<!--

بسم الله الرحمن الرحيم

"قراءة نقدية في بائية ابن خفاجة الوصفية "[1]

تأليف مشترك بين:

الأستاذ الدكتور/صبري فوزي أبوحسين

الباحث/أحمد حامد عطية

1 - بَعَيشِكَ  هَل  تَدري   أَهوجُ   الجَنائِبِ        تَخُبُّ  بِرَحلي   أَم   ظُهورُ   النَجائِبِ

2 - فَما لُحتُ  في  أولى  المَشارِقِ  كَوكَباً        فَأَشرَقتُ حَتّى  جِئتُ  أُخرى  المَغارِبِ

3 - وَحيداً   تَهاداني    الفَيافي    فَأَجتَلي        وَجوهَ   المَنايا   في   قِناعِ   الغَياهِبِ

4 -وَلا  جارَ  إِلّا   مِن   حُسامٍ     مُصَمَّمٍ        وَلا   دارَ   إِلّا   في   قُتودِ   الرَكائِبِ

5 - وَلا  أُنسَ  إِلّا  أَن   أُضاحِكَ     ساعَةً        ثُغورَ  الأَماني  في  وُجوهِ     المَطالِبِ

6 - وَلَيلٍ  إِذا  ماقُلتُ  قَد   بادَ   فَاِنقَضى        تَكَشَّفَ  عَن  وَعدٍ  مِنَ  الظَنِّ  كاذِبِ

7 - صحبتُ  الدَياجي  فيهِ   سودَ   ذَوائِبٍ        لِأَعتَنِقَ    الآمالَ     بيضَ     تَرائِبِ

8 - فَمَزَّقتُ جَيبَ اللَيلِ عَن شَخصِ أَطلَسٍ        تَطَلَّعَ   وَضّاحَ   المَضاحِكِ    قاطِبِ

9 - رَأَيتُ  بِهِ  قِطعاً  مِنَ  الفَجرِ     أَغبَشاً        تَأَمَّلَ    عَن    نَجمٍ    تَوَقَّدَ     ثاقِبِ

10 - وَأَرعَنَ     طَمّاحِ     الذُؤابَةِ     باذِخٍ        يُطاوِلُ    أَعنانَ    السَماءِ     بِغارِبِ

11 - يَسُدُّ  مَهَبَّ  الريحِ  عَن   كُلِّ   وُجهَةٍ        وَيَزحَمُ    لَيلاً     شُهبَهُ     بِالمَناكِبِ

12 - وَقورٍ   عَلى   ظَهرِ    الفَلاةِ    كَأَنّهُ        طِوالَ  اللَيالي  مُفَكِّرٌ   في     العَواقِبِ

13 - يَلوثُ   عَلَيهِ   الغَيمُ    سودَ    عَمائِمٍ        لَها مِن  وَميضِ  البَرقِ  حُمرُ  ذَوائِبِ

14 - أَصَختُ  إِلَيهِ  وَهوَ  أَخرَسُ     صامِتٌ        فَحَدَّثَني    لَيلُ    السُرى    بِالعَجائِبِ

15 - وَقالَ   أَلا   كَم   كُنتُ   مَلجَأَ   قاتِلٍ        وَمَوطِنَ      أَوّاهٍ      تَبَتَّلَ      تائِبِ

16 - وَكَم  مَرَّ  بي   مِن   مُدلِجٍ   وَمُؤَوِّبٍ        وَقالَ   بِظِلّي   مِن   مَطِيٍّ    وَراكِبِ

17 - وَلاطَمَ  مِن   نُكبِ   الرِياحِ   مَعاطِفي        وَزاحَمَ  مِن  خُضرِ  البِحارِ     غَوارِبي

18 - فَما  كانَ  إِلّا  أَن  طَوَتهُم  يَدُ  الرَدى        وَطارَت  بِهِم  ريحُ   النَوى     وَالنَوائِبِ

19 - فَما  خَفقُ  أَيكي  غَيرَ  رَجفَةِ    أَضلُعٍ        وَلا  نَوحُ  وُرقي  غَيرَ  صَرخَةِ   نادِبِ

20 - وَما  غَيَّضَ   السُلوانَ   دَمعي   وَإِنَّما        نَزَفتُ  دُموعي  في  فِراقِ    الصَواحِبِ

