حلمي سالم يحوّل فانتازيا التاريخ... شعراً
فاطمة ناعوت
الديوان الرابع عشر للشاعر المصري حلمي سالم الصادر أخيراً عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر، ينتمي الى ما يمكن أن نسيمه تيار «الفانتازيا التاريخية». فهو يتكئ على معطيات التاريخ بعد صهرها في بوتقة الخيال, فيشتبك الواقع مع الجنون في جدلية فانتازية. شخوصُ الواقع تنسحب خارج دائرتي الزمان والمكان لتتحول عقولاً تتحاور, وتختلط مع صوت الراوية حيناً ومع الحدث التاريخي حيناً آخر لتستخلصَ الشِّعرَ من صرامة التاريخ وعبثيته. وهو لون من الشعر يرد على السؤال الخالد عن إمكان أن يكونَ الشِّعرُ ممسوساً بالأيديولوجيا من دون أن يستلبَ ذلك طاقة الشعر وجمالياته. فلا فنَّ يخلو من فكرٍ ووجهة نظر, إذ لا حيادَ صافياً في الوجود.
قصائد الديوان كتبها الشاعر في فترة سياحته بين ربوع فرنسا خلال عامين. ولعلّ تلك الحريّة الجغرافية أتاحتْ له شيئاً من الحرية التاريخية كذلك، إذ حاول أن يرفع عنه, للحظةٍ, أثقال الانتماء القوميّ العربيّ, وكذا أثقال التبعية الغربية أو حتى كراهيتها, في محاولة للتسامي فوق العِرق والهوية تمكنّه من الولوج في مساحةِ كشفٍ يفحص خلالها ما لنا وما علينا.
عنوان الديوان: «الغرام المسلّح» يُحيل إلى التباس علاقة الشرق بالغرب, هو غرامٌ منطوٍ على تحفّز, أو حربٌ يشوبها غرام: إعجابُ الشرق بعِلم الغرب وفيزيقيته المادية, وإعجابُ الغربِ بروحانية الشرق وميتافيزيقاه المُحلّقة.
في قصيدة «الشريان» يرصد الشاعرُ ذاك الشريان الملتبس الواصل بين الغرب/ المستعمِر والشرق/ المُستعمَر: «لكن الشريانَ الواصلَ بين الغاليين وهم يغدون أمامك ويروحون/ وبين القحطانيين وهم خلفك يندثرون/ ستفضحه عينا طفلٍ/ عُلّقتا بلسان كُريّم إذ يتدلى من مشنقةٍ». يتأمل الشاعرُ حملةَ نابليون على مصر ويستقطر الشِّعرَ من أحداثِها التي بدأت بغزو الإسكندرية وشنق حاكمها محمد كُريّم:
«لم يؤمن أن عناقَ الجُبَّة والقبّعة عناقٌ صعبٌ/ .../ وكان»إخاءٌ» مدموغاً في الماسورة/ و»مساواةٌ» في منشورات الطاعة/ و»الحريةُ» خُلخالاً في سُنبكِ كل حِصان/ .../ جاء المملوكيون وجاء اليوم السادس والكوليرا/ .../ وجاء الكورسيكيُّ الحالم/ كي يتركَ في الروحِ الولعَ وفي الحكم البونابرتيين الأحرارَ/ ووعياً ينقسمُ على الذات .../ تساءل نفرٌ: هل كان رجالُ المطبعة غزاة؟» (من قصيدة «نابليون»).
