«عيد ميلاد سيدة النبع» ديوانه الخامس عشر .
حلمي سالم يوحّد الشعر والدراما... تجريبياً
١٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦بقلم فاطمة ناعوت
يستفيد الديوان الخامس عشر في مسيرة الشاعر حلمي سالم الصادر حديثاً عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة» (القاهرة) وعنوانه «عيد ميلاد سيدة النبع». من «موتيفات» المسرح الشعري أو بعضها، مثل رسم الشخوص ووصف المشهد من إضاءة وديكور وموسيقى وجوقة... لكننا لا نستطيع أن نصنفه في خانة المسرح الشعري لأن الشخوص لا تتطور بذاتها كما في المسرح، لكن الشاعر يرصدها في لحظة تصدّع بعينها، وقد هشّم الزمن والتراتب الحدثي والخط الدراميّ المتصاعد الواصل بين أطراف هيكل المشروع منذ البدء وحتى المنتهى.
نجد بين أيدينا مجموعة من القصائد المنفصلة، كما في أي ديوان شعري، سوى أن خيطًا درامياً رهيفاً يربط تلك القصائد بنسيج محبوك يجعل من الديوان وحدة متكاملة تشبه المسرحية. واللعبة هنا أن القارئ بوسعه أن يقرأ كل قصيدة منفردة وبمعزل عن بقية القصائد فيخرج بمغزى شعريّ ما. أما اذا قرأ الديوان كاملاً بحسب ترتيبه الذي طرحه الشاعر فسوف يخرج بدلالة مختلفة حين تكتمل في مخياله الصورة المشهدية المتكاملة. وهذا ما يجعل الديوان يقف على الحافة الحرجة بين الشعر والمسرح الشعري. فهو تمكن قراءة قصائده منفصلةً ويجب ألا يُقرأ إلا كاملاً كالمسرح. كما أنه لم يتوسل موضوعتي السرد والحوار كما يفعل المسرح الشعري. لكنهما يظهران ويختفيان بين تضاعيف العمل كومضات تشحن الديوان بطاقة الدراما ولا تقول كل شيء، بل تترك القارئ يُكمل مناطق انقطاع الحكي ليكتمل المشهد. أما هدمه الحائط الرابع فلم يكن على النحو البرختي الذي يجعل القارئ مشاركاً في العمل، بل جاء بوظيفة أكثر مكراً وقسوة في آن واحد. فالقارئ، بمجرد أن يوغل في القراءة، سيحتّل رأساً مكان أحد الشخوص في العمل.
شرائح انسانية
ولا مناص من أن يرى كل قارئ نفسه في محفل سيدة النبع. لأن الديوان جمع كل الشرائح الإنسانية تقريباً فلم يدع ولم يذر. ولعلّ كل قارئ سوف يجد نفسه مرتين، أو يلتقي بنسختين من ذاته فوق خشبة الديوان لو اعتبرنا أن الحقيقة الفلسفية التي تقول إن نوازع الخير والشر كامنةٌ في كل روح بشرية. أما لو اعتقدنا في الحقيقة الأخرى الفلسفية/ الطبية التي تذهب إلى ان كل إنسان يحمل جينات الأنوثة والذكورة معاً (وهو ما جعل ليوناردو دافنشي يرسم الموناليزا بوجه يقف بين الذكورة والأنوثة)، لو قلنا ذلك فالقارئ سيجد نفسه مرات عدة، أو بالأحرى سيجد أجزاءً من نفسه متشظيةً ومنتثرةً هنا وهناك داخل كل قصيدة. سيجد شِقَّه الطيب وشقّه الشرير وشقّه الأنثوي وشقّه الذكوري، شقه الظالم وشقه المخدوع...
من أجل كل ما سبق لن نعرف أبدًا هل كان الشاعر صادقًا في مقدمة الديوان حين قال: «وينوّه الشاعرُ بأن الشخصيات في هذا النص هي الشخصيات الواقعية عينُها. فليتحسّسْ كلٌّ مِنا رأسَه. وليفحصْ واحدُنا نفسَه». لن نعرف هل يرصد الشاعر شخوصًا بعينهم قابلهم أم أنه يرصد ملامحَ إنسانية عامة مجرّدة ثم يُلبسها أجساداً بشرية لكي نراها؟ لن نعرف لأن الشعر الحقَّ لا يقولُ بل يرمي القارئَ في دائرة السؤال والتأمل وحسب، وهي أرفع حالات الإنسان وأجلّها. ومن أجل ذلك كان الشعر هو أرقى الفنون لكونه يضعك في تلك الحال من شحذ الروح والعقل. أما الشخصية المحورية في الديوان فهي «سيدة النبع». المثال. وربما اختارها الشاعرُ امرأةً ليكرِّسَ المذهب الفلسفي للأنثوية الذي يدعو إلى الانتصار لقيم الجمال والخير والعدل في الحياة، فهي: «حولَها يتحلّقُ الأطفالُ يلقطونَ من يديها المَّن والسلوى/ ويحملون ذيلَ ثوبِها باتجاه الفردوس». ولكن مهلاً.
هل رسم الشاعر هذه الشخصية على نحو كامل البيوريتانية باعتبارها المثال المطلق؟ كلا. لم يقع الشاعر في هذا الفخ، وحسناً فعل وإلا خسرَ الديوان الكثير. الأعمال الأدبية الكلاسيكية والحداثية المبكّرة، كانت تقسم العالم إلى خير وشرّ، أبيض وأسود. فيما النهج الحديث في الفنِّ بعامة يوظّف «النسبيّة» التي نوّرت العالم في مطلع القرن الماضي فراح الأدباء والفنانون يحاولون محاكاة العجينة البشرية العجيبة التي تنهل من الخير والشر والملائكية والإبليسية والأنثوية والذكورية بل والحيوانية والنباتية أيضاً.
