صورة الأندلس في المسرح العربي
أ.د/ سيد علي إسماعيل
ــــــــــــــــــــــــــــ
بعض الدارسين قالوا بأن " التاريخ ليس له تفسير واحد، بل أن كلاً منا يفهمه ويفسره على قدر ما يستطيع ذهنه، وهذا التفسير لا يمكن أن يتحلل من شخصية المؤرخ وثقافته، وهذا يفسر لنا كيف أن كل مؤرخ يرى في نفس الحوادث شيئاً آخر، وعلى هذا فإنه لا يمكن القضاء على العنصر الشخصي، وأن التاريخ الموضوعي الصرف يكاد أن يكون لا وجود له " ([1]).
وهذا القول يتحقق أيضاً بالنسبة للكاتب المسرحي، كتحقيقه بالنسبة للمؤرخ؛ لأن المسرحية التاريخية تقترب من التاريخ، وتبتعد عنه في آنٍ واحد. فهي تقترب منه في الأحداث، والمواقف المهمة، والشخصيات الرئيسية. وتبتعد عنه في بعض الأحداث، والمواقف، والشخصيات الثانوية. ومن خلال ذلك يستطيع الكاتب المسرحي أن يخلق تفسيراً جديداً للتاريخ، أو أن يخلق بناء التاريخ من خلال وجهة النظر الفنية.
فالمسرحية التاريخية ليست مقصودة لأحداثها، أو لسرد شخصياتها المعروفة؛ ولكن لبيان رموزها والقصد من كتابتها. وقد أوضح هذا المعنى الدكتور عبد القادر القط، في قوله: " إن كثيراً من أحداث المسرحيات العالمية الكبيرة يكون معروفاً لدى المشاهدين من قبل، ومع ذلك يقبلون على مشاهدتها وهم يعرفون ماذا سيحدث بعد. لأن وقائع الحدث المادية لا تهمهم في المقام الأول بقدر ما يهمهم متابعة الحدث في صورته الفنية من حيث هو خلق فني جديد لذلك الحدث من أحداث الحياة، وعرض لدلالات جديدة فيه، أو كشف لدلالات كانت له؛ ولكنها تظل خافية حتى يجلوها فن الكاتب المُبدع" ([2]). لذلك يجب أن نسأل دائماً ونحن أمام المسرحية التاريخية: ما رمز هذه المسرحية؟ ولماذا كُتبت في هذا التاريخ بالنسبة للكاتب، أو بالنسبة إلى العصر الذي كُتبت فيه؟
ويجب أن نُشير إلى أن الكاتب المسرحي عندما يوظف التراث التاريخي في مسرحيته يجب أن يقوم هذا التوظيف على الاختيار. فيجب أن يختار الشخصية التاريخية، ويقتطع فترة زمنية محددة، بشرط أن تكون هذه الشخصية مكتملة. أي منذ توليها الحكم إلى موتها، أو سقوطها مثلاً. وعندما يختار الفترة الزمنية يجب أن تكون مكتملة أيضاً من حيث الحدث الواحد والزمن الواحد، ثم لا يتعرض لما قبل الشخصية أو ما بعدها، وكذلك بالنسبة للفترة الزمنية. أي يفصل الكاتب الشخصية أو الفترة الزمنية تماماً عن كل الارتباطات السابقة واللاحقة لها.
ويُلاحظ أن الكاتب المسرحي لا يؤرخ للشخصية التاريخية أو للفترة الزمنية. أي لا يرتبط بالأحداث أو الشخصيات الثانوية، بل يُغير فيها ويُبدع من عنده بشرط عدم التغيير في الأحداث، أو الشخصيات الرئيسية. ومهمة النقد هنا الاهتمام بما قام به المؤلف من تغييرات، ولماذا قام بهذا التغيير؟ هذا بالإضافة إلى الاهتمام بما يوافق التاريخ من الأحداث أو الشخصيات الثانوية، ولماذا وافق فيها المؤلف التاريخ؟ ونخرج من ذلك التغيير أو الاتفاق برؤية الكاتب للشخصية، أو للفترة الزمنية.
مسرحية (طارق الأندلس) لمحمود تيمور
تبدأ أحداث هذه المسرحية بإقامة احتفالات النصر بفتح المغرب، الذي لم يبق منه سوى مدينة سبتة التي يحكمها يوليان باسم لذريق. وذلك بفضل شجاعة وبسالة طارق بن زياد. ثم يحضر الأمير موسى بن نصير إلى السرادق حيث يبدأ السمر. وفي الوقت نفسه يحضر يوليان وابنته فلورندة، ويطلب من موسى أن ينضم إلى صفوف المسلمين للانتقام من لذريق. وأن يساعدهم على غزو الأندلس بعد أن زيّن لهم ما فيها من خيرات وكنوز. وأمام هذا الإغراء يوافق الأمير موسى، ويظل يوليان وابنته في ضيافة طارق. وبمرور الوقت يأخذ يوليان في تجميل صورة طارق أمام ابنته، لغرض ما في نفسه. كما نجده يخطط كي تنفرد ابنته دائماً بطارق، أملاً في الإيقاع بطارق عن طريق حبه لابنته. وبالفعل تتوالى الأحداث التي تؤدي إلى ذلك الحب.