نسأل هنا: مَنْ وضع كلمة «استعمار» بدلاً من كلمة «احتلال» كترجمةٍ عربيةٍ لكلمتي Colonialism أو Imperialism؟ فجذر الكلمة الأولى colony يعني جالية تهاجر من أجل أن تقطن أرضاً غريبة, وجذر الثانية imperial يعني جندياً تابعاً للإمبراطورية الرومانية والفعل منها imperialize يعني ضمَّ أرضٍ جديدة الى تلك الإمبراطورية العظمى. لكن الاحتلال عادة ما يدخل البلاد بزعم «إعمارها», فهي الحُجَّةُ التي يطرحها الغازي ليبررَ دخولَه. بحسب منشورات نابليون: «الإخاء – المساواة - الحرية» ومساندة القيادة العثمانية هي رسالته في مصر (وليس عملَ قواعدَ عسكريةٍ يطل منها على مستعمرات بريطانيا في الهند!). والمفارقة هي وجود مفهوم «الإعمار» الإيجابيّ في المفردة العربية «استعمار», بينمالا تحمل المفردة الغربية «لغة الغازي» إلا المعنى الأصدق: الاحتلال والاستيطان الموقت, وكأننا من نخدعُ أنفسَنا بأنفسنا! لكن الشاهد تاريخياً أن كل احتلال لم يخلُ من إيجابيات. فالمطبعة دخلت مصر مع الحملة الفرنسية (1798-1801), وفكرة شقِّ قناة السويس كانت فرنسية, وحجر رشيد فكَّ رموزَه عالم فرنسي: شمبليون, وخطُّ السِّكة الحديد في مصر مدَّه الإنكليز أثناء الاحتلال. «الكورسيكي الحالم»: نابليون, إذ ينتمي إلى كورسيكا, إحدى جزر المتوسط التابعة لفرنسا وتعدّ أحد أكثر المعاقل اشتعالًا بالعنصرية والتوترات العِرقية الموجهة من الاستقلاليين ضد العرب الذين يمثلون أكثر من عُشر سكانها, فالإشارة هنا غير مجانية ولها دلالتها التي تخدم مجمل الديوان. هذا الشاب الغازي سبَّب انقساماً في وعي الأمة بين مفهوميْ التعمير والاحتلال. ويُلمحُ الشاعرُ إلى التشابه بين الثورة الفرنسية ضد الملكية عام 1792 وبين ثورة الضباط «الأحرار» في مصر عام 1952. الشعر هنا يقوم على استخلاص المقارنة بين ما هو شرقيّ وما هو غربيّ, ويبلغ حد المقارنة بين حبَّة القمح الفرنسية المروية بدم «أُذُن» الرسام فان غوغ وحبَّة القمح المصرية المرويّة بدم فلاحيها. كل قصيدة تتناول قضيةً موضوعية خارج إطار الذات. هل بالفعل خارج إطار الذات؟ وكيف يُرصد الموضوع في غير إعمال عين الذات وفكرها؟ هل ثمة إمكان عملي لفصلٍ حاسمٍ بين الذات والموضوع؟
في قصيدة «الطهطاوي» نجد الأخير يحاور نابليون, يباكيه هزيمةً بهزيمةٍ. فشلَ الطهطاوي في إشاعة التنوير في خَلَفه اللاحق مثلما فشل الغازي في استلاب فاتنته مصر. أما المتنبي فيباكي غاليليو فكلاهما خسرَ حياته من أجل فكرةٍ آمن بها. وتذكرنا تلك الجدليات الانهزامية بين شخوص تاريخية لم يرَ أيُّها أياً بجدال بورخيس مع ابن رشد في قصة «بحث ابن رشد» ومضاهاة فشل بورخيس في بناء روايته بلا شخوص تناسبها بفشل ابن رشد في إيجاد ترجمة مناسبة لمصطلحي»التراجيديا والكوميديا» عند أرسطو.
