آفــــــــــــــاق

الموقع خاص بالكاتب ويتضمن إنتاجه الأدبى المنشور

<!--<!--<!--<!--<!--<!--

تأملات فى الناس والمكان

عطيــة


 العلاقة بين عطية والسيارات الملاكى علاقة أبد ، وعلاقة مصير ، يعرف جميع أنواعها وماركاتها ، القديم منها والحديث ، الغالى منها والرخيص ، بل ويعرف عيوب ومزايا كل نوع ، وجنسية كل ماركة ، ووصل الأمر إلى قدرته على تحديد نوع السيارة دون أن يراها ، من صوت بوقها ، كل ذلك دون أن يجلس يوما على كرسى قيادة أى سيارة من أى نوع ، وقد بدأت هذه العلاقة منذ فتح عينيه على هذا العالم الضنين ، لا أقول منذ طفولته أو منذ نعومة أظفاره كما يقولون  فلم تكن لدى عطية أية طفولة ، ولم تكن أظافره ناعمة يوما .. وأول ما يتذكره عطية عن هذه المرحلة التى يسميها الناس العاديون بالطفولة هى الفوطة التى يستخدمها فى مسح زجاج السيارات التى تتوقف رغماً عنها فى الإشارة ..

عطية يعرف أن العمل على سيارات الأجرة أكثر أجراً ، وعلى سيارات النقل أكثر وأكثر ، وقد جرب لفترة محدودة العمل على سيارة أجرة منادياً ومسؤلاً عن جمع الأجرة من الركاب إلاّ أنه لم يسترح ، كان يشعر بأن شيئاً ما ينقصه ! ماهو ..؟ لا يدرى ، ربما الألفة التى تسرى بينه وبين السيارات الخاصة .. بالتأكيد هى الألفة ، فقد سأم بسرعة هذا العمل فعاد سريعاً للإشارة بفوطته .. ألف وجوه أصحاب السيارات الخاصة ، وألفوا وجهه وابتسامته الجميلة ، ونشأت بينه وبينهم شبه علاقة يصعب تسميتها أو وصفها فهى ليست صداقة وليست عطفاً وشفقة ولا حتى معرفة لكنها أشبه بالتعود ، كأنه معلم من معالم الطريق أو كأنه لوحة من اللوحات الإرشادية المنتشرة على طول الطريق و كان بعضهم يمد له يده بورق النقد حتى دون أن يمس سياراتهم وكأنه واجب مفروض عليهم .. لكن .. كل شيئ وله نهاية كما يقولون .. كان لابد من أن يأتى اليوم الذى يترك فيه عطية المكان ، فالفراق كالموت حتم على كل بنى آدم .. فهذه مهنة أطفال ، وعطية يكبر شأن كل الناس وعليه أن يترك المكان لعطية آخر فقد شب عطية وشالته ساقان طويلتان نحيلتان باليسرى منهما عرج خفيف أصيب به من جراء صدمة من سيارة ملاكى غربية رقم 2763 يقودها شاب متهور لا يحس بالآخرين ولا يقيم وزناً لشيئ وقد بدا ذلك من ارتفاع صوت الكاسيت وتمايل الولد يميناً ويساراً وهو يقود ويصرخ مع الموسيقى الصاخبة المنبعثة من الكاسيت ، ولم يتخلف العرج عن الصدمة نفسها فهى لم تكن خطيرة جدا فلم تصل إلى حد الكسر ، لكن المرجح أنها تخلفت عن الإهمال فى العلاج والذى تعرض له عطية فى المستشفى خاصة أنه لم ينقل إلى المستشفى فور الإصابة فقد أكمل يومه فى العمل مع ألم خفيف لكنه فى اليوم التالى فوجئ بأنه لا يستطيع السير عليها فاضطر للذهاب إلى المستشفى فحدث ما حدث ..

عطية لأنه طيب القلب ، نقى السريرة ، فقد سامح الجميع وواصل عمله ولم يؤرقه شيئ سوى إحساسه بأنه سيكبر يوماً وسيضطر إلى البعد عن فوطته وزجاج السيارات عند الإشارة التى أخذت فى الإزدحام مع الأيام نتيجة لزيادة عدد السيارات فى المدينة وبقاء الطريق كما هو بلا توسعة ..

وجاء ذلك اليوم سريعاً ، وظهر عطية الآخر ، صبى أسمر البشرة مثل عطية مصفر الوجه ، تبرز عظام صدره كاشفة بوضوح عن عدد أضلاعه بالضبط ، أخذ يزاحم عطية ويرمقه بنظرات حادة فى البداية ، لكنه لم يجد من عطية سوى ابتسامة جميلة وسلم له فوطته وانصرف والولد يتابعه بنظراته مندهشاً وهو يشعر بتأنيب ضميره الصغير ..

انسحب عطية إلى شارع جانبى يؤدى إلى الميدان الذى شهد طفولته حيث يعيش فى حجرة تقع تحت سلم أحد البنايات الكبيرة ، لم يطل به التفكير فيما سوف يعمل ، فأثتاء جلوسه على الرصيف المجاور لمطعم شهير وجد صاحب محل نظارات على الناصية المقابلة يركن سيارته بجوار المحل فنهض تلقائياً وأخذ يرشده حتى توقف فى المكان المناسب ، أخرج من حزام بنطلونه المتهرئ فوطة جديدة وراح يمسح السيارة جسداً وزجاجاً ، وحين أخرج صاحب المحل غطاء السيارة القماشى لتغطيتها حتى موعد الإغلاق أشار إليه بأن يستريح هو ويتركه فهو يعرف عمله جيداً ..