ويبدأ الفصل الثاني بجزء من خطبة طارق الشهيرة قبيل فتح الأندلس، ثم نسمع أصوات صليل السيوف وصهيل الخيول دليلاً على فتح طُليطُلة، وغيرها من ثغور الأندلس. وبتوالي الفتوحات نجد الرُسل تحمل إلى طارق الأمر بالتوقف عن الزحف والتوغل من قبل الأمير موسى، دون جدوى، واستمر طارق في الفتوحات. وبتألق نجم طارق في الأفق، يُدبر له يوليان مؤامرة لقتله، ولكنه يفشل بفضل فلورندة.
وفي الفصل الثالث، يوالي يوليان محاولاته من أجل القضاء على طارق، رغم زواجه من ابنته فلورندة. فأخذ في تزيين مطاردة فلول القوط لطارق، عن طريق يسمى طريق الشعاب أو الصعاب، وهو طريق لا نجاة لمن يسلكه. ويأتي قاضي القضاة من قبل الأمير موسى، كي يمنع هذه المطاردة، فكان نصيبه التعنيف والثورة والغضب من قبل طارق. الذي صمم على المطاردة. وكاد أن يهلك بسببها. وبعد ذلك يكتشف طارق أن يوليان قصد قتله، فيواجهه وتتدخل فلورندة في المناقشة، وتكشف الأمر برمته لطارق. وهنا يطعن يوليان ابنته، وينتحر. ولكن فلورندة يتم إنقاذها، ويعود طارق إلى طليطلة لاستقبال الأمير موسى.
وفي الأخير تطلب فلورندة الطلاق من طارق، بعد إلحاح شديد، لأن شبح أبيها يُطاردها، فيوافق طارق على مضض. ويصل الأمير موسى غاضباً ثائراً من عصيان طارق لأوامره. فيحاول طارق تبرير موقفه دون جدوى. وفي ذلك الوقت يحضر الكونت جوميز ويُشهر إسلامه أمام الجميع، معلناً أن إسلامه كان بفضل شجاعة ومروءة طارق، ويرجع الصفاء بين طارق والأمير موسى، ويستعد الاثنان لمواصلة فتح بقية الأندلس مع نهاية المسرحية.
قارئ هذه المسرحية يُدرك وللوهلة الأولى أن محمود تيمور أراد من كتابتها الإشادة بشجاعة وبسالة طارق بن زياد في فتح الأندلس. فالكاتب يعتقد أن التاريخ لم يعطِ طارق بن زياد حقه الحقيقي في إبراز دوره التاريخي. لذلك خالف الواقع التاريخي في أكثر من موضع؛ بل وقام بعملية اختيار للأحداث التاريخية خدمة لهذا الغرض؛ فنجده في الفصل الأول ينسب افتتاح أو إتمام فتح المغرب لطارق بن زياد. رغم أن فتح المغرب تم على يد القائد طريف بن مالك في رمضان عام 91 هـ ([3]). أما اسم طارق بن زياد، فلم تذكره كتب التاريخ إلا مع بداية فتح الأندلس، عندما عهد له الأمير موسى القيام بهذا الفتح ([4]).
وعندما نأتي للتحالف بين يوليان حاكم سبتة، وبين الأمير موسى نجد محمد عبد الله عنان، يوجز لنا أسباب هذا التحالف قائلاً: " وكان على عرش القوط يومئذ ملك شديد البأس والعزم هو ردريك أو لذريق حسبما تسميه الرواية العربية، ولكنه كان يواجه خطر الانتقاض المستمر، ولم يكن ملكاً شرعياً ولكنه استطاع أن ينتزع العرش من صاحبه الشرعي الملك وتيزا أو غيطشة عقب ثورة دبرها بمؤازرة رجال الدين والأشراف الناقمين. ومع أنه استطاع أن يوطد سلطانه مدى حين فإن الخطر لبث مع ذلك محدقاً بعرشه وملكه، وكان اقتراب العرب من شواطئ الجزيرة يحفز خصومه إلى التماس الوسيلة لإسقاطه وسحقه، وكان الكونت يوليان من أنصار الحكم القديم ومن خصوم الحكم الجديد، يخشى عواقبه على مركزه وسلطانه، وكان غنياً شديد البأس وافر الأتباع والجند، بعيداً عن سلطة العرش، يقبض على مفتاح أسبانيا بحكمه لسبتة، والمضيق، فتفاهم معه أبناء الملك السابق وتيزا وباقي الزعماء الخوارج، واستقر الرأي على الاستنجاد بالعرب جيران الكونت. وهذا هو التعليل التاريخي للتحالف الذي عقد بين الكونت يوليان وبين موسى بن نصير، وانتهى بفتح العرب لأسبانيا. ولكن الرواية - والرواية الإسلامية بنوع خاص- تقدم إلينا تعليلاً آخر، فتقول إن يوليان كان يعمل بدافع الانتقام الشخصي أيضاً. فقد كانت له ابنة رائعة الحُسن تُدعى فلوراندا، أرسلها إلى بلاط طليطلة جرياً على رسوم ذلك العصر لتتلقى ما يليق بها من التربية بين كرائم العقائل والفرسان، فاستهوى جمالها الفتان قلب ردريك فاغتصبها وانتهك عفافها. وعلم الكونت بذلك فاستقدم ابنته إليه وأقسم بالانتقام من ردريك ونزعه ذلك العرش الذي اغتصبه. فلما نشبت الحرب الأهلية بين ردريك وخصومه، والتجأ هؤلاء الخصوم إليه، رأى الفرصة سانحة للعمل، ولم يرَ خيراً من الاستنصار بالعرب ومعاونتهم على فتح أسبانيا" ([5]).
