الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

أشعار الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

«الشاعر والشيخ» مجموعته الجديدة ... «مجاز» حلمي سالم... سيد اللعبة

محمد علي شمس الدين

 

قد تكون الغاية الجمالية في الشعر أقصى الغايات، واللذة التي ما بعدها لذة، والمتعة الإبداعية التي هي جسد وروح، أو هي ما لا يفسّر من النشوة الإنسانية بالإبداع، حتى ليكاد يكتفي بها الإنسان، ويكاد ينشدها دون سواها. وهي غامضة كامرأة جميلة وغامضة، ليست لها ذرائع، ولا تخدم إلا ذاتها وكأنها المحبة التي قال فيها جبران «إن المحبة تكتفي بالمحبة»، ما ينزع عن المتعة الشعرية الكثير من الغايات والذرائع، خارج المتعة نفسها، فهي من القوة والخصوصية بحيث انها قادرة على ان تصهر في أتونها السياسة والمجتمع والفلسفة والتاريخ، وكل شيء، لتجعله زيتاً لنارها السرية.
هذه المتعة هي ما ننشده في الشعر كتابة وقراءة. وهي ما عثرنا عليه في الروح الشعرية لحلمي سالم في مجموعته الجديدة «الشاعر والشيخ» (آفاق للنشر والتوزيع، القاهرة)... وهي مبثوثة بين السرد والوزن، ووراء ظواهر الكلمات والجمل، وداخلة في أساس المجاز لديه. فالمجاز في الديوان هو سيد اللعبة، وهو مولّد هذه الرموز المتكاتفة والإشارات والإيماءات والحيل، وشفراتُ القصائد تقطع في أكثر من اتجاه، كما انها تتوالد من مناخ الخوف والتقيّة من جهة، لتصبّ في مجرى خطير من الدلالة والتحدي والكشف.
كتابة حلمي سالم في «الشاعر والشيخ» كتابة ملغزة. فهي ذات رموز وإشارات ولها ظاهر وباطن، وشبيهة بإشارات الدعوات السرية السياسية أو الدينية. لقد سبق واستعمل إخوان الصفا معجماً فلسفياً وسياسياً خاصاً بهم، وذلك تضليلاً منهم للسلطة السائدة في المعنيين السياسي والديني، وأخذ بعض الشعر العربي الحديث هذه الطريقة بسبب الخوف السياسي والديني، من طريق الاستبدال والإيماء والرمز والحيلة الإبداعية. فالرموز الموغلة في القصائد مصدرها التقية الإبداعية، وهذه بدورها مصدرها الخوف من بطش ما، يأتي من سلطة ما سائدة في سلطات المجتمع، يأتي على صورة مقاضاة مثلاً، دعوى من دعاوى الحسبة، مساءلة امام الأمن، سؤال عمّاذا تقصد بقولك: «يا مريضة تمشي الى الكسر كمشية الإسكندر/ وتدخل المستشفيات كعابري قوس النصر/ أنا حرفُكِ المعتلّ/ أنا تلميذ آمون/ أنا صبيّ النطاسيين سأحط ريشة من يمامة يتيمة على ذيل قطّ أسود محروق فوق حروف مهشّمات من قوانين حمورابي...». (من قصيدة «مشية الإسكندر»). وحين تتدخل سلطة ما غير شعرية، لتطرح على الشعراء اسئلة عن مرامي ألغازهم وحيلهم وطقوسهم في الرمز والكناية والاستعارة، فإن مواجهة حتمية تقع بين الطرفين. إنّ طقوساً كهنوتية للكتابة الشعرية، على غرار ما مر في المقطع السابق، لن يبقى منها سوى ما يرسخ في المتعة الجمالية للقصيدة، إذ لا يستطيع شاعر أن يفلّ سياسياً أو رجل شرطة أو صاحب عمامة أو قلنسوة أو سبابة مرفوعة بالاتهام، بشعر غارق في إشكالات الرمز واحتمالات الألغاز، ومعميات الكلام. حتى لو اقترح الشاعر ان يقدّم تقنية شعرية مبتكرة، لشرح رموزه بما يوازيها من رموز، على ما فعل حلمي سالم، فإن هذه الشروح بدورها ستكون مدعاة لشروح أخرى. وهكذا يكون الأمر لغزاً يدور على نفسه الى أبد الدهر وأبد اللغة. ونسأل هنا أين العامّة والآخرون؟ يقول حلمي سالم في قصيدة «البقع الزرقاء»: «معاني المفردات: / الجثة: الأحباب الذين كنستهم الكوليرا/ الجناة: هايدلينا/ الشرطي: وزير داخلية الكنانة/ شارع زكريا أحمد: الرصيف الذي قالت عليه وحيدة: أنا الملعونة.../ «تفسير الاستعارات: «ينبغي ان نلجأ الى مذهب الرمز/ فنمنح الأماكن التي يلتقي فيها العاشقان اسماء بديلة/ حتى لا يعرف جواسيس الحاكمية/ أين يشتعل الفؤاد بالفؤاد...». ويسمّي ذلك «خطة الأسماء البديلة». هكذا، يقول: «سوف نوسّع المجاز في مصر الجديدة».
