الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

أشعار الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

في ديوان حلمي سالم "عيد ميلاد سيدة النبع"

المغامرة شرط الرهان بالشعر

محمد أبو المجد

 

يُحسَب للشاعر موقفُه من المغامرة في الشعر وبه، ومقدارُ وعيه بتلك المغامرة قدرَ ما يُحسب له ـ أو عليه ـ مقدرتُه على التوزّع بين جماليات القصيدة وبنائيّتها ومحاورته لتفاصيل النسج الشعري وتفرُّده أو تميُّزه بين قرنائه بنسق خاص أو بطبيعة فنية مغايرة. والتجربة الشعرية بمجمل عناصرها مغامرة كبرى. فهي مغامرة ضد تاريخ عظيم من الشعر، وضد قناعات المجتمع الحاضن لها وما تعارف عليه، وضد النمطية والراهنيّة، وضد وعيٍ متراكمٍ، وضد ذاتها أحيانا. ورغم أن المغامرة تحتمل الخسارة أكثر من الربح، والمجازفةَ لا التنعُّم؛ إلا أن الشعراء الأكثر مغامرة والأقسى جنوحًا يظلون الأعلى قدْرًا والأحرَى بالتقدير لجرأتهم ومخاطرتهم بالشعر وبأنفسهم كشعراء، وهم في ذلك إنما يخطّون صفحاتٍ استثنائية من تاريخ الشعرية إجمالا.

أحد الأعمال الشعرية المغامِرة تلك هو ديوان "عيد ميلاد سيدة النبع" للشاعر الكبير حلمي سالم. وهو غنىٌّ عن وصفي هذا؛ لأنه شاعر كبير حقا منذ سطّر صفحاته الأولى في الستينيات، ومنذ أسس جماعة "إضاءة" ومجلتها في السبعينيات. إلا أن الأهم أنه بقي محافظًا برشاقة شعرية خاصة على كونه كبيرًا في الشعر المصري (وهو أمر يستأهل التقدير) وهو ينتقل من ديوان إلى آخر مبقيا على العهد الذي بينه وبين الشعر، وعلى حق الشعر عليه وحقه على نفسه. فدواوين حلمي سالم الأربعة عشر تشهد على ذلك، وتؤكد ثراء تجربة المغامرة لديه. تلك المغامرة التي تجعلنا لا نتوقع ملامح القادم الجديد عنده، ولا ما الذي ينوي أن تفاجئنا به.

في ديوان "عيد ميلاد سيدة النبع" يجمع حلمي سالم بين عدد من ملامح روح المغامرة الشعرية، وهي الملامح التي يعجز حجم مقالٍ كهذا عن التوسُّع في دراستها وإن استطاع أن يرصد أبرزها. وأول تلك الملامح هي تفعيل المغامرة من داخلها لا من ظاهرها وتحريكها لأن تصبح مغامرةً لفضح الواقع أو ما تحت القناع. وهنا يستخدم الشاعر من الوسائط والعناصر والتفاصيل ما يمكّنه من اجتياح تلك المناطق المسكوت عنها أو ـ عن فاعليها ـ والقبض على طواغيتها المتآمرين على الوجود والواقفين ضد ديمومة ممارسة هذا الوجود. وثاني تلك الملامح هو التوجه المباشر ضد أشخاص بأعينهم عبر الإشارة إلى نماذج بشرية وتسليط الضوء المفاجئ على وجوهها بغية تسجيل وقائع المعرّة الإنسانية الكبرى في زمنه. وهو يتوجه هنا إلى النماذج في علّتها لا في أسمائها، ولا في وجودها الفيزيقي، ولا في أدوارها، ولا حتى في واقعها المباشر. وإنّ غاية ما يُعنَى به الشاعر أن يخرج بالداء من عموم الجسد إلى علبة المهملات أو النفايات. وعبر إخضاع تلك النماذج لمعالجة شعرية فإن حلمي سالم لا يسحب تلك النماذج على الواقع الآنيّ بأسره، بل لعله يقوم بذلك ليحرض المجتمع ضدها ويحثه على إزاحتها أو نفيها؛ ليُطهّر ذاته تلقائيا وبشكل متواصل.

