الراهب: الأصل والفصل (2)
حلمي سالم
أنجبت "الراهب" للحياة العامة شخصيتين, كان أهلها يفخرون بهما: الشخصية الأولى هي المغنية شهر زاد, صاحبة "إديني من وقتك ساعة" و "عسل وسكر" وغيرهما.
والشخصية الثانية هي الفريق محمد الليثي ناصف, قائد الحرس الجمهوري أيام السادات والذي قام بدور بارز إلى جوار السادات في نجاح انقلاب 15 مايو 1972, الذي قام به ضد المجموعة الناصرية في الحكم, التي اسماها "مراكز القوى", وبعد ذلك بسنوات قليلة قيل إن الليثي ناصف انتحر في لندن بالقفز من طابق شاهق, وهي طريقة الانتحار التي تكررت بعد ذلك مع سعاد حسني التي قيل أنها انتحرت بالقفز من طابق شاهق في لندن. ثم تكررت مؤخرا مع أشرف مروان..سكرتير السادات للمعلومات. الذي قيل أنه كان عميلا مزدوجا لمصر وإسرائيل. والغموض الذي أحاط بهذه "الانتحارات" الثلاثة, جعل الكثيرين يعتقدون أنها لا يمكن إلا أن تكون "بفعل فاعل"!.
عبد الرحمن عبد ربه سالم, ابن عمي عبد ربه, شقيق أبي, كان يكبرني بحوالي عشرة أعوام (في عمر أخي الكبير عبد العزيز) خريج المدرسة الثانوية الصناعية, قسم الزخرفة, وكان ينقش "الصواني" الزجاج التي تقدم عليها المشروبات بنقوش ملونة بديعة للأسرة ولأهل القرية. وحين صار "مدرس أول" في إحدى مدارس القرى المجاورة, كان يمدنا كل يوم بكتاب من مكتبة المدرسة التي يعمل بها شريطة أن نعيده له في اليوم التالي ليرجعه إلى مكانه في المكتبة. وكنا – محمد فراج وأنا – نلتهم الكتاب الذي كان رواية في الأغلب, في نفس الليلة, أو الليلة التالية, ليعيده عبد الرحمن إلى مكانه.
هذه الفترة هي التي قرأنا فيها معظم روايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي. كان النزع الرومانسي متغلغلا فينا في تلك المرحلة, حتى أننا كنا نبكي مع يوسف السباعي في "فديتك يا ليلى" و "بين الأطلال" و "نادية" و " رد قلبي".
بعد ذلك بسنوات, عام 1978, مات عبد الرحمن فجأة, شعر بألم في رأسه, وظل الأطباء في طنطا يعالجونه على أساس أن الألم راجع للبرد (بسبب ركوبه الدائم للموتوسيكل). وحينما كشف عليه خيري السمرة (أستاذ المخ الشهير) قال: سرطان في المخ, لابد من عملية جراحية في التو, والتكلفة ألفان من الجنيهات, ألف قبل العملية و ألف بعد العملية. قبض الجراح الألف الأولى, ودخل العملية, وخرج منها وقد مات عبد الرحمن. ورفض السمرة أن يتقاضى الألف الثانية.
كان موت عبد الرحمن ذروة من ذرى التراجيديا في حياتي لم يكن عمره حينئذ قد تعدى الأربعين. وكان فكها مهزارا هياصا إلى درجة تبعث البهجة والمسرة في كل من حوله, فلا تستطيع أن تتخيل أن هذا الشخص الممراح سيموت سريعا, وقد ظهر ذلك التأثر, بعد ذلك في قصيدة لي في ديوان الثناء على الضعف "2007" بعنوان "عبد الرحمن":
"زخرفته على صواني المنازل
دروسه الخصوصية لي في سادسة أول
دراجته على جدار مدرسة الصنايع.
الرجل الذي لم يعرفني
لمجرد ورم خبيث أصابه في المخ".
ومن عجائب الحياة أن تمر السنوات, ويصاب خيري السمرة نفسه, أستاذ أساتذة السرطان, بالسرطان ويموت, عام 1998 تقريبا, وكتبت قطعة في نفس الديوان "الثناء على الضعف" بعنوان خيري السمرة:
"يعرف حرائق الكيمياء
يعرف مناورات الخلايا
ثم يرجع عشرين عاما
ليرى نفسه في غرفة العمليات
يستأصل من مخ عبد الرحمن
موطن الداء.
لماذا يكره الكيمياء هذه الليلة؟
ويرجو زملاءه الأطباء:
"قولو لي:
الجراحة ناجحة
لكنك ستموت
هذه الجملة, بضاعتي ردت إلي".
