قصة القميص الأحمر
(1)
حين عزم يوسف الصدّيق علي الرحيل من قريته المطلة على النيل متجها جنوباً صوب القاهرة ليشارك الثائرين في ميدان التحرير آمالهم فى غداُ أفضل وآلامهم من الخوف والجوع والبرد والجروح والحزن علي عزيز فُقد
ورغم محاولتها خنق بكائها ارتفع نشيجها واغرورقت عينيها بالدموع الساخنة التي فاضت على خديها المتوردين والملفوحين بنسيم الفجر البارد قبيل شروق شمس يوم الأربعاء الثاني من فبراير2011
حبست أم يوسف نحيبها بطرف خمارها الأبيض وتشاغلت عن بكائها بإعداد زوادة للمسافر على عجل جُبن قديم معتق وعيش بلدي خرج لتوه من الفُرن ليتلقاه يوسف بيديه الباردتين ليبث فيهما الدفء
(2)
يشم في خبزأمه رائحة القرية العتيقة وأنفاسها العبقة ، ويخاطبها قائلا سأذكرك يا أماه وأنا في قلب الميدان، سأذكرك هناك حيث لا شيء يسكن القلوب ساعتها إلا السكينة والثبات ويملأ الأنوف رائحة التراب والغاز المسّيل للدموع والبارود وخبزك وولا يدور بالخلد إلا ذكريات الأهل وأشواقهم ، وأحلام الأحبة الوردية وأفراحهم المؤجلة أجل غير مسمي ،
وحين أعود يا أماه منتصراُ على الطاغية وزبانيته الذين طغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد
سنجلس ههنا على هذه الدكة الخشبية القديمة فى تراسنا الرحب المطل على صفحة النيل الخالد الذي تعاقب عليه حكام مصر منذ سبعة الآف سنة فرحلوا جميعاً وبقى هو شاهداُ علي الصالح والطالح منهم يحكي للأجيال المتعاقبة قصة كل من حكم فعدل وكل من حكم فظلم
وسأحكي لك يا أمي عن رحلتى للتحرير وكل ما فيها من دموع وعرق وخوف وإصرار على النصروسأحضرلك معي تذكاراُ من ميدان التحرير
قد يكون حجارة أصيب بها ثائر يبتغي الحرية أو قطعة من قميص شهيد
(3)
تذكرت أم يوسف بعضاً من شباب القرية الغض البرئ الذي سافر منذ بدأت الثورة يوم الثلاثاء الأخير من يناير إلي ميدان التحرير ولم يعد إلى أهله إلا محمولاً علي الأعناق أدركته الشهادة ولم يدرك النصر سقطت أجسادهم على أرض التحرير لترتفع الأرواح إلي جنان الخلد أحياء عند ربهم يرزقون
وأصيب من أصيب واعتقل من اعتقل وعذب من عذب لكن الثوار مرابطون ثابتون حتى يتنحي الطاغية ويرحل مع أذنابه
لم تملك الأم إلا أن تأخد يوسف بين ذراعيها وتضمه إلى صدرها ضمة ربما كانت الأخيرة وتدع الله أن يرجع إلي حضنها سالماً غانماً
كانت تبكي وهي تودعه.. تبكي وهي تضع له أرغفة العيش الساخنة وقطع الجبن القديم المعتق في حقبته ، وبعض الملابس الشتوية وقميصه الأحمر وشنطة صغيرة للإسعافات الأولية وزجاجة خل لتقيه شر الغازات المسيلة للدموع ومصحف صغير يحفظه من كل شر
حمل حقيبته علي كتفه وقبّلها بين عينيها واستجاب لنداء الرفاق
(4)
تسمرت الأم أمام التلفزيون تقلب كل القنوات الفضائية من الجزيرة إلى العربية ماعدا المصرية التى كانت ماتزال أنيسة الطاغية وبوقه ترهب الناس وتصور الثوار علي أنهم شرذمة قليلة من الرعاع التى خرجت على ولي النعم صاحب الباب العالى
لم يغمض لها جفن خلال ساعات ليل الشتاء الطويل البارد ،صلت الفجر ثم رفعت يديها للسماء تدعو الحى القيوم أن يكتب للثوارالنصر وبعد الفجر أخذتها سنة من النوم أستيقظت بعدها منقبضة النفس يدق قلبها الضعيف دقات سرّع من وتيرتها القلق المتزايد على يوسف وإخوته الثوار
مازال التلفزيون مفتوحاًعلى قناة الجزيرة التى تعرض تقريراً عن "موقعة الجمل "التى نظمها أذناب الطاغية لإجهاض الثورة وإرهاب الثوار