وثالث ملامح مغامرة حلمي سالم تلك هو تقديمه الديوان كبنية كلية تعمّد خلالها أن تكون ذات منهج في النسق العام للقصائد على مستوى الترتيب والتقديم لها وكذلك التذييل، وهو الملمح الذي تبناه الشاعر ليصبح سمتا عاما للديوان، ولبعض قصائده التي جاءت لتقدم منهجا بنائيًا للقصيدة التي تُفسّر بعد إيجازٍ، أو تحدِّد بعد إلغاز، أو توضّح بعد إعجاز. فنرى قصيدة ما ترصد لبعض النماذج (العلة) في مهدها، ثم تروح تفسر وتحدد وتخصّص سمات تلك النماذج واحدًا بعد واحدٍ بحيث لا ينصرف المعنى أو الفهم إلا إلى النموذج المقصود عينه (قصائد: سيجيئون فُرادى، عويل حاملات القرابين، سيجيئون زُرافات، نسْج القمصان أثناء مرور الجنازات). وفي جانب آخر فإن بعض القصائد صيغتْ ليتراءى بناؤها الشعري ومؤداها الوظيفي في عدد آخر من القصائد التي تنتهج نفس المنوال الشعري بحيث تصبح القصيدة فصلاً أولا أو ثانيًا في كتاب الفضائحية العصرية، أو تغدو مرآة ذات وجهين تنعكس عليها مآسي البشرية من هناك أو من هنا. كما قدم الشاعر قصائد المتواليات الشعرية، ووظّف النص المُمَسرح شعريًا داخل القصيدة، وضفّر بين القصائد الطوال والأخرى القصار بحيث يَخرج القارئ من جهاده مع قراءة القصيدة ـ وهو جهاد يوازي مجاهدة كتابتها ـ ليلتقط أنفاسه عبر قصيدة قصيرة (أو جهادٍ أقل). ومن ثم يستشعر القارئ أن الشاعر قصد إلى ترتيب الديوان قصدًا ما وكأنه يؤلف مبحثا أو رسالة في تاريخ أو حقبة أو زمنٍ ما.

ورابع ملامح الديوان شيوع حالة المزج الفني بين التفعيلة والنثر في قصائد الديوان، وبين مقاطع النثر التي ـ غالبا ما ـ يُصدِّر بها القصائد التي تتضمن الحالة المزجية تلك. وهي ترد في مجملها بما يضمن ألاّ يقع القارئ أو تقع عينه على فارقٍ ما بين جزء تفعيليّ وآخر نثريّ وبخاصة أن بعض تلك المقاطع النثرية يتخلل القصائد ولا يستهلّها فقط.

ولأنني أعتقد أن الكلام عن الشعر ضرب من التطواف حوله لا الولوج إلى أغواره، وأن كل حديث عن ديوان لا يرتفع إلى ما لقصائده من قدْرٍ؛ فسأحاول أن تكون قراءتي هذه ذكرًا لبعض ما ارتأيْتُه من قيمة هذا الديوان وقدْر صاحبه، وهي محاولة تسعى ـ في المقام الأول ـ إلى تأمُّل الديوان الذي يخطّط للإطاحة بنماذج فاسدة من صورة الراهن الحياتي عبر شن حملة من التعريف بحقيقتها وتسليط موجة من الغضب والسُّخط والتعرية والتجريس بهم ـ كما قال القدماء ـ لكي "يتحسس كل منّا رأسه" على حد ذكر الشاعر نفسه في تصديره للديوان.

