نسمع ونري ونقرأ ــ ايها السادة الكرام ـــ عن كثير من السرقات من كل الانواع والاجناس والاشكال والالوان , من سرقة بيضة او رغيف خبز لإشباع بطن جائعة , الى سرقة الافكار وانجازات الغير , او سرقة عرق الفقراء والمساكين المسحوقين وسرقة وجهدم وقوت يومهم , الى سرقة مقدرات الوطن وتهريبها الى بنوك بني الاصفر والازرق . وقد تُسرق اوطان وقد تباع , ويسمسر عليها ويتاجر بها و بشعوبها . وحد السرقة معروف , وان كان لا بطبق الا على المطحونين الذين يسرقون لإطعام ابنائهم , بدلا من ان يطعموهم من حاويات القمامة , او يقتلوهم اذا لم يقدروا على اشباعهم , كل هذا سمعنا عنه وقرانا , اما الذي ما سمعنا به في ابائنا الاولين: فهو سرقة الاحلام والامال والطموح . هل هناك سرقة تسمى سرقة الاحلام والآمال ؟ وكيف تكون؟ ما رايكم ان نتحرى واقعنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي , فقد نجد الاجابة على سؤالينا السابقين , ثم بعد ذلك نحكم هل هذه تسمى سرقة ام لا , وما عقاب السارق في مثل هذه الاحوال . اقول : صلوا على خير الانام :
المشهد الاول ـــ يا دام عزكم ـــ : فتاة كإشراقة الصباح في عمر الزهور , تصفف خصلات شعرها وتلبس مريولها وتحمل كتبها , وتنطلق الى مدرستها كفراشة لعوب , تطير بخفة من روض الى روض , ومن زهرة الى زهرة , سعيدة لا تفأرق البسمة شفتيها , تحلم بحياة ملؤها التفاؤل , والامل بغد مشرق , تنهي فيه دراستها , وتتخرج من جامعتها لتخدم في وطنها , ثم تحِب وتُحَب وتتزوج , وتنجب البنين والبنات , وتربيهم خير تربية , فلا ينحنون الا لله , صالحين فاعلين في خدمة اوطانهم ,عفيفي النفوس , لا يعرفون الكذب او الغش , ولا الخداع او السرقة . تعود من المدرسة لتجد الزغاريد في انتظارها , هي لا تعرف السبب , فتقول لها امها : مبروك يا حبيبتي مبروك , اجاك السعد اجاك الهنا , في الداخل عريس قادر ومقتدر , سيجعلك ست الستات . قد يكون العريس الموعود الذي لم تلد مثله الولادات , قد يكون ضعف سنها , ان لم يكن من جيل والدها , رجل انعم الله عليه فاستغل ذلك في اغراء الاهالي بالمال لتحقيق نزواته وشهواته . لا تعطى المسكينة الفرصة لتقول رايها , وهي وليست اصلا في سن يسمح لها بذلك , لتجد نفسها في نهاية المطاف تساق كالشاة الى المجزرة . وقد شاهدت وسمعت وقرات كثيرا عن مثل هذه الحالات , اذكر منها الطفلة اليمنية الذي تناقلت وسائل الاعلام قصتها , فهي في الحادية عشرة زوجت برجل ثمانيني فاستشهدت ليلة زفافها . اليس هذا بالله عليكم سرقة للأحلام وسحقا للطفولة ؟
المشهد الثاني : طفل في مقتبل العمر , يحلم بمستقبل واعد , مجد ومجتهد تضطره ظروف اهله المادية الى ترك المدرسة , ليعمل صبيا في احدى الورش , ليكسب دراهم معدودة , يساعد في اطعام بطون خاوية , فتكون النتيجة ضياع مستقبله واحلامه واماله وطموحاته , اضافة الى تعلمه على صغر للغة الورش , رغم ان القوانين تمنع عمالة الاطفال , لكنها لا تضع بديلا لذلك . تصوروا ــ رحمكم الله ــ طفلا بين مجموعة من الكبار , اين ذهبت طفولة واحلام وتطلعات هذا الغلام .