وكان هذا الرجل بسيارته أول زبون لعطية فى عمله الجديد ، وهكذا حدد عطية مهام عمله وهو الإعتناء بسيارات أصحاب المحال بداية من وصولها وحتى رحيلها وأضاف إلى مهامه غسيل السيارات وجهز المعدات اللازمة لذلك فى اليوم التالى مباشرة وحدد لنفسه دائرة عمله بحيث لا يبتعد أكثر من اللازم ، واستقر عطية سعيداً بعمله وزبائنه راضياً برزقه الذى يأتيه ، وكان يزداد سعادة كلما حدث افتتاح لمحل جديد فى دائرة عمله ..

كثيراً ما كان عطية يحلم بالسيارات فى نومه ، لم يصل الأمر حقيقة إلى درجة الحلم بامتلاك سيارة ، لكن كل أحلامه تدور تقريباً حول السيارات ، ألوانها ، أشكالها ، حجمها ، سرعاتها ، أصحابها .. قد يصل الأمر فى بعض الأحيان إلى تخيل .. فقط تخيل الجلوس إلى مقعد القيادة والإمساك بعجلة القيادة مع إرجاع الظهر للوراء والانطلاق بأقصى سرعة مرة واحدة ..

ورغم كل هذه السنوات مع السيارات فهو لا يعرف القيادة فعلياً وإن كان يقنع نفسه والآخرين بأنه يجيدها ، فكل معلوماته عنها نظرية اكتسبها من الكلام الذى يسمعه يتردد أمامه كثيراً لكنه لم يجربها يوماً ولم يكن بحاجة لذلك فى الحقيقة إلاّ أنه أرغم على ذلك يوم الحادث .. لم يفرض عليه أحد شيئا ، ولم يكلفه أحد بشيئ .. هو ذاته تطوع ربما بدافع الرغبة الملحة بداخله ليحقق حلمه ولو للحظات قصيرة ، جاءته الفرصة ليجلس فى مقعد القيادة لسيارة فاخرة حديثة فهل يمكن أن يتركها تفلت منه ..!؟ لا يمكن طبعاً .. سارع باقتناص الفرصة .. أخذ المفتاح من صاحب محل النظارات الذى كان قد اضطر لإيقاف سيارته بعيداً محاه نتيجة لتوقف عدد من السيارات فى مدخل الشارع الفرعى حيث تعود على ركن سيارته ، وبعد انصراف السيارات الدخيلة تهيأ لإعادة سيارته بجوار محله لكنه فوجئ بعدد من زبائنه فانشغل معهم ، تطوع عطية لإنجاز المهمة مستغلاً انشغال الرجل وأخذ منه المفتاح وذهب وقلبه يرقص فرحاً بتحقيق حلمه .. فتح السيارة وألقى بنفسه على كرسى القيادة راجعاً بظره للخلف .. مدد ساقيه الطويلتين على الدواسات .. هو لا يعرف أين يجب أن يضع قدمه فوضعهما كيفما اتفق .. وضع المفتاح فى مكانه كما شاهدهم يفعلون من قبل مئات المرات وراح يتحسس ملمس عجلة القيادة والكرسى اللين والدوائر الزجاجية التى يعرف أنها تبين السرعة والبنزين وغيره .. وبدأ يدير المفتاح فهدرت السيارة ولم يعرف عطية ماذا حدث بعد ذلك .. اندفعت السيارة كطلقة رصاص لتصطدم بالحائط المجاور وتكسر مواسير الغاز لينطلق منها صوت هائل ورائحة عمت أرجاء الشارع مع صراخ النساء فى الشرفات وصيحات العيال فى وسط الشارع وتجمع الشباب والرجال فور سماع صوت الارتطام ..

جذب بعض الشباب عطية من داخل السيارة وهم يظنونه ميتاً من فرط اصفرار وجهه وعدم قدرته على الحركة .. سندوه حتى أجلسوه على الرصيف المجاور للمطعم فجلس مطرق الوجه والضجة التى حدثت أثناء محاولات الناس سد ماسورة الغاز وصوت استغاثاتهم بالمسؤلين فى شركة الغاز تصل إليه كطنين فقط لا يميز منها شيئ وبدا كما لو كان قد انفصل عن العالم كلية ..

عندما فتح عينيه على يد تربت على ظهره كان الليل قد بدأ يرخى سدوله على الدنيا .. بعيون تلمع بفعل دمعة تحجرت لمح صاحب السيارة يبتسم له مشجعاً ويرجوه أن يعود لبيته كى يستريح ..      

المصدر: الكاتب
samibatta

أهلاً ومرحباً بك عزيزى القارئ .. أرجو ألاّ تندم على وقتك الذى تقضيه معى ، كما أرجو أن تتواصل معى وتفيدنى بآرائك ومناقشاتك وانتقاداتك ..

  • Currently 1/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 131 مشاهدة
نشرت فى 15 سبتمبر 2011 بواسطة samibatta

ساحة النقاش

سامى عبد الوهاب بطة

samibatta
أهلاً ومرحباً بك عزيزى القارئ .. أرجو ألاّ تندم على وقتك الذى تقضيه معى على صفحات هذا الموقع .. كما أرجو أن تتواصل معى بالقراءة والنقد والمناقشة بلا قيود ولا حدود .. ولكل زائر تحياتى وتقديرى .. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

90,102