وأمام هاتين الروايتين انتقى محمود تيمور الرواية الثانية، لما فيها من بوادر قصة غرامية، استطاع أن يقيمها بين فلورندة وطارق، وإقامة حبكة مسرحية عليها. فالتاريخ لم يذكر لنا أن فلورندة كانت مع أبيها أثناء اللقاء مع الأمير موسى ([6])، بل ولم يذكر أن اللقاء كان بوجود طارق، ولكنه كان الوسيط ([7]). ولكن خيال المؤلف جعله يجمع بينهما فى لقاء واحد، حتى يتم الإعجاب بإيعاز من يوليان؛ كي يصل إلى غرضه الأساسي بنزع حكم أسبانيا من لذريق، حتى ولو أدى الأمر إلى عرض ابنته على طارق. وبشيء من الأخلاق الإسلامية، جعل تيمور هذا الإعجاب يصل إلى الزواج، الذي لم يمنع يوليان من الاستمرار في تدبير المؤامرات، للتخلص من طارق. ولعل الكاتب أراد من هذا الزواج الإشارة إلى شيوع زواج القادة المسلمين بالأسبانيات ([8]).
يوليان: أكنت تظن يا بدرو أن طارق ينتصر إلى هذا المدى؟ ... نحن كما ترى على خليج غسقونية في أقصى شمال الأندلس، نحن في مدينة خيخون يا صديقي! .. أتدرك ذلك يا بدرو؟
بدرو: بسقوط هذه المدينة في قبضة طارق انتهى كل شيء ...
يوليان: لم تبق إلا بقعة جليقية الصخرية بجبالها الوعرة ...
بدرو: وإنه لبالغها ...
يوليان: ربما ... لقد اختلط الأمر عليَّ ... وما أحسب أن تفكيري مستقيم ... أحس أن عقلي يتخلى عني ...
بدرو: لك عذرك يا يوليان ... يكفي ما أصابك من إخفاق مؤامرتك على طارق ...
يوليان: وأدهي ما في الأمر أن إخفاقي كان بفضل ابنتي! ... [يسمع تخبط النوافذ من عصف الرياح] الطبيعة يا بدرو سوف تنجح اليوم فيما أخفقنا فيه بالأمس ... لقد أوضحت لطارق أن أمامه طريق الشعاب وزينت له أن يسلكه ... وهذا الطريق لمن يحاول عبوره مهلكة ومضيعة ... لا نجاة منه لمن يقتحمه ...
بدرو: عجبي لك يا يوليان ... مازلت تصر على الإيقاع بطارق حتى بعد أن غدا صهراً لك
يوليان: وافرحتاه ... بأني صهر القائد ...! أهذا كل ما كنت أسعى إليه؟ ... أن أكون ذيلاً لذلك الطاووس المتبختر؟ ... غفرانك ربي ... لست ذيلاً، بل ريشة في هذا الذيل المنتفش العظيم! ... لا ... لا إن يوليان أعز على نفسه من أن يرضى بهذا الوضع المهين! ... ([9]).
ومن خلال هذا الحوار - الذي يتكرر في معناه كثيراً في المسرحية - نجد الإعجاب بطارق وبشجاعته الفذة في فتح البلاد الأندلسية الواحدة تلو الأخرى. وهذا الإعجاب جعل تيمور يغير من شخصية الكونت يوليان التاريخية، التي تثبت أنه كان صديقاً للعرب ومتحالفاً معهم، لدرجة أن الروايات النصرانية تنكر هذه الشخصية تماماً لأنها "تأبى الاعتراف بواقعة تسجيل خيانة الوطن على نفرٍ من زعماء أسبانيا الأوائل، وهي خيانة أدت إلى أن افتتح العرب أسبانيا" ([10]). فإذا كانت كُتب التاريخ تؤكد على صداقة يوليان، ومساعدته للعرب([11])، نجد تيموراً يخالف ذلك، من أجل غرضه، وهو إظهار طارق بصورة القائد الشجاع العظيم، الذي تحوطه المؤامرات والدسائس. فيقوم باكتشافها والتغلب عليها، دون الإحباط لما عزم عليه من مواصلة الفتح الأندلسي. ولم يكتفِ تيمور بذلك، بل بالغ في عدد المراسلات بين موسى وطارق لوقف الزحف، في مواضع كثيرة من المسرحية. فنجد في الفصل الثاني، حواراً بين ابن سيار - وهو من أتباع طارق- وبين المغيث الرومي- وهو من قواد موسى:
ابن سيار: أأبلغته رسالة الأمير موسى إليه أن يقف الزحف؟
مغيث: لم يمكنى من ذلك!.. لقد اندفع يسألنى فى شغف عن قرطبة التى بعث بى إليه فتحاً([12])
وفي نهاية هذا الفصل، نجد الحوار حول هذا الموضوع، بين طارق ومغيث:
طارق: والآن ... ما عندك يا مغيث؟ ...
