زوج ابليس
من وحي الضحايا
" صدى ليلة ثلجية الأشواق ، بدئت بحنين الجسد وانتهت بأنين الروح "
هذه دارُها وتلك رُباها = نمّ عنها شميمها وسناها
هذه دارها تنادي غريبًا = عن حماها ما شامها أو رآها
هذه دارها وقد أمر الليْـ = ـل أخاهُ الشيطان أن يرعاها
فأتى دون ناظري فطواه = وأتى دون ظلّها فطواها
***
هذه دارُها وقد كان عهدي = بسواها ألاّ نُضاعفَ جَهدي
ما لرجليّ تشردان عن النهْـ = ـجِ كاني مشردٌ يتجدي
ما لكفّيّ أُسقطا ويح جدّي = أيّ دار أذمّها اليوم وحدي
شاهَ وجهُ الشيطانِ مالي أراه = يتلقّى عزيمتي بالتّحدّي
***
عجبًا هذه مهاةٌ تذوبُ = في أكُفٍّ تسليمها تشبيبُ
كلما دق ساقها رقص النهْـ = ـدُ وفاحت من جانبيها الطيوبُ
وإذا شاقها المنام دهاها = من وراء الحجاب صوتٌ غضوبُ
أذكرينا أنضاءَ جوعٍ وسُهد = وتناسى أن الطعام ذنوبُ
***
شغلتني بروحها الغلابِ = عن حريقٍ يشب في أصلابي
ورمتني بنظرة ثم قالت = ما رأينا سواك من هيّابِ
هذه الدار لم تهيّأ لغيري = من ضحايا الندمان والأحبابِ
لا تخيّب رجاء شاةٍ رماها = عاصفُ اليأس في محيط الذئابِ
***
وإذا بي أجيب كفا بكفِّ = وألبّي بضمّها صوتَ حتفي
أحسبُ الدار تستحيل عُبابا = ثائر الموج من ظلامٍ وخوفِ
أو يَباباً تزمزم الجنُّ فيه = وتُرى العين رقصةَ المتشفّي
وأرى الحائط المُغيّب في الظلْـ = ـمة شطًّا يُبدي الظلامَ ويُخفي
***
قلت يا هذه أنيري طريقي = جفّ حلقي فما يندّيه ريقي
وإذا همسةٌ ممزّقة الج = س صداها كهمهمات الغريقِ
أيّها الطارق الغريب تمهّلْ = إنّ عهدَ الأيّام غيرُ وثيقِ
ها هنا قصةٌ يُمثّلها البؤ = س على مسرح الهوى والرحيقِ
***
ما ترى ذلك الخيالَ الملثّم = غاب في خاطري الدُّجى وتكتّمْ
تلك أُمّي ولست أعرف أُمًّا = ولدتني والدهرُ بالسرّ أعلمْ
عثرت مثل عثرَتي بصُخُور = فوقها زورقُ الحياة تحطّمْ
ثمّ أمست ذكرى شباب وحسنٍ = تُلهم الدمع أن يذل فيسجُمْ
***
أنا في دارها أعيش غريبه = وتراني فيها كأني نسيبه
عقدتني بها من الحظّ قُربى = فكلانا من أختها محبوبه
غير أنّي أعولها وأرجّي = لشبابي من الحياة نصيبه
قبلَ أن يذهب الشباب وأبقى = وأنا من سحر الشباب سليبه
***
حيّها حيّها فقلت سلاما = يا بنةَ الليل والطلا والندامى
وتضاحكت مُطرق الرأس فكرًا = في جمالٍ عافَ الحياةَ فناما
يا بنةَ الليل حدّثي لا تُراعي = ربّما فسّر المنامُ المناما
نحن ألغاز ساحرٍ عبقريٍّ = جعل الموتَ للحياة لزاما
***
ثورةٌ في جوانحي ليس تهدا = وخيال يُفني الكوارث عدّا
أيُّ غيبٍ ضمّته تلك التهاويلُ = وأيُّ اليومين أطيب وردا
أهو يوم الميلاد ينضح بشرا = أم هو اليوم يُطعمُ الأرض ولدا
ذاك سرٌّ علمته حين راحت = تتعزّى وخلتها تتحدّى
***
قال لي صمتها وقلت لصمتي = كيف مالت بك الليالي وملتِ
أي شيءٍ من لياليك سوى = ضجعةٍ وحلمٍ مشتّ