ومن بين ما ساقه الشاعر في ديوانه (عيد ميلاد سيدة النبع) أنه لا وجود احتفائيًا فيه لعيد أو لميلاد أصلاً. فلا زهوة أو فرحة يمكن أن يتخيله المرء موجودا فيه، بل إن به حزنًا متعقّلاً وبكاءً متراميًا من عمق التاريخ ومأتمًا مُقامًا سبق أن حذر منه حافظ إبراهيم منذ ثمانين عاما عندما استشعر مصيبة الأخلاق التي يسوقها حلمي سالم علنًا في معناها الفلسفي وفي حضورها المتجرد كذلك. ومن ثم فقد سحب الشاعر هنا أبصار قارئي شعره إلى المفتقَد في حالة الفرح المعلنة أو المرفوعة في صدر الديوان عبر عيد ميلاد غيرِ مقام، ودعاهم إلى البحث في أسباب غيابه وإن ساق لهم بعض أسباب ذلك الغياب إسهاما منه في تخفيف جهد وعنت البحث. وصدَّر الشاعر ديوانه بتحية إلى أمكنةٍ أسست وساعدت على إنجاز الديوان، وأنهاه بإهداء شُكرِهِ إلى من أسماهم "الفنيِّين المساعدين". يقصد الذين صنعوا حضور وفاعلية الأمكنة المؤرخ لها في أوله. ولعل من شأن هذا القصد في البدء بعنصر المكان والختام بالبشر أن يصب في عُنصري الوجود المهمّيْن: المكان والبشر. وكلاهما يحتضن أزمة الشاعر في ديوانه هذا. أعني شيوع النماذج البشرية المحدَّدة صفاتُها وقسماتُها وأحيانا سيماؤها.

وإذا حاولنا رصدَ بعضٍ مما اجترح به حلمي سالم ما يتحصَّن به هؤلاء؛ فلسوف نلقى عنتًا كبيرا في حصرهم وفي تحديد هوياتهم، وإن كانت سِيما أغلبهم محددةً بصورة غاية في الدقة، إلا أنني سأسوق بعض من أحصاهم من باب أن ما يدرك كله لا يُترك جُلُّه، وهو ما فعله حلمي سالم ذاته في الديوان. ففي الديوان قصيدتان أراهما بارزتيْن ومِرْآويّتيْن. أولاهما قصيدة "سيجيئون فُرادَى" والثانية هي "سيجيئون زُرافاتٍ". ومن هاتين القصيدتين نستطيع ذكر بعض نماذج حلمي سالم المطرودة من جنته الشعرية. ففيهما: "الغندور المتلعثم، والجنرال المعطوب، والمتوكل (أو المتشاعر) ورئيس التحرير المتصابي، والشحرور ربيب الشحرورة، والفنان التشكيليّ ذو الغُرّة، والأكاديميُّ الأحْولُ، وأطباءُ التوليد الشرفاءُ!!، والبلاغيّون النُّحاة، وجمعيات السمسرة، والبتروليّون، وغيرهم.

وإذا شئنا تتبع أماراتهم أو علاماتهم الفاضحة (حسب رؤية حلمي سالم) فإننا سنحتاج إلى قراءة القصيدتيْن كاملتيْن، ولكن الإشارة إلى سلوكهم (وهم من يراهم الشاعر جزءا من النخبة العصرية المثقفة والمكوِّنة لوجه الحياة الآن) ستكشف لنا عورةَ مجتمع بأسره، وتحيطنا بهالة سوداء من الكآبة وتثبيط الهمّة والنزوع إلى الانزواء، وهي المآسي السيكولوجية التي يحذرنا الشاعر من مغبة السقوط في براثنها، أو الحَوْم حول حماها.

ولعل أبرز القواسم المشتركة بين جميع نماذج المعرة الإنسانية في ديوان حلمي سالم هي أنهم براجماتيّو النزعة، واستعلائيون، ومتاجرون بالأرواح، ومتقنّعون بواجهة التثقيف (العلمي والاجتماعي والأدبي والسياسي) فيما فعالهم تنطق بالدنيّة والحقارة، إضافة إلى أن بعضهم متأنِّث أو مترقِّق ومتنازل عن خِلقته الرجالية، وبعضهم الآخر مدَّعٍ للحكمة والكهانة أو السلطة والثراء، ولكنهم جميعا ينطلقون من منطق نشر الفساد الكوني وتحقيق الخراب البشري الكامل.