مغيث: ثمة رسالة طلب الأمير موسى مني أن أبلغك إياها مشافهة ...
طارق [في استعلاء]: ماذا يريد الأمير موسى؟ ...
مغيث: يطلب منك وقف القتال ...
طارق: ألا يكف الأمير موسى عن طلبه هذا ! ... [يعلو بصدره، ويسمو بهامته.] ولكن صوتاً آخر يناديني أقوى من صوت الأمير، فإلى أي صوت أستجيب؟
مغيث: صوت من؟ ...
طارق: وهل أدري لمن الصوت؟ ... إنه يأتيني من الأعماق البعيدة ... وما إن يصك سمعي حتى أحس كأن حريقاً يشب في صدري، لا الأمير موسى ولا غير الأمير موسى بمستطيع أن يطفئ هذا الحريق ([13]).
وفي الفصل الثالث، يحضر قاضي القضاة الحسن بن يوسف من أجل هذا الأمر، بعد أن فتح طارق مناطق أخرى، دون الرضوخ أمام أوامر الأمير موسى. ويحاول القاضي مرة ثانية مع طارق دون جدوى أيضاً. وهذه المحاولات لوقف زحف طارق نحو بلاد الأندلس -كما جاءت في المسرحية- بالغ فيها تيمور كي يُضفي على طارق الشجاعة والبسالة باسم الإسلام، لا باسم الأمير موسى.
ومن الجدير بالذكر، أن كتب التاريخ ساعدت محمود تيمور على هذا التصور، عندما أخبرتنا بأن أوامر موسى لطارق بوقف الزحف، كانت بسبب الحسد والغيرة لِما بلغه طارق من شجاعة وإقدام في فتح بلاد الأندلس. وعن هذا الأمر، يقول المراكشي: " ثم دخل طارق هذا الأندلس وأمعن فيها واستظهر على العدو بها، وكتب إلى موسى بن نصير مُوليِّه بخبر الفتح وغلبته على ما غلب عليه من بلاد الأندلس وما حصل له من الغنائم، فحسده موسى على الانفراد بذلك، وكتب إلى الوليد بن عبد الملك بن مروان يعلمه بالفتح وينسبه إلى نفسه، وكتب إلى طارق يتوعده، إذ دخلها بغير إذنه" ([14]).
ولكن محمد عبد الله عنان، خالف هذا الرأي قائلاً: "ولكن البعض يعلل غضب موسى على طارق ... بأن طارقاً خالف الأوامر الصادرة إليه بألا يتجاوز قرطبة أو حيث تقع هزيمة القوط. وهذا تعليل حسن يتفق مع ما أُثر عن موسى من الحيطة والحذر، فقد ينكب المسلمون إذا توغلوا فى أراض ومسالك مجهولة" ([15]). كما أكد ذلك د/إبراهيم أحمد العدوي، قائلاً عن المصادر والمراجع التي قالت بحسد وغيرة موسى من طارق: "وقد وقعت تلك المراجع في هذ الخطأ الفاحش لأنها صورت موسى وطارقاً تصوير القائدين المختلفين، وأن كلاً منهما كان يعمل دون علم الآخر. والمعروف أن طارقاً لم يقم بما قام به من أعمال حربية إلا باسم موسى بن نصير، الذي تولى القيادة العليا ورسم الخطط، وأمدّ طارقاً بكل المساعدات الحربية، ولاسيما في ساعة الخطر قبل معركة وادي بكة. هذا بالإضافة إلى أن طارق بن زياد كان يرسل إلى موسى بن نصير عن طريق يوليان أنباء تقدم المسلمين خطوة خطوة، مما جعل القيادة العليا في القيروان تتابع الأحداث عن كثب. ثم أن طارقاً دأب على الإعلان دائماً أن له قيادات عليا لابد من الرجوع إليها" ([16]).
وهكذا أراد تيمور أن يظهر طارق بن زياد، بمظهر فاتح الأندلس الذي لا يمنعه مانع من الوصول إلى إعلاء كلمة الإسلام. لذلك نجد الكاتب يخالف التاريخ أيضاً، عندما قام بنسج قصة دخول طارق مع عدد قليل من الرجال إلى الأندلس سراً قبل الفتح، دون إذن من الأمير موسى، الذي عنّفه على هذه الحماقة. ويبرر طارق - في المسرحية - هذا التصرف بالفضول لمعرفة ما وراء البحر. ويتسم حديثه بالطموح والثقة بالنفس ([17]). كما نجد محمود تيمور يأتي بجزء كبير من خطبة طارق الشهيرة "أيها الناس، أين المفر؟ ... البحر من ورائكم، والعدو أمامكم" ([18]). كما تفنن تيمور في عرض الخصال الحربية والإسلامية لطارق بن الزياد، مثل إظهار العفو من قبل طارق عن أسرى طليطلة بعد أن فتحها ([19])، وأيضاً العفو عن الكونت جوميز – مرتين - عندما وقع أسيراً، وبسبب ذلك العفو يشهر جوميز إسلامه في نهاية المسرحية، قائلاً لطارق: "نعم، أنت يا طارق ... أعلنها جهرة على الملأ ... أحببت الإسلام فيك ... أحببت ما تجلى فيك من شهامة ومرؤة وعدالة وصدق جهاد ... أحببت ما تحليت به من سماحة وأريحية وعفو عند المقدرة ... أحببت إيمانك الذي نبضت به كل جارحة فيك، فدفعك إلى خوض الغمار، لا تبالي الأخطار" ([20]).
