يقولون في الأمثال ــ يا دام عزكم ـــ (زوبعة في فنجان) ، والزوبعة كما تعرفون هي الرياح التي تدور حول نفسها ، فتثير عجاجا يرتفع في اعالي السماء , وترفع الأشياء عدة أمتار , وتهوي بها وقد تقتلع الأشجار من جذورها . عند تقليب السكر بالملعقة في فنجان الشاي تحدث ما يشبه الزوبعة ، ولكنها زوبعة صغيرة لا تشكل خطورة , أمام زوبعة الطبيعة ، كما أن وقت زوبعة الفنجان قصير. والمقصود بالمثل ــ حبايبنا المحترمين ــ : التقليل من شأن قضية ما دار جدل بين الناس بسببها , فنقول : زوبعة في فنجان ، أي ستنتهي بسرعة كانتهاء زوبعة الفنجان , وينسى الناس المشكلة من اساسها . كيف ؟ سأقول لكم : قبل حوالي الشهرين التقطت عدسة احد الصحفيين في عاصمتنا الحبيبة , وفي يوم ثلجي عاصف طفلا بين العاشرة والثانية عشرة من عمره , المفترض ان يكون ورديا , يحمل كيسا بلاستيكيا فيه مجموعة من دفاتر الرسم يتنقل بين السيارات ليبيعها , وقد تثلجت اطرافه , وعندما ساله الصحفي ما الذي اجبره على الخروج في هذا الجو ؟ قال : لاشترى الكاز ليتدفأ إخوتي . والمثير في القضية ليست الاجابة تلك , بل موقف الطفل عندما اعطاه الصحفي خمسة دنانير هبة , رفضها الصبي الا ان يبيعه بقيمتها دفاتر رغم اصرار الرجل على ذلك , مما دفع بالطفل ان يلحق بالسيارة ويلقي بالدفاتر فيها من النافذة .
عندما عرض الشريط ضج الناس , وتفاعلوا مع الحدث , وصارت شتائم الحكومة على كل لسان , والنقمة على غلاء الاسعار وعمالة الاطفال . حتي تفاءل الكثير ان الحكومة لن تصمد امام هذه الهبة الجماهيرية , ثم هدأ ت الهبة فلا الحكومة سقطت , ولا الاسعار هبطت ولا عمالة الاطفال توقفت . اذن نقول هي زوبعة في فنجان ثارت وسرعان ما هدأت دون ان تخلف اضرارا تذكر .
لقد من الله على هذه الحكومات الرشيدة في بلاد بني عرب السعيد ، بجماهير سريعة النسيان , فاكبر قضية تبقى في الذاكرة اسبوعا ثم تتبخر . لعل ذلك راجع لأنها اعتادت المصائب الكبرى فما عادت تؤثر فيها صغائرها . المصائب الكبرى التي ابتلوا بها في هذا الزمان , زمان العجائب والغرائب , هذا الزمان الذي يمشي اهله بالمقلوب ويرون الصواب في مشيتهم تلك . فعندما اكتوى الناس باتفاقيات سيكس بيكو , ثارت البلاد العربية عليها واظنهم مازالوا ينشدون في مدارسهم : بلاد العرب اوطاني , ثم اعتادوا عليها , وعلى بلاوي الحدود ومشاحناتها , لدرجة ان تشن دولة عربية حربا مزلزلة تدمر البلاد وتفني العباد وتتكلف المليارات من اجل خلاف على امتار ؛ جعلتها الاتفاقية المشؤومة مسمار جحا بين البلدين ، لتثير حروبا وخلافات لا تنتهي . ثم بعد ذلك غُرست دولة بني اسرائيل في قلبها رغما عنها , وثار الناس وحاربوا على انغام اغنية عبد الوهاب : اخي جاوز الظالمون المدى , ثم اعتاد الناس بعد ذلك الوضع القائم , ثم دارت رحى حرب عام 67 وحصلت النكسة , وغنت يومها فيروز : الغضب الساطع ات وانا كلي ايمان . وللأسف ضاع ايمانها , واصبح الجواز الاسرائيلي طوافا في كل بلا د بني عرب . ثم ظهرت موضة اسقاط الدول والقبض على رؤوس الانظمة , وسحلها في الشوارع امام العامة , او اعدامها فتجرأ كثير من الناس على زعمائهم , واستعذبوا المنظر , وقامت جدالات ومناظرات وتضارب اراء , ثم خبا كل شيء , وتحطمت الجيوش وسلبت او بيعت مقدرات الاوطان ثم ثم ثم . يعني باختصار كما وصف المتنبي الحال بقوله :
رَماني الدّهرُ بالأرزاءِ حتى فُؤادي في غِشاءٍ مِنْ نِبـــالِ
فَصِرْتُ إذا أصابَتْني سِهامٌ تكَسّرَتِ النّصالُ على النّصالِ
وهانَ فَما أُبالـــي بالرّزايا لأنّي ما انْتَفَعتُ بأنْ أُبالــــي
قد تسالون ــ يا دام عزكم ــ عن سبب تذكيركم بهذه الاحوال الموجعة , اقول السبب هو تلك الزوبعة التي تثار هذه الايام حول جزيرتي (ثيران و صنافير ) وهل هما ملك للسعودية ام لمصر , ومن له احقية السيادة عليهما , وهل هناك فرق كبير بين سيطرة السعودية عليهما او الادارة المصرية لهما , طالما انهما عربيتان , هل فرق كبير في المسالة ؛ فالجزيرتان غير مسكونتين , أي لن يترتب على ذلك تغيير جنسية السكان , هل تركنا هذا الكم الهائل من تدخلات الاجانب في بلادنا , وقضمهم الكثير من الاراضي العربية ــ والحبل على الجرار ــ لنثير مثل هذه الزوبعة . رحم الله احمد شوقي في قصيدته المشهورة :
لامَ الخُلفُ بَينَكُمُ إِلامـــــــــــــا وَهَذي الضَجَّةُ الكُبرى عَلاما
وَفيمَ يَكيدُ بَعضُكُـــــــمُ لِبَعضٍ وَتُبدونَ العَداوَةَ وَالخِصاما
وَأَينَ الفَوزُ لا مِصرُ اِستَقَرَّت عَلى حالٍ وَلا السودانُ داما
والمسالة ببساطة ايها السادة الكرام ان هاتين الجزيرتين في المياه الاقليمية للمملكة العربية السعودية , ولأننا لا نقرا التاريخ جيدا فقد نسينا ان الملك سعود رحمه الله قدمهما لمصر عام 1950 , من اجل محاصرة اسرائيل اثر احتلالها ميناء ام الرشراش ( ايلات) حاليا عام 1949. فاين المشكلة ان رجعتا للسعودية , ام بقيتا تابعتين للإدارة المصرية . وهل تثار نفس الزوبعة لو احتلتهما اسرائيل , الى متى سنبقى نلتفت الى هذه الزوبعات البسيطة , التي تشحن قلوب الشعوب بالأحقاد , ونترك الزوبعة الكبيرة لا تبقي ولا تذر , تقضم كل يوم جزءا من الاراضي العربية .
لكن لي سؤال وسامحوني ــ يا دام عز احفاد احفادكم ــ تصوروا معي لو كان مسؤولونا بعزة نفس ذلك الطفل الوارد ذكره في المقدمة , تخيلوا كيف يكون الحال . طبتم وطابت اوقاتكم .