وإذا استعرضنا تفصيليًا أحد هؤلاء المفسدين الكونيّين كالجنرال المعطوب وجدناه مندرجًا تحت ميكروسكوب حلمي سالم ضمن فصيلة تشريحية خاصة، ويتمتع بصفات لا تغادره.

"فهو الفاتن والمفتون، المتأني، دوبلير الخال ودوبلير العم ودوبلير الأنموذج، خريج معاهد تقدير الموضع للرِّجْل قبيْل الخطو، ومخترع التؤدة في نسج الأنشوطة، خصم الرفقاء المضمَر، كاهن قداس الأحد، منسّق نظريات الخفية، لبلاب الشعر، المحترم، المأساوي اللابد، ثاني اثنين إذا انكمشا أو فردا في غار الدس، الحاكم والمتحكم والمحكوم، حكيم المقهى في شرق العاصمة، يسير كفاروق، يتفقد سرب المفتونات بساقيه، ويتهيأ للإغفاء".

ويرى حلمي سالم أن جميع هؤلاء المفسدين الكونيّين مُدرَجون كأعضاء في "جمعيات السمسرة" التي لا تخلّف وراءها (حسبما تصوِّرُه نهاية قصيدة "سيجيئون فرادى") سوى الخراب والعفن. "كانت ربطات الأعناق تطير على الأسطح، في الربطة رقبة صاحبها المجزوزة عن جثمان السيد يقطر منها الشحم الأسود والدمّ المتجلّط وبقايا العفن المتناثر عن جُثث ضمّخها روثُ النفس".

ومن القصائد البارزة في ديوان "عيد ميلاد سيدة النبع" ما يُكوّن متتاليةً أو كونشيرتو شعريًا يتتبَّعُه القارئ بين القصائد الأكثر طولا وهي قصائد: اللوح ـ المعاهدة ـ يرثون الأرض. وهي تتميز بالقِصَر النسبيّ، وتبدأ كلٌ منها بجملة فعلية متكرّرة تتكوّن من فعل ناسخ واسمِهِ وخبره، وتنتهي إلى مفارَقة أو مغايرةٍ ما تعيد للموقف حميميته الإنسانية التي عادة ما يفتقدها النص أو يبحث عنها، حيث تتعلّق بأشياء أكثر حميمية من تأزّم الديوان بالهم البشري الخاص أو المحلي أو القومي وهو الرابط الذي يربط هذه القصائد الثلاث غير ظاهرها البنائي والأسلوبي.

وفي الديوان كذلك قصائد قصارٌ تجدر الإشارة إليها لأن كلاً منها منفردًا يحمل شأنًا شعريًا أحاديًا يدعّم الموقف الشعري العام في الديوان. ومن هذه القصائد: خدشة الفخِذ ـ لا تُحتمل خفّته ـ شرخ الحوائط. كما أن به قصائد عُنيت بالهم القومي العربي وأطلت على أزمته الراهنة من العين ذاتها التي ارتأت الملمح الفني الموازي لملمح الديوان نهجًا لها. فإذا كان العراق جُرحًا مفتوحا حتى اللحظةِ، فإن حلمي سالم أعاد إنتاج تلك الأزمة في قصيدة "غزول" على خلفية المعرفية الثقافية المشركة بينه كشاعر وبين الناقدة العراقية فريال غزول. وهي المعرفية التي يوظف فيها الهم السياسي والعسكري للعراق بالهم الأيديولوجيّ والثقافي والوجداني والشعري والنقدي متسائلاً عن جدوى الفعل الشعبيّ والنخبويّ العربي في مقابل عمليات "التفكيك" التي تعم محافظات العراق. والمحك نفسه يتكرر في قصائد أخرى مع اختلاف التيمات الفنية المضفّرة لنسيج كل نص على حدة. ففي قصيدة "باتع السر" تُصبح ملامسة الحبيبة (في إحدى لحظات الصفو الوجداني) مقابلاً لفعل النزال أو الأسر أو الخلاص من الغزاة، بينما يتحول حصاد التراث الثقافي العربي (قديمه وحديثه) إلى أرضية صُلبة لإنقاذ "المقهورين" حتى وإن ماتت جحافل وراء أخرى دفاعا عن الأرض كما في قصيدة "تراب"، أو عندما يستنجد بأئمة الأمة ويستعيدهم ليُبِينوا سبل الاستنهاض من العثرة في قصيدة "المهزومون".