21 - فَحَتّى  مَتى  أَبقى  وَيَظعَنُ   صاحِبٌ        أُوَدِّعُ    مِنهُ    راحِلاً    غَيرَ    آيِبِ

22 - وَحَتّى  مَتى  أَرعى  الكَواكِبَ     ساهِراً        فَمِن  طالِعٍ  أُخرى   اللَيالي   وَغارِبِ

23 - فَرُحماكَ   يا   مَولايَ   دِعوَةَ   ضارِعٍ        يَمُدُّ   إِلى    نُعماكَ    راحَةَ    راغِبِ

23 - فَأَسمَعَني   مِن   وَعظِهِ   كُلَّ    عِبرَةٍ        يُتَرجِمُها    عَنهُ    لِسانُ     التَجارِبِ

24 - فَسَلّى  بِما  أَبكى  وَسَرّى  بِما     شَجا        وَكانَ عَلى عَهدِ السُرى خَيرَ  صاحِبِ

25 - وَقُلتُ    وَقَد    نَكَّبتُ    عَنهُ    لِطِيَّةٍ        سَلامٌ    فَإِنّا    مِن    مُقيمٍ    وَذاهِبِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أولاً: ما قبل النص:

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1_التعريف بالشاعر :

هو أبو إسحاق إبراهيم بن أبى الفرج بن خفاجة، ولد سنة 450 هـ - 1058 م فى بلدة شقر فى جزيرة تحيط بها المياه من أعمال بلنسية إحدى عواصم الأندلس، وكان مولده فى عصر ملوك الطوائف ودولة المرابطين المغربية، ونشأ في أسرة علم وأدب وثراء. وقد تلقّى علوم عصره، وبخاصة اللغة والأدب، على عدد من كبار علماء عصره ببلدته أوّلا، ثم تردَّدَ بين مرسية وشاطبة. لَهَا الشاعر في شبابه، ثم ترك اللهو والمجون، وعاش صَرُورَة {لم يتزوج قط}  وقضى معظم حياته في ضيعة له قرب بلده ينظم الشعر في أغراض نفسه، ولمْ يقصد أحدًا من ملوك الطوائف، ولكن بعد أن استولى المرابطون على معظم جزيرة الأندلس، وأزالوا معظم ملوك الطوائف، اتصل ابن خفاجة _وكان قد بلغ أشُدَّهُ وذاعتْ شهرتُه _بولاة المرابطين على الأندلس، ومدحهم، إعجابًا لا تكسُّبًا، وكانت له في أيامهم حُظوة. كما سافر إلى عدوة المغرب، ومدح علي ابن يوسف بن تاشفين ووزراءه، ثم اشتدَّ شوقُهُ إلى وطنه الجميل فعاد إليه، وظلَّ في بلدته يهيم على وجهه بين الوديان والجبال مفتونًا بجمال الطبيعة، يستجلي أسرارها ويصفها ممعنًا في ذلك الوصف إلى أن توفّاه لله سنة سنة 523هـ - 1137 م  .

 ولابن خفاجة ديوانُ شعر أكثره في المدح {إعجابًا بممدوحيه لا تكسُّبًا منهم}، والرثاء،والغزل، والهجاء، والحكمة، والزهد، والإخوانيات. أمّا الفن الذي برع فيه، فهو وصف الطبيعة والحنين إلى الوطن، ويتسم وصفه بالتشخيص والتصوير لمباهج الطبيعة، وهوبارع جدًّا في وصف الأشجار والأزهار والأنهار حتّى سمّوه "الجَنَّان" وأطلقوا عليه صنوبري الأندلس لكثرة أوصافه للحدائق والجِنانِ، ولبراعته في تلك الأوصاف. وظل شعره متداولاً وذائعًا على امتداد العصور الأدبية حتى يومنا هذا، وشاعريته هي التي جعلت ابن قزمان { ت 555 هـ } يعزف عن الشعر الفصيح ويتحول عنه إلى الزجل بعد أنْ رأى نفسه تقصر عن شعر ابن خفاجة وغيره.