ومن الجدير بالذكر إن كُتب التاريخ روت لنا إن الأمير موسى بن نصير قابل طارق بن زياد في طليطلة، فأنّبه وبالغ في إهانته، حتى وصل الأمر إلى جلده وسجنه، عقاباً له على العصيان وعدم طاعة الأوامر. وقيل: بل همّ بقتله أيضاً، ولكنه ما لبث أن صفح عنه، وردَّه إلى منصبه ([21]). وقد أخذ تيمور هذه الرواية من التاريخ ووظفها في نهاية المسرحية، من خلال هذا الحوار:
طريف: أتزن نفسك بالأمير عقبة يا طارق؟ ...
طارق: أتى عقبة بعظائم، وأتيت أنا بما هو أعظم ...
الأمير موسى: تتطاول يا طارق ! ...
طارق: أهدى عقبة إلى الإسلام إفريقية، وأهديت أنا إلى الإسلام الأندلس بأسرها ...
الأمير موسى: ما لهذا ولِما كُنا نخوض فيه؟ ... سألتك: فيم عصيت أمري؟ ... وكيف جرؤت ألا تطيعني؟
طارق: أجدر بك أيها الأمير أن تسألني: ماذا كسبت للخلافة من رقاع، وماذا دوخت لها من أقيال!...
الأمير موسى: كان عليك أن تطيع ما أمرتك به ...
طارق: وصالح المسلمين ... أليس هو فوق كل أمر؟
الأمير موسى [في غضب]: تصر على العصيان ... حقت عليك العقوبة ...
طارق [مندفعاً]: لا يضيرني عقابك ... ما شئت فافعل ...
الأمير موسى: أترفع صوتك في مخاطبتي؟ ... أنسيت أنك مولى لي ...؟
طارق: لا أنكر أني من مواليك أيها الأمير السيد، ولكني أعجب لماذا تخشى أن تسمو هامة مولى لك، ولماذا تحرص على إظهار هذه التفرقة بيني وبينك، وكلنا في كنف الإسلام لله عبيد؟
الأمير موسى: يا لك من متوقح سليط اللسان ! ... والله لأمزقن جسدك بسوطي ... ([22]).
وبمقارنة ما جاء في كُتب التاريخ، وما صوره تيمور في هذا الموقف من خلال الحوار السابق. نجد محمود تيمور يدافع عن موقف طارق عندما عصى أوامر الأمير موسى بوقف الزحف، من خلال الشجاعة واللباقة في الحديث والثقة بالنفس. وهذا مُخالف لكُتب التاريخ التي لم تصور أي قول أو دفاع من قِبل طارق أمام موسى. بل استسلم لمصيره ([23]). وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن الغرض الأساسي لكتابة هذه المسرحية، يتمثل في كشف الشخصية التاريخية لطارق بن زياد بأبعادها السياسية والاجتماعية والعاطفية. أي إضفاء ما أغفله التاريخ لشخصية طارق.
وإذا أردنا أن نتحدث عن توظيف الشخصيات التاريخية الأساسية في المسرحية، سنجدها متناقضة بعض الشيء. فمثلاً شخصية طارق نجدها في غاية التسامح، حتى مع الأعداء أمثال الكونت جوميز، وكذلك أسرى طليطلة. ثم تتناقض الشخصية بعد ذلك، لنجد طارق بن زياد قد أصبح فظاً غليظ القلب على أعوانه وقواده ([24])، بعد ما كان مُعتزاً بهم مُستمعاً لنصائحهم. كما نجده في بداية المسرحية مُطيعاً لأوامر أميره موسى بن نصير، ولكنه يعصاه في نهاية المسرحية. ويفسر تيمور هذا العصيان على أنه عامل شخصي، يتمثل في شعور طارق بالاستعلاء على أميره، ويتمنى أن تخضع له الأندلس ([25]).
والتناقض أيضاً أصاب شخصية يوليان. فقد لجأ إلى الأمير موسى - في بداية المسرحية - كي ينتقم لشرفه المسلوب من قبل لذريق الذي أهدر شرف ابنته فلورندة. وإذا به يدفعها دفعاً إلى مغازلة طارق ([26]). وهو الذي أغرى الأمير موسى وطارق بن زياد لفتح الأندلس، بعد أن زيّن لهما كنوز الجزيرة الخضراء وسهولة فتحها وذلك بمساعدته ([27]). ثم نجده يقول بعد استيلاء العرب عليها: "كنت أحسبها غزوة عابرة يعود على إثرها طارق وجيشه فرحين بالغنائم" ([28]). ويقول أيضاً مُتعجباً حاقداً من فتوحات طارق؛ مع أنه تنبأ بها في بداية المسرحية ([29]): ‘‘ أكنت تظن يا بدرو أن طارقاً ينتصر إلى هذا المدى؟" ([30]). ويصور لنا تيمور شخصية يوليان، بأنها نفعية وصولية تصنع أي شيء حتى القتل وتضحي بكل شيء حتى الشرف في سبيل الوصول إلى هدفها.
