرجل المسن الذي حاول الحديث معهما، ولكنهما صمتا وتجاوزاه، ثم وجدا المرأة الساحرة وبجوارها خبزها، فانقض الأخ على الخبز وأكل منه، وأعطى أخته منه فأكلت أيضاً. ثم سألا المرأة عن طريق بلاد ابن السلطان الذي يملك اللؤلؤ والمرجان، فقالت لهما: عليكما باجتياز الغدير المسحور الذي يعبر بكما إلى قصر ابن السلطان، وإذا شربتما من الغدير يجب عليكما أن تحبسا أنفاسكما فترة من الوقت ولا تتنفسا، وإلا تحولتما إلى غزالين. وذهب الأخ وأخته حتى وصلا إلى الغدير، وشربا منه، ولكن الأخ تنفس سريعاً بعد شربه، فتحول إلى غزال. وأخذت أخته تبكي عليه كثيراً، وتركض خلفه أثناء لعبه وجريانه مع الغزلان، حتى لا يبتعد عنها. وفي هذه اللحظة سمعت صوت حوافر وصهيل خيول مقبلة، فخافت واختبأت في شجرة غاف كثيفة الأغصان والأوراق تراقب الخيول القادمة، فإذا بها موكب ابن السلطان محمد. الذي قرر الجلوس والراحة أسفل الشجرة حتى يتم إعداد الطعام. وقام الحراس بصيد الغزال لإعداد الطعام، فتمكنوا من جميع الغزلان عدا الغزال الذي يُمثل شقيق ميّ. وكانت ميّ تنظر إلى هذه المطاردة وقلبها يعتصر ألماً على أخيها، فأخذت تبكي، فتساقطت دموعها على خد ابن السلطان النائم أسفل الشجرة. وعندما نظر إلى مصدر هذه القطرات، رأى الفتاة دون أن تلحظه هي. فهب واقفاً وطلب من حاشيته الانصراف، ووضع الطعام تحت الشجرة بعد أن أخفى فيه خاتمه. وأثناء سير الموكب، قال ابن السلطان أنه نسي خاتمه تحت الشجرة وسيعود وحده لإحضاره. وبالفعل عاد ابن السلطان، ليجد الفتاة تأكل من الطعام. فأمسك بها وطمأنها على حياتها، فقصت له قصتها، وقصة أخيها الغزال. فأخذها معه إلى قصره وتزوجها، بعد أن قصّ على أهله قصتها وقصة أخيها. ولكن أهله لم يرضوا بهذا الزواج. وفي فترة غياب ابن السلطان، قامت إحدى الجاريات باصطياد شقيق ميّ (الغزال)، وقامت بذبحه، واستخدمت بعض عظامه في ساقية الماء الموجودة في حديقة القصر. وعندما كانوا يستخرجون الماء من الساقية، كانت الساقية تصدر صوتاً شبيهاً بالأنين والبكاء. فحزنت ميّ حزناً شديداً، وجمعت بقايا عظام أخيها ودفنتها، فتحولت العظام إلى طائر، ونبتت مكانها شجرة ضخمة أخذت تنوح كل يوم. وعندما عاد ابن السلطان، وسأل عن زوجته، قالوا له إنها هربت مع أخيها، فحزن عليها حزناً شديداً.
ساحة النقاش