الانسان والطبيعة
الإنسان يحمل كل جينات الطبيعة داخل جسده وخياله. ولهذا سنجد هذا «المثال»، المتمثل في سيدة النبع، لم ينج أيضًا من الخطيئة. ولأن للخطايا ألواناً وأنماطاً عدة، حتى أن الصمت عن الخطيئة هو خطيئة في ذاته، فقد ساهمت المرأة في نحت تابوتها الخاص. لم ينج المثال/ سيدة النبع من تصدّعات النفس، حتى ولو حملت الذاتُ الشاعرة بعض التعاطف معها إلا أنه سيقيم لها محاكمةً مُرّة في قصيدة بعنوان «تجديد محاكمة كافكا» في آخر الديوان، حيث السفرجية وعمال الإنارة والمسحراتي وفاتحو المندل وحاملات القرابين وغيرهم يقرأون عريضة اتهامها.
أما هي فتحاول أن تدافع عـــن نفسهـــا عبر مونولوغ شعري بالغ الجمال في قصيدة «مونولوغ سيدة النبع»، ثم: «أنا المعفيةُ من دمِّ المطعونين ومن دمي». يرسم الديوان حفل عيد ميــلاد سيدة النبع، ويرسم المدعوين على مائدتها. شخوص «سيجيئون فرادى» وآخــــرون «سيجيئون زُرافات» وبينهـــم السيدة المطعونة بمدعويها تارةً والرافلةُ في نعيمهم تارةً أخرى. فالمحفل يزخر بأعجب ما يمكن أن نصادف من تكوينات بشرية. ولذا فمن الطبيعي في عمل كهذا أن نجد الشِّعرَ يتأرجح بين القطع الموزونة خليلياً تارةً ومقاطع النثر الشعري أخرى، بين المجازات المحلّقة المتعيّن الملموس بين المونوفونية والبولوفونية، بين الساركزيم والكوميديا السوداء والميلوتراجيدي، بين الرعوية والمدنية. بين الفانتازيا والواقعية، وبيــن مجـــازات المشهد ومجازات اللغة ومجازات الدلالة الفلسفية. ولذلك لن نُدهش إذا ظهر الهمُّ السياسي وحرب العراق ضمن فقرات الحفل، فهو «حَفْلٌ» في المعنى المعجمي، أي أنه يحفل بالحياة ويحتفل بها وحافل بكل مفرداتها من همٍّ شخصي وهمٍّ جمعي وهمًّ قومي وكوني.
«لا بد أن شجرة هَوَتْ وأن عجوزًا لم يستطع الإفلاتَ من شظيةٍ/ وأن بقرةً أُصيبَ ضرعُها فانسكبَ اللبنُ والدمُ على رمل محترق/ لا بد أن عاشقاً لم تسعفه يداه على إبعادِ رصاصةٍ عن حَلْمَة المحبوب/ وأن مسؤولاً قيادياً فرَّ في مركَبة سوداء،...». ففي كل لحظة نعيشها ثمة مَنْ يُقتل وثمة من يخون. اللحظة الحاضرة الآنية التي هي فراغٌ بين عدميْن: الماضي والمستقبل، نحاسبها كمفردة تخصنا وحدنا (هي لحظةٌ حزينة إذا كنا حزانى، ولحظة فرح إذا كنا فرحين، ولحظة عدم إذا مرّت ونحن نيام أو موتى). لكنها في واقع الحال أكثر تعقّداً من ذلك.
شخوص مصدوعة
في قصيدة «سيجيئون فرادى» ترصـــد عين الرائي شخوص الديوان المصدوعة بالرذائل البشرية حين يدخلون مسرح الأحداث على شكل رؤوس مجزوزة ومعلقة في ربطات العنق. ثم يستمر الشاعر في قراءة أعماق هؤلاء المرضى والخاطئين الذين ينهشون سيدة النبع تباعاً. وبين لحظة وأخرى تبرق روح طيبة تتجسد في شخوص نقيضة للشخوص الأولى. حتى إذا اكتمل الحفل بات لزاماً أن تُحاكَم السيدة التي تواطأت مع جلاديها وناهشيها لتنال قصاصها هي الأخرى. في عمل كهذا يصحُّ أن تغيبَ «الذات» انتصاراً للحضور الكثيف «للمضمون». فهل هذا ما حدث؟ كلا. فالذات حاضرةٌ بقوة على رغم أن «الآخر» هو بطل الحفــــــل. إضافة الى كون العين الراصدة الشخوص هي «عين الذات»، نجد أن الذات حاضرة بصفتها جزءاً مـــــن كل المحفل البشري. فهذه البانوراما الأنثروبولوجيه من السِّعة والشمولية بحيث لن تفلت منها ذاتٌ، أي ذات. ومن ثم فالمحاكِم والمحاكَم والديّان والمُدان والقاضي والمجرم والقانون والعُرف والخروج عليه، كل ما سبق هو جزء من شخوص الديوان وجزء من نسيج الذات الشاعرة كذلك. أظن أن هذا الديوان هو تجربة جديدة في تاريخ حلمي سالم، بل وفي تاريخ الحركة الشعرية الراهنة. وليس هذا غريباً على شاعر يهوى التجريب كهدف وكوسيلة في آن واحد. فإذا قال النفريُّ: «فلتنسَ كلَّ ما تعلمت»، فإن الشاعر يجب أن يقول لنفسه طوال الوقت: فلتنس كلَّ ما كتبت.
ملاحظة
القاهرة - فاطمة ناعوت الحياة - 09/01/06