وهذا التصور مخالف للتاريخ؛ فقد جعل تيمور يوليان يعمل للانفراد بحكم الأندلس، من خلال قتل طارق. ولكن هل قتل طارق سيتيح له حقاً حكمها؟ وإذا قتل طارق بن زياد، فماذا يفعل يوليان أمام الأمير موسى وأمام الوليد بن عبد الملك، وأمام جيش المسلمين في الأندلس؟. والقارئ يندهش أمام تفكير يوليان هذا غير المنطقي. لأن طارق بن زياد في هذا الوقت - وقت التدبير لقتله - لم يكن قد أتمّ فتح الأندلس. وكان الأجدر بيوليان أن ينتظر حتى يستكمل طارق الفتح الأندلسي.
أما شخصية فلورندة فقد كانت من أقوى الشخصيات في المسرحية من حيث الثراء الفني. لأن الكاتب تفنن في رسم ملامحها، وتصرفاتها كما يحلو له. والسبب في ذلك أن كُتب التاريخ لم تذكر لنا إلا اسمها فقط ([31])، من خلال قصة اغتصاب لذريق لها. ولعل هذا هو السبب الأساسي لتحديد ملامح شخصيتها - في المسرحية - وكذلك دورها المحدد دون تناقض، الذي تمثل في حب طارق والإخلاص له ثم الزواج منه. وكان من الممكن لتيمور أن يجعل هذه الشخصية أكثر ثراء - من الناحية الفنية - في المسرحية، لو استغل ذلك الصراع المرير الذي كان يدور في نفسية فلورندة، بين حبها لزوجها طارق، وبين إحساسها بأنها السبب في انتحار أبيها. ولكن تيموراً اكتفى بالإشارة العابرة عنه ([32]).
ومما سبق يتضح لنا أن محمود تيمور أهتم بشخصية طارق بن زياد اهتماماً كبيراً. ولكن هذا الاهتمام قابله تناقض كبير أيضاً، في الشخصية. وهذا التناقض أشار الكاتب إلى أسبابه في المسرحية، من خلال الحوار التالي بين طارق وبعض الأسرى من القوط:
رجل من القوط: لك النصر يا سيد العرب ... يا سيد الناس!...
طارق: لست سيد العرب ولا عجم ... إنما أنا امرؤ يدين بقول الرسول عليه السلام: كلكم لآدم، وآدم من تراب ...
شيخ من القوم: قل ما شئت. ولكن فضلك لا ينكر، وعظمتك لا تجحد ... فأنت عظيم على الرغم منك !... وإنك لحميد الذكر في الحياة، وستكون حميد الذكر في التاريخ
طارق: حسبك يا صاحبي، فما أخشى على نفسي شيئاً خشيتي من التاريخ ... ماذا في التاريخ من حقائق ؟...
الشيخ: التاريخ كله حقائق ...
طارق: غلوت وايم الله ... التاريخ أقاويل، يتناقلها جيل بعد جيل، نصفها كاذب مختلق، ونصفها صادق صحيح، ويمر الزمن وإذا النصف الصادق الصحيح يعتريه التغيير والتبديل، حتى يلحق بالنصف الكاذب المختلق ..
ابن سيار: وهكذا يتبين لنا أن العلم عند الله ... والله أعلم ([33]).
ولعل هذه الفكرة كانت بسبب ما قرأه محمود تيمور عن شخصيات المسرحية، في كُتب التاريخ. وذلك قبل كتابة المسرحية، التي جاءت فيها تناقضات كثيرة -كما أوضحنا- سواء في الأحداث أو الشخصيات. فلكل كاتب وجهة نظر خاصة به، تتفق أو تختلف مع غيره من الكُتاب. ومن هنا أراد تيمور أن تكون له هو الآخر وجهة نظر في شخصيات المسرحية وأحداثها. وقد حاول فيها تفسير تاريخ فتح الأندلس من الناحية الفنية - لا من الناحية التاريخية - وقد أجاد في البعض وأخفق في البعض الآخر.
فقد أجاد في توظيف التراث، عندما أبان لنا بعض الجوانب الشخصية والاجتماعية والعاطفية والنفسية والسياسية لشخصية طارق بن زياد. وكذلك أجاد في تفسير التاريخ -تفسيراً فنياً - عندما أقنعنا بوجهة نظر طارق عندما خالف أوامر الأمير موسى. أما جوانب الإخفاق فتمثلت في تناقض شخصية طارق - كما أوضحنا - وكذلك في تصوير شخصية يوليان، عندما عكس المؤلف دورها الحقيقي والإيجابي إلى دور سلبي. عندما خان العهد وحاول قتل طارق، ومحاولته التضحية بشرف ابنته في سبيل الوصول إلى أغراضه. وكان أولى بالكاتب أن يحافظ على هذه الشخصية، كما جاءت في التاريخ. لأنها تؤكد على قوة الإسلام، ومحبة الأديان الأخرى وحُكامها للقادة المسلمين. والتبرير الوحيد للكاتب - من وجهة نظرنا - في هذا الإخفاق، هو استغلال شخصية يوليان وصورتها - كما جاءت في المسرحية - لتعضيد صورة طارق، وشخصيته كما أراد لها المؤلف أن تكون.