2_ مناسبة القصيدة:

لم تذكر المصادر، التي بين أيدينا، الظرف الذي قيلت فيه القصيدة، ولكن أغلب الظن أنّه قالها في كِبَرِه، وفي فترة زمنية من حياته اتسمت بالمعاناة من السفر والتنقل والاغتراب، ويبدو أنَّ تلك الفترة كانت أيام سفره إلى المغرب، وقد مرَّ في تلك السفرة بجبل أشم من تلك الجبال التي تجاور البحر في العدوتين: المغربية والأندلسية، وكان الشاعر قد عُمِّر طويلاً حتى بلغ سن الحكمة، وتعرض خلال هذا العمر الطويل إلى مسرات الدهر ونكباته، فنظر إلى أصحابه وهم يذهبون واحدًا بعد آخر، ولا يعودون، فظل وحيدًا يرقب رحلته الأخيرة، فرثى نفسه بهذه القصيدة التي نحن بصدد دراستها.

3_ عنوان القصيدة :

العنوان ذاكرة النص ورأسه المفكر . و هذه القصيدة تعرف في المصادر وكتب التحليل الشعري بعناوين: وصف الجبل, أو  بائية ابن خفاجة, أو مقيم وذاهب , وليست هذه العناوين جزءًا أصيلاً في القصيدة، وإنما وضعها لها اجتهادًا بعض المنتقين، وبالنظر إلى مضمون القصيدة فإنّنا نرى أنّ العنوان الأكثر التصاقًا بالمضمون هو {مقيم وذاهب}؛ لدلالته على المضمون الكلي للنص من مطلعه إلى ختامه.  أما "وصف الجبل" فهو إشارة إلى الغرض الرئيس من النص.

ثانيًا: مع النص:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التحليل الفكري الجزئي للنص :  

{ الفكرة الأولى , وصف الرحلة الليلية }

1 - بَعَيشِكَ  هَل  تَدري   أَهوجُ   الجَنائِبِ        تَخُبُّ  بِرَحلي   أَم   ظُهورُ   النَجائِبِ

بعيشك : قسم بالمعيشة . هوج الجنائب : الرياح الهوجاء الجنوبية، وهى تقابل ريح ريح الشمال . تخب تضرب . النجائب : النوق الكرام , مفردها نجيبة .                                                                                                                   یكشف النص منذ بدایته عن ذات قلقة مضطربة غير مستقرة تبدو في حالة ارتحال وتظهر وهي غير متماسكة وقد اختلطت الرؤیة أمامها، وفقدت القدرة على التحكم في أمرها . ویكشف أسلوب القسم الذي تستهل به القصيدة (بعيشك) عن حاجة الذات إلى من یشركها همومها ، ولذلك فهي تتجه بخطابها  إلى (الخارج) دون أن تحدد شخصًا بعينه؛ مما یخرج بالخطاب إلى دائرة أوسع. ولكن لماذا جاءت صيغة القسم على هذه الصورة ؟ لماذا اقسم (بعيشك) ولم یقل (لعمرك ) أو بحياتك أو أیة صيغة أخرى من صيغ القسم؟ إنَّ دلالة (العيش ) ترتبط بالسعي للحفاظ على الحياة وضمان استمرارها ، وهو ما ینسجم مع فكرة (الرحلة) التي تقوم بها الذات . إن البيت الأول مشحون بالدلالات التي تشير إلى أن تلك الرحلة هي رحلة الإنسان في الحياة وهي رحلة محفوفة بالمخاطر؛ وليست هذه الریاح الهوجاء أو هوج الجنائب إلا رمزًا لما یواجه الذات من مخاطر تكاد تعصف بها ؛ فالحياة في جوهرها رحلة ولكن الإنسان لا یملك زمامها فتختلط أمامه الرؤیة ویتضاعف إحساسه بالحيرة فيتوجه بالسؤال إلى (الخارج) أو إلى أخيه في الإنسانية مُستحلفًا إیَّاه بعيشه عَسَاه یَجِد جوابًا شافيًا یُخرجه من ضباب الحيرة والقلق . وهذا ما يسمى بلاغيًّا أسلوب التجريد.  

2 - فَما لُحتُ  في  أولى  المَشارِقِ  كَوكَباً        فَأَشرَقتُ حَتّى  جِئتُ  أُخرى  المَغارِبِ

في صورة من صور الترابط العضوي یأتي البيت الثاني ليبرر مغزى طرح سؤال الذات من ناحية، ویصور واقعها المتقلب من ناحية أخرى، حيث لا یقر لها قرار، فما إن تُشَرِّق حتى تُغَرِّب . فما إن یسطع نجم الإنسان ویظن أنه اقترب من أحلامه الكبرى حتى یخبو ویتوقف كل شيء أمام سطوة الموت الذي یترصده ویتهدد وجوده ویقضي على طموحاته. وهنا تكون المطابقة بين (المشارق) و(المغارب) مطابقة أو مقابلة بين الميلاد والموت أو بين شروق الحياة وغروبها .