في قصيدتيْ «مرثية للعمر الجميل» و»السهروردي» يكشف لنا الشِّعرُ تناقضات الذات وانقساماتها على نفسها. فعبدالمعطي حجازي الثائر على طاغوت الجمود والإسمنت والسلفية سيتحول إلى محاربٍ للثوّار الجدد رامياً إياهم بالحرافيش: «واصلَ تعليمَ الأغرابِ/ تطوّرَ ديوانِ العربِ من التقليد إلى التحديث/.../ كانت ثورته العربية في باريسَ سراباً/.../ فلم يظفر منها إلا بالإسمنت/ ثَمَّ حرافيشُ القاهرة خفيفون/ فطاروا مصحوبين بلعنات الروّاد التاريخيين»، وقاهرُ الصليبيين الناصر صلاح الدين الأيوبيّ ستقهره أحاديةُ منطقِه فيقتل السهروردي الذي يقول قبل إغفاءة الإعدام: «لماذا لمْ يغدُ محرِّرُ بيتِ المقدس ليبراليّاً؟/ وأجاب: العِلّةُ في القلب». أما طه حسين فوضع يده على محنة العرب الحقيقية وهي الارتكان إلى امتلاك اليقين، ما يدفع إلى عدم إعمال العقل حتى فسدت فكرته التي نادت بالتعليم كحق مثل الماء والهواء: «يدعكُ عينيه لينزلَ من قاعهما الزيتُ الوسخُ/ .../ هنا مرَّ صبيُّ مغاغةَ يتأبطُ شرّاً/.../ الراحلُ يومَ الهولِ/ يرفُّ على شرفة ديكارت كطيرٍ/ أما صبيان مغاغة فاصطفوا خلف النعش يصيحون: اعتكرَ هواءُ الصدرِ/ تلوّثَ ماءُ الأفئدة». فشكُّ ديكارت هو السبيل لتحرير العقل من عقاله لينطلق في رحلته صوب المعرفة. وهنا فقط يسقط «وسخُ» الجهل من الأعين فتبصرُ ولو كان بها عماء.
«مُحترفُ حصاراتٍ/ لو مرّت سنةٌ من غير حصارٍ أرتابُ/ وأسألُ: هل صرتُ دجيناً لا يقلقُ أحداً؟/.../ جسدي جُهِّزَ لملائمة الأقفاصِ/.../ لو مرّت سنةٌ من غير حصارٍ أرتابُ/ وأسأل: هل صرتُ الراضي بالحسناتِ القانعَ بالسقفْ؟/ رِعشةُ شفتي العطشى رمزُ أمامٍ/ وثباتُ شفاهِكم الغضّةِ رمزُ الخَلْفْ» من قصيدة «المتصوف», وفي قصيدة «العرب»: «منهم فرجُ الحلو الذائبُ في الكبريت/ ومنهم بوحريد المكويْةُ بسجائر جيتان/ ومنهم عمرُ المختار.../ الأعرابُ المندرجون المطواعون ذوو العنَّة/ ليسوا دوماً مندرجين ومطواعين وعنينين/ ففيهمُ بعضُ خوارج». هكذا ساوى الشاعرُ بين جفافِ الشفاه عطشاً والتقدمية, وساوى بين الارتواءِ والرجعية, إذ للحرية والتنوير فاتورةٌ لا بد من أن يسددها العربُ على يدِ الأنظمة الفاسدة. فأنتَ حرٌّ بقدر ما أنتَ سجينُ زنزانة.
المرجعياتُ الثقافية في القصائد ستكون كعبَ أخيل «النقدي» ضد هذا الديوان. سيقول قائل إن شعراً كهذا موجّه إلى قارئ نخبويٍّ يعرفُ الحلاجَ ولورد كرومر والشبليّ وبروكلمان والسيداج، فضلاً عن الكثير الغامض من الأحداث التاريخي. ولكن منذ متى لم يكن الشِّعرُ نخبويّاً؟ ولماذا تُفتح المراجعُ للكيمياء والفلسفة وليس للشعر أيضاً على رغم كونه أرقى المعارف وأرفعها؟ ثم ونحن أمةٌ تعيش الآن, من أسف, مرحلةَ غروبِ شمسها الثقافية, ألا يحق لنا أن نتشبث بأهداب الثقافة وإعمال العقل في كل ألوان معارفنا وفنوننا ما استطعنا؟ أليس من حقنا الرهانُ على متلقٍّ نشطٍ غير سلبيٍّ يُكمل القصيدةَ واللوحةَ التشكيليةَ والقطعةَ الموسيقية ببعض المطالعة والبحث وبشيء من التفكير وإعمال الخيال؟
ينتهي الديوان بنشيد حزين تبكي فيه الموسيقى حالَ العروبة: «الطبالون حزينون لأن النايَ حزينٌ/ والنايُ حزينٌ من شدة ما باحَ وبُحَّ ومن طعنِ الحبْلى/ ومن الشهداءِ المتراصين كأسنانِ المُشط بلا جبّانات/ والجبّانات غدَتْ تمشي فوق القدمين/.../ لأن الطبالين حزينونَ/ وحزنُ الطبالين ثقيلْ».
الحياة - 2005/03/18