أما صورة الأمير موسى بن نصير، فقد اعتمد المؤلف على إبرازها - كما جاءت في المسرحية - على بعض روايات التاريخ التي تقول عن حسد وغيرة الأمير موسى من طارق بسبب شهرته وشجاعته في فتح الأندلس.
وكما قلنا: فلكل كاتب وجهة نظر فيما يكتبه. ووجهة نظر محمود تيمور في مسرحياته التاريخية ذكرها عندما طرح عليه أحد النُقاد سؤالاً قال فيه: إلى أي حد كان تأثرك بتاريخ العرب والإسلام في أعمالك؟. وقد أجاب تيمور قائلاً: "إني أحاول في هذه المسرحيات أن أصور الجانب الإنساني في هؤلاء الأبطال، وأمثل صراعهم النفسي والاجتماعي مع ظروفهم ومُلابسات حياتهم، مع عدم الإخلال بحقائق التاريخ، بل مع اكتشاف سرّ التاريخ في صور فنية أدبية" ([34]).
ومن الملاحظ أن الكاتب وفق في تطبيق هذا القول في مسرحية (طارق الأندلس) - كما أوضحنا. ولكن تاريخ كتابة المسرحية في عام 1966م، ونشرها في عام 1973م يثير تساؤلاً مهماً ..! لماذا لم تُنشر المسرحية فور كتابتها؟ أي في عام 1966م. وهذا التساؤل يثير تساؤلاً آخر: لماذا كتب تيمور هذه المسرحية، وهي من التاريخ الأندلسي منذ الفتح، أي منذ عام 92 هـ، بعد كتابته لمسرحية (صقر قريش) عام 1955م؟ ... وهي من التاريخ الأندلسي الوسيط، الذي يقع في الفترة ما بين (133هـ - 172 هـ : 731 م - 788 م). وكان من الطبيعي طالما أراد المؤلف الكتابة عن التاريخ الأندلسي، أن يكتب مسرحية (طارق الأندلس)، ثم يتبعها بمسرحية (صقر قريش).
وهذا التسلسل التاريخى - الذي نقصده هنا - فعله عزيز أباظة، عندما كتب عن التاريخ الأندلسي أيضاً. فقد كتب مسرحيته (الناصر) أولاً في عام 1949م، وهي تمثل التاريخ الأندلسي في الفترة ما بين (277 هـ - 530 هـ : 890 م - 961 م). ثم كتب مسرحيته (غروب الأندلس) في عام 1952م، وهي تمثل التاريخ الأندلسي في الفترة ما بين (868 هـ - 897 هـ : 1463م - 1492م). أي أنه التزم بالتسلسل التاريخي في كتابته لأعماله المسرحية. ومن الإجحاف أن نطالب محمود تيمور أو غيره بما قام به عزيز أباظة. فلكل كاتب ظروفه وحياته وإلهامه ومؤثراته وتأثيراته .... ولكن السرّ وراء إثارتنا لهذه النقطة هو أن نبين أن محمود تيمور كانت في نفسه فكرة خفية عند كتابته لكلتا المسرحيتين.
فالفكرة في مسرحية (صقر قريش)، تتمثل في استجابته "لما كان يدور في مصر في أوائل الخمسينات من جدل سياسي حول الإقطاع والأحزاب، ودواعي الفُرقة، والحاجة إلى أن يقوم في البلاد مُستبد عادل، يوحد أمورها، ويرفع الشقاق عن بنيها ويكسب لها دواعي القوة، وينشر في ربوعها ألوية العدل، فأخذ يبحث في كُتب التاريخ الإسلامي عن بطل يجسد في سيرته وأعماله، هذا الذي كان يدور في مصر من جدل. وقد وجد محمود تيمور طلبه في شخصية عبد الرحمن الداخل" ([35]). والقارئ لهذه المسرحية، يُدرك أن عبد الرحمن الداخل أو صقر قريش، ما هو إلا الرئيس جمال عبد الناصر. وكأن الكاتب أراد أن يُمجد الثورة ورئيسها في هذه المسرحية بالتزامه بقضايا عصره.
وكان محمود تيمور من دعاة الالتزام ([36])، والأدب الملتزم ([37])، ومن دعاة ثورة 23 يولية 1952م، والمُتغني في أعماله بما قامت به من مُتغيرات. لذلك يقول عن بعض أعماله في هذه الفترة: "وهناك بعض القصص الهادفة مثل مسرحية (المزيفون) التي تتناول الأحزاب السياسية في الماضي ... وقد أعددتها قبل الثورة .. ولم ترَ النور إلا بعد الثورة وفيها فصول كثيرة هادفة، وفي قصة أخرى من الأدب المُلتزم تكلمت عن الفلاحين في العهد الحاضر بالقياس إلى قرنائهم في الماضي وفيها ما يؤكد أن العهد الجديد بلا شك أحسن من العهد القديم" ([38]).
