البــــــــارودي ..«مول» السيف والقلم
حلمي سالم
«سكن الفؤاد وجفت الآماق،
ومضت علي أعقابها الأشواق،
لا الدار دار بعدما رحل الصبا،
عني ولا تلك الرفاق رفاق».
هكذا حدث محمود سامي البارودي نفسه قبل أكثر من مائة عام، ولم يكن يدري أن صوره المجازية الشعرية ستتحول إلي واقعة مفزعة ثقيلة بعد أن تدور الأيام دورتها القاسية ويمر العابرون أمام بيته هذه الأيام فيرددون كلماته «لا الدار دار بعدما رحل الصبا عني ولا تلك الرفاق رفاق» فقد حملت لنا الأنباء مؤخرا أن ثريا من الأثرياء الجدد «سائق ميكروباص» اشتري قصر محمود سامي البارودي، وهدمه ليقيم مكانه «مولا» تجاريا ضخما.
ومحمود سامي البارودي «1838-1904» هو أحد قادة الثورة العرابية «1881» ورفيق أحمد عرابي في الوطنية، كان وزيرا للحربية ثم رئيسا للوزراء بعد ثورة عرابي وبعد فشل الثورة نفاه الإنجليز والخديو إلي جزيرة سرنديب مع القادة العرابيين ليقضي ثمانية عشر عاما يعود بعدها إلي مصر بإفراج الخديوي عباس حلمي وقد ذهب بصره وذهبت صحته ليموت بعد أربع سنوات من عودته من المنفي عام 1904.
«رب السيف والقلم» هذا هو اللقب الذي أطلقته عليه الحياة المصرية آنذاك نظرا لأنه كان قائدا عسكريا وشاعرا ومثلما لم يكن قائدا عسكريا عاديا «إذ حارب في تكريت وفي روسيا وغيرهما» لم يكن -كذلك- شاعرا عاديا، بل هو الشاعر الذي يصنعه التاريخ النقدي في طليعة مرحلة الإحياء والبعث التي استعادت للشعر العربي ديباجته المتينة وحضوره المكين بعد مرحلة الضعف والانحطاط التي عاشها في العصور الوسطي السابقة.
البكاء علي الأطلال
قصر البارودي تحفة معمارية وجمالية نادرة من تحف عمارة القرن التاسع عشر يقع أمام مبني محافظة الجيزة علي رأس الشارع الذي أخذ اسم «البارودي» بمنطقة الهرم مساحة القصر وحديقته تبلغ أربعة آلاف متر وهو مسجل في سجلات المجلس الأعلي للآثار تحت بند «قصور ذات قيمة تاريخية» اشتري سائق الميكروباص القصر من حفيدة البارودي بعشرين مليون جنيه، ودفع رشوة قدرها ربع مليون جنيه لثلاثة مهندسين برئاسة حي العمرانية لكي يصرحوا للمشتري بهدم القصر وفي ثمان وأربعين ساعة تحول القصر إلي أطلال تنعي ناظر الحربية لم يتحرك أحد من المسئولين في وزارة الثقافة أو المجلس الأعلي للآثار أو محافظة الجيزة أو رئاسة الوزراء.
فإذا تأملنا الواقعة قليلا وجدناها غاصة بحفنة من الجرائم: حفيدة البارودي التي باعت، المشتري الذي جمع العشرين مليون جنيه من إذلال الركاب وحشرهم كالسردين في صناديق متحركة قاتلة «أو ربما من سبيل آخر أسرع إثراء»، المهندسون الرسميون المرتشون، المحافظة التي لم تر ولم تسمع ولم تتكلم، أهل المنطقة الذين شاهدوا البلدوزرات تقوض ما بقي من تراث المحارب الشاعر، ولم يتحرك واحد منهم من أجل خاطر أحد قادة الثورة العرابية وأحد رواد النهضة الشعرية في العصر الحديث، ثم هيئة الآثار التي تتفرج علي المسرحية كمشاهد محترف.
وهدم قصر البارودي بالبلدوزرات ليس أول وقائع تدمير الآثار التاريخية أو تركها تعشش فيها الأشباح والعنكبوت، فهي عادة ثابتة: قصر البارون، التحفة المعمارية الرائعة بشارع صلاح سالم، الذي بناه لنفسه البارون إمبان، باني حي مصر الجديدة، درة مهجورة يمرح فيها الظلام والخراب، قصر شمبليون، بشارع شمبليون وسط العاصمة، بناه الفرنسي شمبليون الذي فك رموز اللغة الهيروغليفية ومن ثم كشف الحضارة المصرية القديمة للعالم، قصر الأمير يوسف كمال بالمطرية.
والقصر حافل بمقتنيات فنية نادرة تمثل ربع الآثار الموجودة بالمتحف الإسلامي، كما يقول سمير غريب رئيس جهاز التنسيق الحضاري، القصر مهجور والمقتنيات تسرح فيها الصراصير والفئران.