كان عبد العزيز فهمي شندي من جيل وأصدقاء أخي الكبير عبد العزيز, يكبرني بأكثر من عشر سنوات, كان أشقر, حسن الطلعة على طريقة الممثل حسين فهمي, بعد أن تخرج من المعهد الزراعي بشبين الكوم (قبل أن يتحول إلى كلية الزراعة بعد ذلك) أتته بعثة إلى ألمانيا, وأظنه (فيما أذكر) كان أول شاب في القرية يسافر في بعثة علمية إلى الخارج, ولذا كان يوم سفره يوما بهيجا في القرية كلها. ما زلت أذكر "البوت" الأسود الذي اشتراه قبل سفره لأن ألمانيا برد وثلج. بعد عودته من الخارج دخل الجيش, ضابط إحتياط, ومكث في القاهرة. في نفس الوقت توظف في القاهرة أخي عبد العزيز بعد حصوله على دبلوم الزراعة (في شركة النيل العامة للطرق والكباري), وتوظف في القاهرة كذلك جلال عباس, زوج أختي ملك (الذي صار بمثابة أخ كبير آخر لي) بمصنع في مسطرد. وسكن الثلاثة معا في شقة صغيرة في شارع الجيش بباب الشعرية, يملكها الحاج إبراهيم الشبيني, قريب أبي, والخال المباشر لجلال, وكنت في الأجازات الدراسية أذهب معهم إلى القاهرة بضعة أيام, ومعهم شفت القاهرة لأول مرة. وشفت شكري سرحان على المسرح (وكنت في الصبا, وأظنني لا زلت, من عشاق شكري سرحان) في مسرحية "آه يا ليل يا قمر" مع سهير البابلي وعبد الحفيظ التطاوي. كانت المسرحية من تأليف نجيب سرور, وهي الجزء الثاني من "ياسين وبهيه" التي كنا محفظها في القرية عن ظهر قلب, ونردد بين أنفسنا بعض مطالعها قائلين:
"يا أبي
يا نصف فدان يتيم
يا سيولا من عرق".
كما حفظنا بعد ذلك بسنوات "الأميات" الشهيرة لنجيب سرور.
كان ينافسني الغرام بشكري سرحان صديق من أصدقاء صبا "الراهب" يونس عبد الفتاح غنيم, ابن أحد شيوخ الطريقة البيومية بالراهب. كنا نمثل بعض مشاهد أفلام شكري سرحان, ونتصارع على من منا يمثل دور شكري سرحان (وفي تقمص صلاح قابيل). دخل يونس بعد ذلك سلك الشرطة. وهو الآن عمدة الراهب.
كما شفت في القاهرة لأول مرة (في صحبة عبد العزيز وعبد العزيز وجلال) في فيلم "حكاية حب" لعبد الحليم حافظ و مريم فخر الدين في سينما "مصر" بشارع الجيش, وبكيت في مشهد توديع عبد الحليم لأخيه الصغير قبل سفره لإجراء عملية جراحية صعبة في لندن, وهو يوصيه أن يضع الورد على قبره, وأن يتذكر "الرز المفلفل" الذي كان يصنعه له. وظللت, حتى الآن, أبكي في هذا المشهد كلما عرض الفيلم في التلفزيون.
وقد أشرت إليه, بعد ذلك بسنوات في قطعة بعنوان "رومانسية" تقول:
"نقاوم الشجن بعصر ما بعد الصناعة
لكن مشهد عبد الحليم و أخيه
في "حكاية حب"
ينتقم للقتلى".
كان عبد العزيز فهمي شندي قد أصيب في ساقه أثناء حرب 1967, وخرج من الجيش باعرجاج في الساق. كانوا يأخذونني إلى السينما والمسرح والفسحات المختلفة. زذات يوم اصطحبني عبد العزيز فهمي شندي إلى فيلم "ابنة رايان" في سينما مترو, وكانت المفاجأة المدهشة لي: بطل الفيلم, الضابط الإنجليزي (الذي أحبته ابنة رايان, وهي الأيرلندية التي يقاوم أهلها الاحتلال الإنجليزي) كان وسيما فارعا, وذا ساق خشبية, يمشي بعرج واضح. كان شبيها بعبد العزيز فهمي, أو كان عبد العزيز فهمي شبيها به. كنت أنظر إلى الضابط الذي بجواري تارة, وأنظر إلى الضابط الذي على الشاشة تارة أخرى, و أعجب: هل تقلد السينما الحياة, أم تقلد الحياة السينما؟.