ويؤكد على ذلك د/إبراهيم عبد الرحمن، عندما قام بتحليل مراحل حياة محمود تيمور الفنية والأدبية، قائلاً -عن الفترة الأخيرة- منها: "ونمضي سريعاً مع نتاج المؤلف لنصل إلى المرحلة الأخيرة من حياته الفنية (وهي الفترة الواقعة بين سنة 1952م وسنة 1973م) لنرى تطوراً ضخماً قد أخذ يحدث في آرائه وأحداث قصصه وشخصياتها ومغزاها - تحت تأثير عاملين: سفره إلى أوربا وإطلاعه على التطورات التي أخذت تجد على الآداب الأوربية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية - وقيام الثورة المصرية، ثورة 23 يولية 1952م، وما أخذت تحدثه من متغيرات في الحياة السياسية والاجتماعية بما أصدرته من قوانين الإصلاح الزراعي والسياسي التي صاغت بها الحياة المصرية صياغة جديدة. وقد اتخذ هذا التطور، أو قل هذا التحول مظهرين، أحدهما نظري - يتمثل في تحلله من هذه المعتقدات التي كان يأخذ بها فنه في الفترة الماضية، وثانيهما عملي، يتمثل في هذه القصص التي أخذ ينشرها منذ سنة 1952م ويناقش فيها القضايا السياسية والاجتماعية من وجهة نظر ثورية" ([39]).
ومما سبق نقول: إن محمود تيمور قد أخلص للثورة، ورجالها في معظم أعماله التي كتبها بعد قيام الثورة. كما كان من دعاة الالتزام. وكان من الطبيعي أن يشعر بالراحة والطمأنينة والشكر على هذا الموقف الملتزم. ولكن حدث العكس. فقد كان يحس ويشعر دائماً بأنه ضحية الغبن والنكران. وأن السنين كانت تمرُّ عليه ببطء شديد. فانقطع عن الناس، واختار العزلة لنفسه. وكان يخشى الاندماج في الحياة ([40]). ولعل في ذلك يكمن السر في كتابته لمسرحية (طارق الأندلس). وأيضاً تكمن الإجابة على نشر المسرحية قبيل وفاته، وكذلك كتابتها بعد مسرحية (صقر قريش)، مخالفاً للتسلسل التاريخي.
فقد وجد تيمور أن التاريخ لم يُنصف طارق بن زياد، ولم يعطه حق قدره. فوجد في هذا، المعادل الموضوعي لما يمُرُّ به هو شخصياً. لأن المجتمع المصرى أو مجتمع الثورة لم يعطِ تيمور حق قدره أيضاً. رغم موقفه من الثورة والتزامه في أعماله بمبادئ الثورة. لذلك نجد تيموراً ينشر مسرحية (طارق الأندلس) بعد انتهاء عهد الثورة، وبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر. وكان من غير المعقول أن ينشرها وقت كتابتها عام 1966م.
والدليل على ذلك رأي محمود تيمور نفسه في الثورة، الذي ذكره في مقالة له - قبيل وفاته - بعنوان: صورة وصفية للرئيس أنور السادات، جاء فيها: "كان من الطبيعي لبلد عاش حقبة من حياته في صراع مع تجارب ثورية طارئة يرتفع بها وينخفض، أن يتقدم لها بعد لأي زعيم مُشرب بروح الوفاق فيمسك بالدفة إمساك ربان ماهر مُتجنباً هوج الرياح، مُتخيراً أسلم الدروب التي تبلغ الهدف المنشود: هدف الاستقرار .." ([41]). ولعل موقف مجتمع الثورة من تيمور، راجع - من وجهة نظرنا - إلى ارستقراطية تيمور وعائلته ([42]).
ومما سبق نجد أن محمود تيمور قد نجح في توظيف التاريخ الأندلسي، توظيفاً فنياً مقبولاً. فقد اقتطع من شخصيات التاريخ الأندلسي شخصية طارق بن زياد؛ التي لا تمثل في التاريخ سوى قيادة جيوش الفتح الإسلامي للأندلس، باسم الأمير موسى بن نصير. وشخصية طارق بن زياد لا تمثل أية قيمة في التاريخ، إلا داخل تركيب التاريخ الأندلسي نفسه ممتزجة بشخصية موسى بن نصير. ولكن محمود تيمور استطاع أن يوظف هذه الشخصية داخل الإطار الفني، وحدها، وبعيدة عن شخصية موسى بن نصير، كي يعبر من خلالها عن همومه الشخصية، وعن موقفه من الثورة وموقف الثورة منه. كما كان موقف طارق بن زياد من التاريخ، وموقف التاريخ منه. وبذلك وظف تيمور التاريخ، كي يعبر عن ذاته من خلال شخصية طارق بن زياد.
مسرحية (أميرة الأندلس) لأحمد شوقى
تُعالج هذه المسرحية فترة سقوط طليطلة في أيدى الفرنجة، والصراع بين الحُكام العرب على الإمارات واستيلاء الأمير حريز المُلقب ببطل الأندلس على قرطبة، من أيدي الظافر بن المعتمد بن عباد. وأخيراً استيلاء يوسف بن تاشفين - سلطان المغرب - على إشبيلية وأسر ملكها المعتمد بن عبد في مدينة أغمات.
ولكي يعرض أحمد شوقي هذه الأحداث، استعان بقصة حب بين الأميرة بثينة ابنة المعتمد، وبين شاب من أبناء البلدة يُدعى حسون؛ وذلك عندما تقابلت معه في سوق الكُتب بقرطبة، وهي مُرتدية ثياب الفرسان- مُلثمة - لا يعرف أحد هُويتها
ساحة النقاش