ولعل قصيدتي "عويل حاملات القرابين" و"تجديد محاكمة كافكا" من بين القصائد الأكثر تأكيدًا على أزمة العصر الثقافية التي يقدمها الديوان على ملأ لعله يتداوى أو يَزَّكَّي.

فقصيدة "تجديد محاكمة كافكا" تعيد صياغة العلاقة بين المرأة والمجتمع على أساس من العدل المطلق والحرية اللا مشروطة، فتقدم شكلا من أشكال التقرير لاذع السخرية من راهن وضعية الفتاة أو المرأة. وهي إحدى قصيدتيْن في الديوان اهتمتا بالمرأة بشكل مباشر (والأخرى هي قصيدة "مونولوج سيدة النبع"). ففي المحاكمة يعدِّد الشاعر حلمي سالم قائمة الممنوعات اللا نهائية ويقارن بينها وبين هبة المباح المحدودة والمقنَّنة؛ ليتكشّف الواقع على مأساة العزلة القَسْريّة التي تمارسها المجتمعات أو أربابُها على المرأة أو على الجنس الآخر. فإذا فضضْنا الاشتباك الحادث في القصيدة بين قائمتي المباح والمحظور، وأعدنا ترتيب القائمتيْن لأذهلنا حجم المشكلة ولأعيتنا الحيلة. فمن المحظورات على البنتِ "اللعبُ بأغطية الكوكا كولا، ومخالطة الجيران، ومجالسة الأب المتبسّط، وقراءة رأس المال، ولبسُ الشورْتْ، وفكُّ الشعر، والشُّبَّاك، وفيلم السهرة، ونزار قبّاني، وماجدولين، وإظهار السمّانة، والقمر، والسوتيان، وإدراك الآخر"، في مقابل إتاحة: "الأكل بميعاد، والدرس، وحفظ النظريات، وتلاوة ياسين، وتربيع الطاعة، واللبن الطازج، والسير على المنوال، والكَمْشَة في الركن، والرعب من الرغبة، والبهجة بالقفص، وبَذّ الأقران، وتنزيه الأهل، والموت بميعاد".

فإذا صارت البنت زوجةً (أي امرأةً) أضيفت قائمة جديدة من المحظورات المناسبة لطبيعة المرحلة في حالتها الراهنة، وفي امتدادها القريب والبعيد، وتلك هي: "الاستغراق في الحُلم، وتفحُّص عذوبتها في الليل، والتودُّد للغرباء، وتقبيل الابن، والتحدّث في الهاتف بفرحٍ، والتحرُّر من رِبقة إحسان المحسن، وبناء عش في الأحلام، والانتفاض على كونها ذيلاً (التهميش)، وفضح كيان الأسرة، والتأوُّه في المصيدة" (أو ذل الأسْر) مقابلَ أن تتمتع بـ "معاشرة الزوج، والتقيُّؤ بعدها، والرضا بالحبس، والمساومة على متعتها، وأن تَطعن نهديْها نظير الحرية، وتُشبعَ وهْم الإبداع وترجعَ كالعَبْدة، وأن تجدَ تجلِّيَها في المشتريات!!".

