عندما توقف قلب الأديب الموسوعي (محمد لطفي جمعة)، عن نبضه في 15/6/1953، توقف بالتالي هذا السيل المنهمر من الكتابات الأدبية الثرية، التي خُطت بيد هذا الأديب. وصار أدبه في طيّ النسيان .. إن محمد لطفي جمعة له من الإنتاج المخطوط ما يفوق أضعاف إنتاجه المطبوع! وهذا التراث المخطوط، كان أبناؤه يتوارثونه الابن بعد الآخر أملاً في تنفيذ وصية والدهم بطبع هذه المخطوطات بعد وفاته، حيث قال الأب في مذكراته: " إنني منذ سنة 1940 - وهو تاريخ آخر ما نشرت من الكتب - عكفت على الكتابة وكففت عن الطبع والنشر وجعلت هذه المخطوطات أمانة عند أولادي، وقد أشركت بعضهم في تحضيرها وتدوينها، وقصدت بهذه المخطوطات - وهي أنواع شتى في الفلسفة والتاريخ والأدب والقصص والمسرحيات والمذكرات - إشباع رغبتي ونهمي في التدوين والانتفاع بالقدرة مادامت، والاعتراف بفضل الله عليّ بتمكيني من الدرس والتأليف فهذا نوع من العبادة والتمجيد لله والعرفان". وبمرور الأيام شعر محمد لطفي جمعة بدنو أجله، وبالتالي عدم تحقيق أمنيته في رؤية مخطوطاته مطبوعة ومنشورة، ومتداولة بين أيدي القراء!! فما كان منه إلا أن كتب وصية خاصة بهذه المخطوطات، في شكل خطاب أرسله إلــــــــى أحد أصدقائه - وهو محمد خالد صاحب جريدة الدستور - قال فيه : " أشعر بأنك الإنسان الوحيد في هذه الحياة الذي أستطيع أن أكتب إليه هذه الرسالة طالباً منه تنفيذ ما فيها على بساطته وسهولته .... شعرت بأنني مقبل على الانتقال من هذه الدنيا .... وعندي مسألتان لهما أهمية في نظري، الأولى كتبي التي جمعتها والمخطوطات التي أنجزتها على مدى سنوات طويلة .... فالكتب المطبوعة .... فأحب أن تتصرف فيها أنت بشخصك بأن تقدمها هدية إلى إحدى المعاهد العامة هبة بلا شرط ولا قيد سوى عدم تفريقها. المخطوطات التي جرت العادة بتسميتها مؤلفات مبالغة - أن تودعها أيضاً مكاناً عاماً كوديعة يتسلمها أولادي عند بلوغهم سن الرشد خشية أن تبعثر أو تباع بالميزان وقد يكون فيها ما ينفع أحداً من الناس". وبالفعل مرت السنون، وبلغ بعض الأبناء سن الرشد، وشرعوا في تنفيذ وصية أبيهم، وكانت محاولتهم الأولى في عام 1963، عندما حاولوا نشر المسرحيات المخطوطة. وعن هذه المحاولة يقول رابح لطفى جمعة: " أما المسرحيات المخطوطة فهي أعمال أدبية كاملة كنا قد تقدمنا بها سنة 1963 للجنة إحياء التراث بوزارة الثقافة والإرشاد لطبعها وإخراجها إلى عالم النور فظلت باللجنة أمداً طويلاً ثم استرددناها!!". كانت المحاولة الثانية، في عهد الرئيس أنور السادات، و" يحكى الأستاذ رابح إن الرئيس الراحل أنور السادات، رحمه الله، عرض على المرحوم زكريا لطفي جمعة - وكان عضواً بمجلس الشعب آنذاك - أن يوافيه بكتب والده لتطبع على نفقة الدولة، لكنه للأسف ترك هذه الفرصة تضيع". لم تتوفر أية فرصة بعد ذلك لأبناء لطفي جمعة، كي ينفذوا وصية أبيهم من خلال طبع ونشر مخطوطاته. وعندما آلت تركة هذه المخطوطات إلى الأستاذ رابح، بدأ في تنفيذها بصورة جدية. ففي عام 1975، أصدر كتاباً عن والده من خلال مذكراته. وفيه نادى بنشر مسرحيات والده المخطوطة، قائلاً : " الأمل معقود على القائمين على النشر وإحياء النهضة المسرحية أن تخرج هذه المسرحيات والتمثيليات إلى النور، فقد كانت إحدى أمنيات لطفي جمعة أن تطبع هذه المسرحيات وأن تمثل". وظل هذا النداء أكثر من خمس عشرة سنة، دون مجيب!! ولم ييأس رابح فأتبع نداءه الأول، بنداء ثانٍ - من خلال كتابه الثاني عن أبيه - عام 1991، قائلاً فيه: " ترك لطفي جمعة مؤلفات عديدة لاتزال مخطوطة وماثلة للطبع تعد ذخائر ثمينة في الدين والأدب والتاريخ والاجتماع والفلسفة والتصوف والسياسة والاقتصاد والقصة والمسرح والترجمة الذاتية .... والأمل معقود في أن تتحرك الهيئة المصرية العامة للكتاب ودور النشر عندنا لطبع هذه المؤلفات المخطوطة المتعددة الجوانب لهذا الرائد من رواد نهضتنا الفكرية والثقافية الحديثة، وتقديمها للجيل الجديد خدمة للفكر والأدب". وبكل أسف كانت نتيجة النداء الثاني، هي نفس نتيجة النداء الأول .. لا مجيب!! وظلت وصية لطفي جمعة تؤرق الابن رابح ليل نهار .. وبدأ تأثير الزمن يظهر عليه ويهدده وينذره ويدفعه إلى تنفيذ الوصية بكل وسيلة ممكنة، قبل فوات الأوان !! تزامن هذا الشعور مع ظهور أحمد حسين الطماوي، الذي قرأ وفهم ودرس تراث لطفي جمعة المخطوط، قبل أن تمسسه يد الآخرين. هنا قرر رابح أن ينفذ الوصية بنفسه ..!! فقد عكف على مخطوطات والده، بالقراءة والإعداد والتصحيح والتنقيح والمراجعة .. ومن ثم نشرها وطباعتها على نفقته الخاصة .. واستطاع في وقت قياسي أن ينشر أغلب تراث والده المخطوط، الذي لم يبقَ منه سوى القليل. هذا المجهود الخارق لهذا الابن البار، كان له محل تقدير واحترام من قِبل أعضاء لجنة الدراسات الأدبية واللغوية بالمجلس الأعلى للثقافة، وذلك من خلال تكليفهم لي بإعداد هذا المجلد عن مخطوطات مسرحيات لطفي جمعة، ليظهر في احتفالية كبرى يقيمها المجلس الأعلى للثقافة يوم 20/1/2001، تحت عنوان (لطفي جمعة أديباً موسوعياً). رحم الله محمد لطفي جمعة وأسكنه فسيح جناته .. ولتسكن روحه هادئة في قبرها .. فقد تم تنفيذ الوصية .. فإذا كان الله قد خلق رابح لطفي جمعة ليكون مستشاراً وأباً وزوجاً وإنساناً .. فهذا كله لا يعادل أن خلقه الله ليكون ابناً باراً حافظاً لتراث أبيه .. ومنفذاً لوصيته .. !! والله ولى التوفيق (من مقدمتي لهذا الكتاب في 30/12/2000). (ملحوظة: مات الابن البار المستشار رابح لطفي جمعة عام 2008 بعد أن أكمل نشر تراث أبيه !!)

sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 628 مشاهدة

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

815,108