أين ولّى عنك الصبا وهو سوقٌ = للغواني كسبنهُ وخسرتِ
وأتاكِ المشيبُ وهو جدوبٌ = نفخت فيك روحُه فذَبُلتِ
***
وتمثّلتُ وجهها محرابا = لعيونٍ تحسو الفناء شرابا
من بقايا أُذنينِ ملاّ الدعابا = وبقايا خدّين عافا الخضابا
وهنا معبد الشفاه أحالَتْهُ سمو = م الدّخان قفراً يبابا
والبلى ناشرٌ جناحَ غرابٍ = ظنّه الناسُ شعرَها المُنْسابا
***
أيّ كون محجّبُ الأسرار = خلف عينيك يا بنةَ الأقدار
كم رعيتِ السمار أشباح جنٍّ = تتخفّى عن واعظِ الأبصارِ
قُيرَ السحر في الجفون وماتت = نظرات الإغراء للسمارِ
قبر السحرُ في الجفون ونامت = فوقهنّ الأهدابُ كالصّبّارِ
***
زوج إبليس وهو كالنّفس عبدٌ = وإلهٌ لأنفس لا تُعدُّ
حدّثيني عنه فقد كان عقلي = يصطفيه إذا جفاني زهدُ
مثّلته أَجسادكنّ جمالاً = فهو فيكنّ شائعٌ لا يُحدُّ
كلما جاع ملهمٌ أشبعتهُ = قبلات الهوى وروّاه شهدُ
***
أيّ روحٍ ألقت عليّ هداها = حينما خلتُها ستفغرُ فاها
قلتُ هذا حديثها سوفَ تحكيْـ = ـهِ وكم في شبابها قد حكاها
يوم كانت ألفاظها تتثنّى = رقّةً لم يبلغْ رحيقٌ مداها
وإذا باليقين يعصفُ بالشّكِّ فتهْـ = ـوي على يدي راحتاها
***
خفق النور خفقة المرتاع = فعرفتُ الوداعَ قبل الوداعِ
ملءُ كفّي ورأسُها يتداعى = وعناءٌ عليّ هذا التداعي
إيه يا ربُّ ما عصيتُك جهلا = بلْ صغارًا من شقوتي واندفاعي
فاجلُ عنّي الظلام كيما أرى الموْ = تَ نجاءً من قبضةِ الأطماعِ
***
وعطت نحو مسمعي بعظام = رُكّبت بين صدرها والهام
وأسرّت إليّ أنْ حصحص الحقُّ = وخابت شماتةُ اللّوّامِ
لا حلالٌ ولا حرامٌ ولكنْ = راحةٌ من متاعب الأيّامِ
فإذا الجسم في طريق التّدنّي = وإذا الروح في طريق التّسامي
***
أشفقت بنتُ دارِها من ذُهُولي = ورأتني كحظّها المخبولِ
فنضتْ ثوبَها وقالتْ عجيبٌ = أمرُ هذا المتيّم المجهولِ
ما لِكفيّيْه لا تحسّان كفّي = وهي بعضٌ من حُسنى المبذولِ
ويْحها لا تَدري الفجيعةَ إلاّ = يوم فُقدانها حفيف الذيولِ
***
قلت يا من سقطت في الناس قدرا = سخِرَ الموتُ من نواياك طُرَّا
هذه أُمُّكِ الحبيبةُ قد ما = تَتْ فَشُقِّي لها بصدركِ قبرا
فأفاقت من غشية الإثمِ هونا = وعوتْ صرخةً تساقِط جمرا
فصحبت الظلام طائف ليل = لم تشاهد عيناه من قبلُ فجرا
***
وتخطّيتُ ساحةَ الأجسادِ = جامدَ العين مُستكين الفؤادِ
أيُّ ذنب جَنَيتِهِ أيّ ذنب = حين خلفتها بلا إسعادِ
ما تراها تقول إذ فقدتني = خدنَ همٍّ وُرُودُه من قتادِ
حسبُها قاسم الحظوظ وحسبي = بعد حينٍ ندامة الزُّهادِ
***
وعرتني سكينةُ الأمواتِ ورثتني مدامع الحسراتِ
وسمعت الشيطان يلقي بسمعي = طرفا من آياته الخالداتِ
لا تلم من تعيش في كنف العر = ض فقد آدها صراع الحياةِ
ربما ضمّ شامخٌ مومسُ النّفْـ = ـسِ وفي وجهها حياءُ فتاةِ
1945
شعر: صالح الشرنوبي