قصر الأمير سعيد حليم الذي تحول إلي مخزن لوزارة التربية والتعليم، قصر مبني مجلس قيادة ثورة يوليو «تموز» الذي تحول إلي ركام من الكراكيب علي شاطئ النيل.
هذه القصور متروكة مهجورة لأن هيئات عديدة -رسمية وأهلية- تتنازع علي ملكيتها أو الإشراف عليها ونتيجة النزاع هي أن يظل الأثر علي ما هو عليه تنعق فيه الغربان.
أما هدم قصور أعلام الأدب والفن والثقافة وتحويلها إلي فنادق أو «مولات» فقد حدث «قبل قصر البارودي» مرات عديدة أشهرها: قصر يوسف وهبي بالجيزة الذي هدم وأقيم مكانه فندق «شيراتون» وفيللا أم كلثوم بالزمالك التي هدمت وقام مكانها «فندق أم كلثوم».
ومن الطرائف المرة في فيللا أم كلثوم أن رجل الأعمال الذي اشتري الفيللا وأقام الفندق أراد أن يظهر أنه يتيمن باسم أم كلثوم وأنه يحب الفن الأصيل فسمي الأجنحة والقاعات بأسماء أغاني أم كلثوم: سويت «إنت عمري» وقاعة «الحب كده» ومسبح «فات الميعاد» ومطعم «فكروني» وكافتيريا «سلوا قلبي» وهكذا دمر الأثرياء الجدد أم كلثوم أربع مرات: مرة حينما اشتروا منزلها ومرة حين هدموه ومرة حين بنوا فوقه فندقا ومرة حينما استثمروا صورتها وأغانيها في جذب الزبائن والسياح والنزلاء.
وربما يفعل سائق الميكروباص الذي هدم قصر البارودي شيئا من ذلك في المول الذي سيبنيه، فتري: محل شنط «الثورة العرابية» ومحل أحذية «سرنديب» ومحل ملاءات «الإحياء والبعث» ومحل سراويل «غربة وحنين» (عنوان إحدي قصائد البارودي).
منذ ثلاث سنوات احتفل المجلس الأعلي للثقافة بمصر بمرور مائة عام علي رحيل البارودي احتفالا ثقافيا كبيرا ولو أن واحدا من المحتفلين نبه إلي ضرورة صون بيت البارودي، فربما كنا تفادينا هذه الكارثة الثقافية والأخلاقية كأن يقول: صونوا البيت الذي قصده البارودي حينما قال من منفاه: «وكيف أنسي ديارا قد تركت بها،
أهلا كراما لهم ودي وإشفاقي،
إذ تذكرت أياما بها سلفت،
تحدرت بغروب الدمع آماقي».
من هو البارودي؟
هذه إذن واقعة تنطوي علي ثلاثة معان مؤسفة:
الأول هو أن السلطات الثقافية أو الوزاية المعنية بالحفاظ علي الآثار التاريخية غائبة عن ا لوعي والواجب ثم إنها -في حالات كثير- تشارك في الكارثة بتسهيل الهدم والبناء نظير «رشوة» معلومة.
الثاني هو أن الأثرياء الجدد، الذين طفوا علي سطح الحياة المصرية في العقود الثلاثة الأخيرة بطريقة طفيلية مريبة لا يعنيهم التاريخ أو الوجدان القومي أو رموز الحضارة بل إنهم يحتقرون ذلك كله ويسخرون منه.
الثالث هو أن هستيريا المول والفندق تكتسح الحياة المصرية بديلا عن الثقافة والفكر والفنون علي عكس الرأسماليين السابقين الذين كانوا يبنون المصانع ويبنون ستوديو مصر ويرسلون البعثات إلي الخارج علي نفقتهم الخاصة ويبنون كلية الفنون الجميلة إن الفارق بين الحالتين هو الفارق بين الرأسمالية الأصيلة ورأسمالية قطاع الطرق.
والسؤال الآن: لو علم البارودي بما سيفعله أحفاده المصريون في منزله هل كان سينشد من منفاه بيته الحزين التالي: «أحن إلي أهلي وأذكر حيرتي،
وأشتاق خلاني وأصبو لمألفي»؟.
في التحقيقات الجارية حول هذه الجريمة سأل المحقق مسئولي محافظة الجيزة التي تقع أمام القصر مباشرة: لماذا لم تتدخلوا لإنقاذ قصر البارودي؟ فأجاب المسئولون: نحن لا نعرف من هو الباروي أصلا.
لا ريب أن طيف البارودي سيمر كل مساء علي قصره الذي سيصبح مولا تجاريا ضخما ويتمتم في شجن حزين.
لا الدار دار بعدما رحل الصبا عني،
ولا تلك الرفاق رفاق»
وإذا حانت منه التفاتة إلي عنوان المول سيجد عنوانه: «مول السيف والقلم».
الأهالي المصريه