على المقهى
استأثر لنفسه بمقعدٍ منفرد، أمام طاولة صغيرة الحجم، مستطيلة الشكل، ظن أنها تنأى به عن همهمات الجالسين، وصياحهم، وضحكاتهم، وضجيجهم، رغم أنه اعتاد ارتياد هذا المقهى منذ سنوات، لا يذكر عددها بالتحديد، يستجدى على مناضده إبداعاته الأدبية، التى لم ير منها النور شىء حتى الآن، وحيث كانت الشمس تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتكسو المكان بأشعتها الذهبية الكليلة، وقد بدأت تتوارى في خجلٍ خلف عباءة الليل، بينما كانت الأنوار من حوله تعُد العُدة لمحاربة الظلام، والفتك بخيوطه في كل أرجاء المكان، والتى ما كادت أن تُولد حتى وئدت، ودخان لفائف التبغ، قد خرج من أفواه الجالسين، معربدًا في المكان خالقًا له عبقًا خاصًا به. فتش في المكان بعينيه الضيقتين حواه جيدًا نبش في كل أركانه، أطلق العنان لخياله، رسم لكل جالس أمامه صورة في مخيلته؛ فهذا أتعبه الزمن، أكل، وشرب عليه، تبًا لهذه الشعيرات البيضاء التي تكسو رأسه، هل هي حقًًا سياجُ الوقارِ؟، أم هي بداية النهاية؟ أشفق عليه حينما رآه يَسعُل بشدة بعدما أخذ نفسًا طويلا من(نرجيلة) أمامه وهذا الذي يضع يده أسفل خده شاردًا في فكرٍ عميق، وعيناه الشاخصتان تلعنان الهوى، أو تنقمان جيله المطحون رغبة في مُنازلة الزمن، وكسر شوكته، ولكن أنّى له ذلك. وهذان يضحكان، ويضربان كفًا بكف، أحقًا أن الأيام أظلتهما بجناحيها، أم أن التيه في سراديب تكهنات المستقبل، جعلت منهما ثملين، فبدا الأمر على عكس جوهره... عاد إلى نفسه بعدما أشعل لفافة من التبغ، نفث دخانها في الهواء، بدأ يتراقص أمامه، يرسم أشكالا، لا مُحددات لها....
-آهٍ كم جميلة هي الحرية.... همس بها إلى نفسه... بعثر أوراقه على المنضدة، أمسك يراعه، حاول أن يُكمل ما بدأه... لقد أتعبه الأمر كثيرًا منذ أكثر من عام؛ فالبيت أكثر ضجيجًا من هنا بفضل هؤلاء الصغار الأوغاد... طلب فنجانًا من القهوة.
- وعندك واحد قهوة على الريحة... قالها (النادل) بصوت عال... نظر إليه شذرًا، وكأنما يلومه على قطع حِبال أفكاره، عاد ثانية ينظر إلى أوراقه، بدأ يراعه يخطو على الورق، ولكنها خطوات متعثرة... نظر أمامه، تعلقت عيناه بقدها الممشوق، الذي يتمايل كغصن البان، متحديًا أعتى الرهبان في (أديرتهم)...
– (دُش) قالها أحدهم، يجلس على مقربة منه، يلعب (الدومينو)، استحوذت الكلمة على كل أذنيه.. نظر إليه، تبسم ضاحكًا، تذكر حينما أراد غسل وجهه صباحًا، وظلت الرغاوي على وجهه، حتى أزالها بالمنشفة التي يطوق بها عنقه، بعدما أعياه اِنتظار خرير الماء، وهو ينساب من الصنبور... اِنكفأ ثانية على أوراقه، حاول أن يكتب شيئًا، ولكن دون جدوى....
- تبًا لها من أقصوصة... قالها، وهو يُمزق وريقاتها، ثم ألقاها قصاصات، تتطاير في الهواء، وهي تهزأ به في صلف وتحدّ، أمسك بورقة، لم يُدنّسها المداد بعد، دس مؤخرة القلم في فمه، ضغط عليها بأسنانه، بدأت الفكرة تلحُ عليه، تعبث بكل جوانب فكره، إنها تريد الخروج، ضاق بها عقله، نظر إلى من حوله، فتش فيهم جيدًا، تفرسهم بإمعان، تعلقت عيناه بالنجوم التي بدأت تطفو على صفحة السماء، هرش بقلمه في رأسه، كتب في منتصف الورقة (المقهى)...
وبدأ قلمه ينساب....
بقلم / حسن الفياض