أوهام
[إلى لحني الشارد]
يا أيها الشاكي جفاه الرّقادْ = والدمع ذوب القلب في جفنِه
هذا هو الليل فحي السهادْ = ونادم الذكرى على دنّه
* * *
هذا هو الليل طواه السكونْ = في بردة لفّاء كالطّلسَمِ
لم تحترقْ إلا بنار الشجونْ = وزفرة المُلْتاعِ والمُغرَمِ
* * *
وسدْتَ آمالك بطن الثرّى = ولم توسِّد رأْسكَ المُثقلاوأظلمت دنياكَ مما جرى = وأوشك المدبر أن يُقبلا
* * *
أصبحت كالنجم طواه الأفول = ولم تزل منه بقايا شعاعْ
تهيمُ في الأفق عَراها الذهول = وعمرها رهنٌ بكفّ الضياعْ
* * *
الحب والأحلام في ناظريك = لمعُ سراب شاع في مَهْمهِ
والشعر والأنغام في مِسْمَعيْك = دنيا من الحرمان لاتنتهي
* * *
ضاعت لياليك على فقرها = من راحة القلب وصمت اللسانْ
ثم مضت نجواك في إثرها = صبابة تُلهِبُ كأْس الزمانْ
* * *
هذا الزمان الطِفْلُ في لهوهِ = أعمقُ فكرا من حجا الفيلسوفْ
حُرِمتَ ما تشتاق من صفوهِ = وعشت فيه كخيال يطوفْ
* * *
تسير مقهورًا إلى غاية = مجهولة المبدإ والمنتهي
وكم أراك الدهر من آية = أحالت المجفو كالمُشْتهي
* * *
الكون مسدول عليه ستار = من ظُلمة الغيب الذي لا يبينْ
يصارع الليلَ عليه النهار = والدهر يحتثُّ خُطَى الراحلينْ
* * *
يا للرياض الوارفات الظلال = تضمّ أفوافَ الزهور الرطابْ
لا يعرف الزّنبقُ معنى الكلالْ = ولا رضيعُ الطير معنى العَذَابْ
* * *
أتى عليها بعد صيفٍ شتاءْ = ومن ربيع العيش جاءَ الخريفْ
لم تستطع دفع عوادي الفناءْ = المارد العاتي لديها ضعيفْ
* * *
يا للقفار الثائرات الحزُون = المجدبات الساكنات السهول
الليل فيها مذبحٌ للمنون = والصبح فيها مسرح للذهول
* * *
ضفافُها ما ينسجُ الناظرُ = من ذروة أو غيلة أو فضاءْ
يسبق فيها القدم الخاطرُ = والحيّ والميتُ لديها سواءْ
* * *
ما بالُها لا تشتكي من جدوب = ولا يُذلّ الوحش فيها الظليمْ
الصوت صوت من شجٍ أو طروب = والريحُ ريحٌ من صبًا أو سَمُومْ
* * *
يا أيها الشاكي وقلبُ الدجى = حانٍ على الساهد والساهده
طارت بألحانك ريحُ الشجى = ولم تَغِبْ عنك رؤى الجاحده
* * *
تلك التي ضنت بنبع الحياهْ = يروي رياض الأمل الوارفِ
حال اسمُها الحائر بين الشفاهْ = خُرافةً في قصة الزائفِ
* * *
وأنت والكون بما يحتويه = تضيق بالكون وبالكائنينْ
وتحسب القفر الذي أنت فيه = جناية الميلاد والوالدينْ
* * *
رحماك ما هذا الذي تدّعي = إلا خداع اللهفة الجائعهْ
فاذهبْ إلى خالقك المبدعِ = وغنّه الأنشودة الضائعهْ
* * *
أنشودة الشك الذي لا يني = يوقظ فيك الثورة النائمهْ
ويطلق الألحان في الأرغنِ = فتستضيءُ الفكرة القاتمهْ
* * *
وتسبح الأوهام في كونها = مخبولة كالشبح الشارد
هي التي ربّتك في سجنها = فتُهتَ عن سوق المنى الكاسد
* * *
تعيش للفانين عيش الزّنيمِ = وأنت أنت السيد الآمرُ
في ملكك العلويّ فوق السديمِ = تحنو على أربابها عبقرُ
* * *
وحدتك الخرساءُ رمز الإله = وعمرك التائه سفر الزمن
وصوتك الباكي عليه صداه = قيثارة مفتونة بالشجن
* * *
ما للرياض الوارفات الظلال = وما لهذا القفر في عالمكْ
أنت الذي يعيش فيه الخيال = بضحك كالمجنون في مأْتمكْ
* * *
رفقا فلن يشقى بك اللاّحد = إن أنت أثقلت أكفَّ النّعاه
هذا القضاء القاهر الخالد = حتم على كل ضحايا الحياه
* * *
عيشك؟ ما أحلى وما أنظرا = إن أنت لم تأْسَ على الفائتِ
مضى ...فما أحراك أن تقبرا = ذكراه في مضجعها الصامتِ
1944
شعر: صالح الشرنوبي