المشهد الثالث : شاب طموح نبيه مجد مجتهد باحث عالم , يُقدّر له انجاز بعض الاختراعات التي تفيد الوطن وترفع اسمه عاليا , في عصر العلم والتكنولوجيا والاختراعات والاكتشافات , فيساوَم عليها , ويجد من العراقيل الشيء الكثير ولا ينال براءة الاختراع , بل يقاوَم ويحاسب ويعاقب ويغيّب عن وسائل الاعلام , فيدفن حلمه ويقتل طموحه , او يهِّرب اختراعه ويهرب للخارج ليُبتزَ ايضا هناك , فمن لم يحمه وطنه ولا يكون حنونا عليه , لا يعطف عليه الغرباء . فيُقضى على طموحاته واحلامه .
مشهد رابع رجل اعمال طموح مجد , يريد ان ينفذ مشروعا اقتصاديا في وطنه , يشغّل فيه عددا من طوابير العاطلين عن العمل في وطنه , ويبيع السلعة لأبناء الوطن بنصف ثمن المستورد منها , فيتعارض ذلك مع اطماع المستفيدين المتنفذين , فيقفون له مثل اللقمة في الحلق , وتوضع اما مه عراقيل الترخيص , واستيراد المواد الخام مما يجعله يطفش من البلد بأمواله , ليستثمرها في بلد مستقر , يرحب باستثماراته . فكم من مشاريع في بلاد بني عرب لم تنفذ بسبب الروتين والبيروقراطية , والعراقيل المقصودة وغير المقصودة . فهل سرق طموح هذا الرجل , وما عقاب السارق .
ما رايكم ــ يا دام مجد ابائكم ــ ان ندخل في العمق شوى , ويا خوفي من الحديث في العمق , لنري اين سيودي بنا , على كل لا يصيبنا الا ما كتب الله لنا . المشهد الاول : حاكم تسلط على رقاب شعبه , يقول لهم : إما ان احكمكم وإما ان اذبحكم , ولا خيار عندي ولا فقوس , الكل سواسية في الجرم و في العقاب . فكم قتل وكم عذّب وكم شرّد , وكم هدّم وكم سبا وكم ارتكب من المجازر , سرق وباع مقدرات الوطن وانفقها على الغواني في مواخير السياسة . ليجد الوطن نفسه اسير قوى اجنبية تسيره كيف تشاء.
مشهد ثان : حاكم يخوض حربا رعناء لم يخطط لها تودي بالوطن , ثم يتنصل من تبعات ذلك , ويقول : هي نكسة اراد العدو الاطاحة بي فلم يقدر , لذلك هو المهزوم ونحن المنتصرون . وسنرد له الصاع صاعين . ويرد الصاع خمسة ولكن لأبناء الوطن . ويبقى العدو يصول ويجول .
مشهد ثالث : شعب بكامله يجد نفسه بين عشية وضحاها بلا مأوي , الكل تامر عليه , والكل حاصره وساند محاصريه , والكل يبتعد عنه ويتنصل منه كبعير اجرب . اليس هؤلاء جميعا مسؤولون ساهموا في سرقة احلامه واماله , واعملوا خناجرهم في ظهره كي لا يُسمع صوته . والطامة الكبرى ان هؤلاء هم ـــ بتخاذلهم ورعونتهم وسوء تخطيطهم وادارتهم للأمورــ السبب المباشر في عذابات هذا الشعب , ثم يتنصلون من تبعات ما حل بهم من الهزائم , ويتربعون على عروش ورثّها لهم الاباء والاجداد , فهم المالكون لرقاب هذه الشعوب .
في طفولتنا كنا دائما نردد نشيد بلاد العرب اوطاني , ونحلم بالوحدة العربية من محيطها الى خليجها , وكبُرنا لنري الفرقة تزداد يوما بعد يوم , ليجد الواجد منا نفسه يقف بالساعات على شباك ختم الجوازات , ليعْبُر من بلد عربي لآخر . في وقت يعبر امواطنو دول الاتحاد الاوروبي كل دول الاتحاد بالهوية فقط . الا يعتبر هذا سرقة لحلم امة انتظرت وجدتها قرنا من الزمان وما زالت تنتظر . من يسرق هذه الاحلام ؟ ومن يقتتلها ؟
اقول ــ ايها السادة الكرام ــ هل حقا سرقت احلامنا ؟ وهل يحاسب القانون من يسرق الاحلام ؟ طبتم وطابت اوقاتكم .