والملاحظ أن الخطاب الثقافي لهذه القصيدة أنه لا يرصد فحسب الفارقَ العدديَّ بين المباح والمحظور، وهو محسوم لصالح المحظور، وإنما يفنّد طبيعته وآثاره النفسية والاجتماعية والطبقية على المجتمع في صورتيْه المحلية والكونية، ورغم أن القصيدة تُوجّه لومًا إلى المرأة بوصفها هي التي "صنعت بيديها ذلك التابوت لتعيش فيه ـ ميّتة ـ منذ ولادتها حتى موتها؛ إلا أنها تؤكد على أن الأنثى المفطورة على الحنوّ والحَدْب ظلت ـ رغم ذلك ـ واهبة الرأفة واللِّين لبني آدم، فسُقط في يديها، وجنت العزلةَ جزاءً للإحسان.

أما قصيدة "عويل حاملات القرابين" فهي مشهدٌ انقلابيٌّ ضد موقف الإنسانية الفاسد في العصر الراهن، وهي واحدة من قصائد قليلة تتوسل بالمسرح لمعالجة قضية المرأة شأنها في ذلك شأن "محاكمة كافكا". وهي تدشِّن مشهدًا عبثيًا في استلهامها لطبيعة الأحداث (إن تمثيليًا أو واقعيًا) لنرى أشباهَ بشرٍ ناقصي الخِلقة أو مبتوري الأعضاء، وليصبح المسرح كله مشاركا في التراجيديا الكونية، فيكتشف المشاهد (القارئ هنا) أن حاملات القرابين لسن سوى نديمات ومعشوقات وشريكات الآباء المؤسّسين لمنظمة الفساد الكونيّ الذين يشيعون في الكون خرابا. فواحدة منهن محظيّة الجنرال المعطوب، وأخرى أخت الغندور المتلعثم، وثالثة عشيقة رئيس التحرير المتصابي، ورابعة خادمة خوّانة، وخامسة حليفة الكيانات السلطويّة، وجميعهن متفقاتٌ على المشاركة الفعالة والإيجابية في التخريب الكوني؛ ليصبحن أمهاتٍ مؤسسات في جمعيات السمسرة من أجل الفناء. كما أنهن يتّسمن بنفس السمات المقبوحة التي يتمتع بها قرناؤهن من المفسدين، وهو ما يمكن تصوُّره كحزبٍ تخريبيٍّ ناهض على سلب جميع المزايا عدا "أرغفة الخبز سابقة الأكل" على حد قول حلمي سالم.

ومن دلائل قصدية الترتيب الداخليّ لقصائد الديوان أن هذه القصيدة توسّطت قصيدتيْ "سيجيئون فُرادى" و"سيجيئون زرافات"، وأنها جاءت من نفس البنية الشعرية لقصيدتيْ "فرادى وزرافات"، وأنها تناوبت معهما الحديثَ عن الإخلاص والتفاني في الفساد وُسْعَ الطاقة وبنفس المنهجية التخريبية الناخرة في الضمائر والذمم.

إن حدود المغامرة الشعرية عند حلمي سالم لا تقف عند الخطوط الوهمية الفاصلة على خريطة الإبداع، أو عند ما اتُّفِقَ عليه من نهاياتٍ لمساحة التنقُّل بين أمكنة الشعريّة وأزمنتها، بل هي تجربة تقتحم مناطق مدهشةً حين نظن أنها ستركن إلى العاديّ، وتفاجئنا بأبنية غير معيارية عندما نتوقع منها اجتلاء آفاق حداثية لتجربة ما. وفعل المغامرة ذلك هو أعلى انحرافات التجربة الفنية استثارةً لكوامن الإبداع واستنفارًا لاستجابة المتلقي، وهو ـ في اعتقادي ـ الأقدرُ على البقاء والتميز والارتقاء بالشعرية الراهنة.

 

 

 

 

 

 

 

 

saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 72 مشاهدة
نشرت فى 1 نوفمبر 2013 بواسطة saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

saydsalem
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

111,557