الانسان ايها الافاضل ابن بيئته( يحبها ويتعصب احيانا لها , ويعبر عن همومها واحلامها , فتؤثر فيه ويؤثر فيها) وانا ــ يا دام عزكم ــ ابن القرية تربيت على اعتاب ابواب عقودها العالية , ودرجت على مرابعها وبين وحواريها , وترعرعت وشببت في منارة علمها , سرت في دروبها وتسلقت جبالها وهبطت وديانها , سرحت ومرحت ونصبت الفخ وصدت من طيورها ما قدر الي الله , فرحت بفرح اهلها وحزنت بحزنهم , سعدت بسعادتهم وشقيت بشقائهم , صليت معهم صلاة الشكر عند نزول المطر, وصليت معهم صلاة الاستسقاء كلما انحبس المطر , واظنكم تعلمون اهمية المطر بالنسبة للفلاح . عايشت مواسمهم فحرثت وبذرت واعتنيت وسقيت , ثم حصدت ودرست وجمعت الحب , واخذته الى المطحنة وعدت به دقيقا , ليُصنَع منه اشهى وابهى وانقى رغيف خبز , فأكلت واطعمت . شاركتهم مواسم الزيتون فقطفت معهم على اهازيجهم الشعبية , وعصرت وعدت به زيتا نقيا صافيا يسر الناظرين , فأكلت واطعمت , وحمدت الله كثيرا على واسع رزقه وجزيل عطاياه . شاركتهم قطاف العنب واللوز والمشمش والخوخ والدراق , ومواسم قطاف البرتقال والليمون والكلمنتينا والبوملي , ومواسم البطاطا والفستق . سرحت في براريها قطفت مما جادت علينا الطبيعة من نباتاتها , قطفت من زعترها ولوفها وحميضها وزعمطها وفطرها وحنّونها . حضرت معهم مجالس السمر ليالي الشتاء الطويلة , حول كانون النار وعلى جانبيه ابريق الشاي وبقرج القهوة , على ضوء مصباح الكاز المسمى ب(نمرة اربعة) وكبير العائلة متربع , وعلى جانبيه مساند القش ووسائد الصوف , وبين يديه كتاب من الروايات العربية الشهيرة كتغريبة بني هلال والف ليلة وليلة , وسير الابطال الشجعان كعنترة والزير سالم . يسرح الاطفال بعقول صغيرة واحلام كبيرة وخيالات واسعة , لا يقطعها الا صوته : غدا نكمل الحكاية , يالله يا اولاد تصبحون على خير . شاركتهم مواسم الاحتفالات والاعراس فسمرنا وغنينا ورقصنا ودبكنا بغض النظر عن هوية العريس اكان ابن المختار ام ابن الراعي . ربيت معهم الموشي فرعيت وحلبت وصنعت اللبن الرائب والجبن البلدي والزبدة والسمن , فأكلت واطعمت . جبلت معهم التراب بالقش , وبنينا البيوت الجديدة , وعملنا الصيانة السنوية للبيوت القديمة . هذه هي القرية التي احب , لا ابدل ذرة من ترابها بكنوز كسرى وقيصر .فكيف اذا كانت بارض المحشر والمنشر . طبتم وطابت اوقاتكم .