بعد ذلك انتقل عبد العزيز أخي وجلال إلى العمل بشبين الكوم, وسكن عبد العزيز فهمي بميت عقبة, حيث زرته مرات أثناء دراستي الجامعية. وظللنا على البعد أصدقاء أعزاء, بالرغم من فارق العمر بيننا. وحينما فزت بجائزة كفافيس عام 1997, وأقيم للفائزين احتفال بدار الأوبرا, حضره بالطبع بعض إخوتي من القرية. حدثت عبد العزيز فهمي في التلفون, وقلت له: أريدك أن تكون بين الجالسين في هذا الاحتفال أمامي. وكان حضوره مفاجأة جميلة لي.
هو الآن يعيش في القرية, لا نتقابل إلا في العزاءات أو الجنازات, حينما يموت من القرية عزيز أو قريب و أذهب لحضور الجنازة أو العزاء. مازال جميلا, وإن خطه الشيب, ورقيقا: بشاربه وشعره الأشقر المفروق فرقا حلوا, وعينيه الخضراوين.
عبد المنعم همام بدر, ابن الحاج همام بدر, ناظر عزبة محمد بك عبد العزيز باشا فهمي بكفر المصيلحة, المجاورة لقريتنا, وصديق أبي. كان محمد بك له عزبة في كفر المصيلحة, بلدة أبيه عبد العزيز باشا فهمي, وله في الراهب أرض وجنائن,وعزبة (كنا نلعب في الأرض الخلاء التابعة للعزبة كرة القدم). وكان أبي كل عام تقريبا يشتري ثمر جنينة البرتقال واليوسفي والمانجو التابعة لمحمد بك عبد العزيز فهمي, الموجودة على طريق قريتنا الزراعي, بدون مزاد, أي باتفاق شبه دائم.
كانوا يحكون في القرية أن محمد بك عبد العزيز فهمي, حينما سمع في الراديو نبأ قيام ثورة يوليو 1952, أطلق الرصاص على الراديو فحطمه, كما فعل, بالضبط, الباشا والد "إنجي" في فيلم "رد قلبي".
يسبقني عبد المنعم همام بدر بثلاثة أو أربعة أعوام. دخل كلية الطب البيطري بجامعة القاهرة. وأثناء الحركة الطلابية (عامي 72,73) هربت عنده في شقته بالزيتون, يعولني ويعطيني قمصانه وجواربه ويتستر على, على الرغم من أنه لم يكن سياسيا, كان معارضا رومانتيكيا صامتا. وكان مفتونا – مثلي – بجبران خليل جبران, يقرأ لي منه, و أقرأ له منه. وأثناء الأسبوعين اللذين اختبأت فيهما عنده كتبت المسرحية الشعرية الأولى و الأخيرة في حياتي. لا أدري أين هي الآن. و أذكر أنها كانت عن رحيل عبد الناصر, مستلهما فيها مسرحية "ألفريد فرج" "ليلة مصرع جيفارا العظيم". ومع بدء الدراسة أخرجها لفرقة كلية الآداب المخرج سامي صلاح, بعد أن أعطاها اسم "سفسطة", بطولة سمية الألفي, زميلتنا بكلية الآداب آنئذ, وطارق هاشم (مخرج الإعلانات الشهير فيما بعد) الطالب بكلية الآداب كذلك, ثم طلبت الجامعة الأمريكية بالقاهرة عرضها, ويوم العرض حاصر الأمن الجامعة الأمريكية لمنعه. وهربونا من الأبواب الخلفية. ولم تعرض المسرحية.
عبد المنعم همام بدر, بعد سنوات, عاد إلى شبين الكوم, وعاش في "الراهب", يعالج الحيوانات والمواشي لأهل القرية, مجانا في معظم الحالات, ويرعى "منحل عسل" أقامه على شط الرياح المنوفي (أحد فروع النيل الكبيرة) الذي يمر بقريتنا, ويقرأ الروايات.
على هذا الشط قضينا أمسيات كثيرة جميلة, أنا ومحمد فراج وسعيد فراج وعبد المنعم همام بدر وغيرهم من أصدقاء القرية والطفولة, نقرأ, أو نتأمل صفحة النهر, جالسين على ساقية قديمة, أو نرقب الصبايا وهم يملأن الجرار أو يغسلن الأواني و الهدوم (كانت مرافق المياه لم تدخل القرية بعد), وتسحرنا صفوف النخيل على الضفة المقابلة (قرية شنوان) ساعة الغروب. ويذوب وجداننا مع محمد عبد الوهاب وهو يتغنى بكلمات محمود حسن إسماعيل في "النهر الخالد":
"سمعت في شطك الجميل
ما قالت الريح للنخيل
يسبح الطير أم يغني
ويشرح الحب للخميل
وأغصن تلك أم صبايا
شربن من خمرة الأصيل؟".
مجلة الثقافة الجديدة العدد 253 - أكتوبر 2011