بدأت الموقعة فى ظهيرة يوم الأربعاء الثاني من فبراير2011، بهجوم منظم من البلطجية المشاة التي قدرت أعدادهم بحوالي ألفين إلي ثلاثة الآف بلطجي دخلوا لمشارف ميدان التحرير من ناحية ميدان الشهيدعبد المنعم رياض عند المتحف المصري ، في غفلة من قوات الجيش الباسل التي تمركزت لحفظ الأمن ، كان البلطجية يمشون بانتظام ووقفوا فجأة بإشارة متفق عليها من منظمي المسيرة وبدأوا في إلقاء الحجارة علي الثوارالذين بادلوهم بالقاء الحجارة. وفجأة أفسح البلطجية المشاة الطريق ودخل قرابة العشرين من البلطجية علي ظهور الخيل وعدداً من عربات الكارو المحملة بالبلطجية ومن خلفهم الجمال والبغال إلي ساحة الميدان في هجوم مباغت وغريب لم يتوقعه أحد وسط فرار من الثوار الذين كانوا في المقدمة
(5)
مازال التلفزيون مفتوحاًعلى قناة الجزيرة وما زالت أم يوسف تتابع بترقب "كان هذا الهجوم الصريح علي الميدان من قبل تحالف طيور الظلام ، المتمثل في رجال الحزب الحاكم ، وبعض الوزراء وأعضاء مجلس الشعب السابق ، وبعض رجال الأعمال الفاسدين ، تجمع كل هؤلاء في محاولة منهم لإفشال الثورة وتفريق الثوار حتى لا يسقط الطاغية وبالتالي يُفضح فسادهم ويذوقوا كأس الذل والهوان بعد العزوالرغد"
قلبت الأم على قناة العربية حيث كانت تستضيف خبير استراتيجى الذى وصف ماحدث بكل التفاصيل التى تبحث فيها الأم عن ابنها الوحيد "بدأت المعركة بهجوم الأسلحة المشتركة ( الطوب من مشاة البلطجية و خيالة البلطجية و العربات الكارو و الجمال و البغال والحمير) أحدث خرقاً واضحاً في صفوف الثوارالعزل الذين لم يكونوا مستعدين لمواجهة الخيالة والهجانة (وهو اسم قديم لأول دورية حدودية ويستمد معناها من الهجن وهو الجمل)، ولم يكن في جعبتهم ما يستطيعون به الدفاع عن أنفسهم ومقاومة كل هؤلاء فتراجع الثوارمن المقدمة تراجعا كبيرا
وكان اندفاع الخيالة والهجانة سريعا وسط صفوف الثوار ، حتى أوشكوا على الاقتراب من قلب الميدان حيث كان بقية الثوار في الخيام بجوارالمستشفي الميداني ، وهي النقطة الأكثر أهمية في الميدان وكان يجب الدفاع عنها بأي وسيلة
ويواصل الخبير الاستراتيجى علي قناة العربية تعليقه على غباء البلطجية فيقول
كان الاختراق السريع للخيالة البلطجية بدون دعم من المشاة البلطجية هو من الأخطاء التكتيكية الفادحة ، وذلك لاختلاف السرعة ،
(6)
فكما عاني العدوالصهيوني عندما هاجم الجيش المصري بالمدرعات بدون دعم من فرق المشاة في حرب أكتوبر المجيدة كذلك عاني البلطجية من ذلك الخطأ ، بينما كانت العربات الكارو أبطأ وظلت في حماية المشاة البلطجية حيث دخل الخيالة والهجانة البلطجية عميقا داخل صفوف الثوار بدون حماية ، فسرعان ما أحاطوا بها وهجموا عليهم هجوما شجاعا مستغلين التفوق العددي لهم ، وكان أول من أسقط خيالة بلطجية هو شاب يرتدي قميص أحمر يظهرأمامكم الآن على الشاشة
لم تصدق الأم نفسها وهى تري ابنها الوحيد يوسف وهو يقاتل بهذه الشجاعة وهو الوديع المسالم الذي لا يُسمع له صوت فى جنبات البيت ،يهوي الرسم ويكتب الشعر تخرج فى كلية الطب بجامعة الأسكندرية قبل شهر واحد دفعة 2010
لم تملك الأم نفسها من شدة الفرح لأمرين سلامة ابنها وشجاعته ،فبكت وأطلقت العنان لدموعها المتجمدة في مقلتيها منذ سافر يوسف بالأمس مع أول ضوء ،ثم واصلت المشاهدة والانصات لتعليق الخبير
فور سقوط أول حصان علي يد يوسف الصديق تشجع بقية الثواروأسقطوا كل البطجية الخيالة والهجانة وتم محاصرتهم وأسرهم وتسليمهم لقوات الجيش الباسل
(7)
وفور سقوط الخيالة والهجانة أدرك قائد حزب الشيطان الذي كان يركب فرساً أسود في المقدمة أن الخيالة قد هزمت ، وبالفعل استدار الي الخلف وبدأ بالهروب وسط هجوما عنيفا من الثوار وحاول أحدهم اصابته بجزء حديدي من السور ولكنه فشل في افقاده توازنه ، وهرب قائد حزب الشيطان بسرعة كبيرة معتمدا علي سرعة الفرس الأسود