وفي قصيدة «اسماء مستعارة» يقول: «لا بد من حيلتين كي ينجو الغرام: الأولى ان نضع عروسة صغيرة في مركز الدائرة ونلفّ حولها بالمزامير موقّعين... والثانية ان نعطي الجماعات التي ننتمي إليها اسماء مستعارة نسمّي إخوان الصفا: حديقة الأندلس/ ونسمّي المعتزلة: الشهاب المؤرّق/ ونسمّي السرياليين: علم الرياضيات/... نعم يا حبيبي نعم/ وبهاتين الحيلتين/ سوف نوهم الضبّاط أننا نؤيد التوريث باعتباره طوق النجاة».
ونسأل: ما الفارق بين البيان السياسي المكشوف، والقصيدة؟ وما الفارق ايضاً بين كتاب صادق جلال العضم «نقد الفكر الديني» الذي تمت مصادرته في حينه، وأحيل من اجله الكاتب الى المحاكمة، وبين قصائد حلمي سالم؟
ونجيب: الفارق هو فارق المتعة الشعرية، فارق الإبداع لصالح الشعر. فليس للشاعر ان يكون (في شعره) داعية سياسياً، أو ناقداً (في شعره) للفكر الديني... ذلك ان البيان الواضح العبارة، غير المكتنز بالرموز والإشارات والحيل الإبداعية، هو أكثر جدوى وأكثر إصابة... من القصيدة البديل المثقلة بحمولة الرموز.
نعود الى المتعة الإبداعية في قصائد «الشاعر والشيخ». إنها قائمة على مرتكزات ثلاثة: المرتكز الأول التجاء الشاعر الى البداية الأولية للحياة، حيث الناس والحيوان والنبات «أمة واحدة» كما قال حسن عبدالله. نشاهد ذلك في قصيدة «نباتات»: «مرّت رياح على القلب فاستيقظت مواضع الندبات» والإحالة الى حي بن يقظان في القصيدة إحالة الى الفلسفة البدائية للإنسان في الطبيعة. نعثر على هذه «البدائية» الجميلة ايضاً في قصيدة «البلح» وقصيدة «التين والزيتون» وأماكن أخرى متفرّقة من المجموعة. هذه واحدة والثانية تقطيع السرد الشعري النثري، بمقاطع موزونة يوردها الشاعر كمقاطع إنشاد أو غناء أو إيقاع. فغالباً ما يقطع السرد أو يوقفه بالإنشاد: «هَيْتَ لي/ وهَيْتَ لكْ/ نولُك استجار من نسيجك المكينِ/ من ترى في ربكة المقام قتّلكْ؟/ مصيرنا المشترك في طينك الطريّ هامَ فيكَ ثم شتّلَكْ/ الشقيق كان مدقعاً/ لا مُلك في يمينه/ وحينما رأى سناء عينِكَ امتلكْ/ والهوى الذي أصابني أصاب مهجتيك ثم قتّلَكْ/ هَيْتَ لي وهيْتَ لكْ».
يلاحظ ان هذا المقطع على وزن وتفعيلة، وتفعيلة «مفاعلن» ضبطت المعنى الشعري وحسّنت نسل النصّ. إلا ان السرد الذي يغلبه النثر في قصائد الشعر، غالباً ما يُخفّفُ بوزن خفيف، ولكنْ ينقصه الانتظام. ولعلّ الشاعر يسعى الى ما قاله ت.إس. إليوت: «هناك لا بد من وزن خفيف في الشعر، يستيقظ كلما ثقل السرد، وينام كلما خفّ السرد».
هذه الثانية، أما الثالثة فهي كثرة الطقوس والرموز والإحالات والتوريات في القصائد، ما يمنع احياناً لذّة المكاشفة. وما أقصده بالمكاشفة هنا، المكاشفة الشعرية وليس أي شيء آخر.

saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 95 مشاهدة
نشرت فى 1 نوفمبر 2013 بواسطة saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

saydsalem
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

109,903