وفور سقوط جميع الخيالة والهجانة ، أدرك مشاة البلطجية ضعف موقفهم ، فتقهقروا إلي الوراء عشرات الأمتار ، ولكن استعادوا تنظيم صفوفهم مرة أخري وبدأوا باستعمال سلاح "الطوب" ثانية مستغلين الهلع الذي أحدثته الخيالة والهجانة البلطجية في صفوف الثوار، ومع ادراكهم بقلة عددهم إلا أنهم كانوا يقفون بعرض الشارع كي يسببوا بعضا من التفوق ، وكان الثوار رغم كثرة عددهم إلا أن الطوب سلاح رمي مساحي فمن الصعب التصويب الدقيق علي رأس البلطجي علي العكس كان الطوب يمثل خطراً أكبر علي الثوار حيث كانوا محتشدين بأعداد كبيرة وهناك احتمال أكبر أن يسقط الطوب علي رأس احدهم
(8)
ظلت معركة الاستنزاف تلك سحابة يوم الأربعاء ، وهدأ البلطجية مع آخر ضوء من النهار حيث أنهم رأوا أن أداءهم في تلك المعركة يقابل المائة جنية التي قبضوها ويزيد ، وسادت فى الميدان حالة من الهدوء المشوب بالحذر بدءت عندما ارتفع صوت يوسف بآذان المغرب وبعدها أقام الصلاة ليصطف الثوار لصلاة المغرب والعشاء جمع تقديم مع قصر العشاء على هيئة صلاة الحرب
ولكن مع اقتراب منتصف الليل ، عاد التوتر للميدان مع عودة مجموعات جديدة من البلطجية الذين أخذوا الدورية المسائية ، و كان أجرهم ضعف أجر بلطجية النهار وإن كانت أعدادهم أقل مابين ثلاثمائة إلى أربعمائة ولكنهم كانوا أكثر تسليحا من بلطجية النهار بكثير ، حيث كانت مجموعة صغيرة منهم مسلحة بالأسلحة النارية ، والبعض الآخر وهوالأكثر عددا مسلحا بزجاجات المولوتوف الحارقة
وكانوا مستغلين المكان جيداً حيث صعدوا علي كوبري 6 أكتوبر المطل علي ميدان الشهيد عبد المنعم رياض وبدأوا بقصف الثوار بزجاجات المولوتوف الحارقة والطوب وقام بعضهم باستخدام الأسلحة النارية ، وأحدثوا خسائر كبيرة في صفوف الثوار حيث استشهد وأصيب الكثيرين في تلك الليلة الدامية التى لن ينساها كل من شاهدها فى الميدان أو على شاشة التلفزيون وسيرويها لأبنائه وأحفاده
(9)
عاد القلق إلي نفس الأم وتسارعت دقات قلبها الضعيف خوفاً وفرقاًعلى يوسف واخوته الثوار مع سماع أخبار متلاحقة عن ارتفاع أعداد الشهداء والمصابين في موقعة الجمل وتمنت أن تسمع صوت يوسف بأى شكل
استمرت الأم فى المتابعة المشاهدة " استمرت المعركة حتي مطلع الفجر علي فترات متقطعة ، حتي أيقن البلطجية إصرار الثوار علي الصمود والتمسك بميدان التحرير فتوقفت جهودهم في مهاجمة الثوار "
ومع سماع هذه العبارة تنفست الأم الصعداء ودخلت الطمئنية إلى قلبها وتابعت مايقوله ضيوف قناة العربية "وركزالبلطجية علي قتل وضرب الصحفيين حتي يخفوا عن العالم حقيقة ما يجري في أرض الميدان صوًر لهم جهلهم وفسادهم أنهم يستطيعون إخفاء الحقيقة فى عصرالسماوات المفتوحة حيث الفيس بوك والتويتر واليوتيوب وغيرها من أدوات الشبكة العنكبوتية التي جعلت ميدان التحريرمحط أنظار العالم يتابعون أخباره علي مدار الساعة لم يكن يدور بخلد أحدهم أن الأحداث تذاع على الهواء صوت وصورة وأني لهم ذلك وعقليتهم الفاسدة الراكدة منذ مايزيد على نصف قرن من الظلم والبطش والقهر تسول لهم انهم يستطيعون دفن فسادهم وإخفاء رائحتهم النتنة
(10)
جاءهم الأمر بالانسحاب فهربوا مذعورين كالفئران واعترف من وقع منهم فى أيدى الثوار بحقيقة المؤامرة التى دبرها نواب الشعب لقتل الشعب المتطلع للحرية والعدالة وكيف لا وهؤلاء النواب جاءوا للمجلس الموقربالحديد والمال، فانقلب السحر على الساحر الذى ظن أن مصير مصر يمكن أن يدار عن طريق لاب توب حقير وهكذا انتهت موقعة الجمل في ميدان التحرير وانتهى معها نظام ظالم طغى وتجبر على شعب طيب مسالم
عاد الهدوء يخيم على الميدان وفي البيت سكنت نفس الأم القلقة عندما تلقت مكالمة من يوسف يُخبرها أن النصر قد حالفهم وأن الطاغية قد سقط بغباء أذنابه
كتبت المسودة الأولي يوم الجمعة 4 فبراير 2011
بعد يومين من موقعة الجمل الشهيرة في ميدان التحرير بالقاهرة
المسودة الثانية 20 يونيو 2011
ساحة النقاش