وبدءا من البيت الثالث تبدأ الذات في كشف معاناتها في تلك الرحلة :

3 - وَحيداً   تَهاداني    الفَيافي    فَأَجتَلي        وَجوهَ   المَنايا   في   قِناعِ   الغَياهِبِ

الفيافى : جمع فيفاء وهى الصحراء . تهادانى : تدلنى إحداهما على الأخرى . الغياهب : جمع غيهب وهى الظلمه .

4 -وَلا  جارَ  إِلّا   مِن   حُسامٍ     مُصَمَّمٍ        وَلا   دارَ   إِلّا   في   قُتودِ   الرَكائِبِ

الحسام : السيف . المصمم : شديد المضى . قتود الركائب : خشب الابل , والمقصود : الراحلة فى السفر .

5 - وَلا  أُنسَ  إِلّا  أَن   أُضاحِكَ     ساعَةً        ثُغورَ  الأَماني  في  وُجوهِ     المَطالِبِ

المعنى : إن ذات الشاعر تبدو محاصرة بالوحدة تتقاذفها الفيافي وتلوح لها وجوه الموت في خضم الظلام ؛ فلا جارٌ ولا دارٌ ولا أنيسٌ، وإن كان في قوله (الحسام المصمم) ما یشير إلى شجاعتة وحرصه على مواجهة أخطار الموت والفناء، كما تشير الصورة الاستعاریة (ثغورالأماني) بما تتضمنه من تشخيص إلى طموح ذات الشاعر وتطلعاتها، وإن كان استخدام لفظ الزمن (ساعة) یشير من ناحية أخرى إلى قناعة ذات الشاعر بصعوبة خروج هذه الأماني إلى حيز التحقيق.

وتأتي صورة الليل بدلالاتها النفسية لتضيف أبعادًا أخرى إلى أزمة ذات الشاعر ومعاناتها؛ فيقول :

6 - وَلَيلٍ  إِذا  ماقُلتُ  قَد   بادَ   فَاِنقَضى        تَكَشَّفَ  عَن  وَعدٍ  مِنَ  الظَنِّ  كاذِبِ

وليل : أى ورب ليل .                                                                                                                            المعنى : تبدو ذات الشاعر في هذه اللوحة التصویریة محاصرة بالظلام والوحشة، وقد اشتبكت في صراع حاد بين واقعها وأملها، إذا توهمت أنها خرجت من هذا الحصار الليلي تكشف لها الواقع عن وعود وظنون كاذبة .

7 - صحبتُ  الدَياجي  فيهِ   سودَ   ذَوائِبٍ        لِأَعتَنِقَ    الآمالَ     بيضَ     تَرائِبِ

الدياجى : الظلمات . الترائب : الخير والفأل , وتطلق الترائب على عظام الصدر . { نجد هنا حسن التقسيم }

فى هذا البيت تتحدد المواجهة بين طرفين متضادین هما " سود الذوائب " و " بيض الترائب ". وقد تشخص طرفا الصراع فاتخذت الدیاجي السود شكل الذوائب في طولها وكثافتها وامتدادها , بينما اتخذت الآمال شكل النحور بلألائها فضلا عن وضعية أحد الطرفين (الذوائب) في الخلف والآخر(النحور) في الأمام مما یضيف أبعادًا أخرى إلى الصراع والمواجهة .

8 - فَمَزَّقتُ جَيبَ اللَيلِ عَن شَخصِ أَطلَسٍ        تَطَلَّعَ   وَضّاحَ   المَضاحِكِ    قاطِبِ

كانت الأيام قاسية قسوة الليالى المظلمة . المعنى : ما هو مستقبل آت تفاءل به شاعرنا ؛ كى يجدد الامل . أو إلى فاعلية ذات الشاعر في مقاومة الحصار وعدم استسلامها للواقع واستمرارها في المقاومة حتى انجلى الأمر عن انكشاف جانب من الليل في إشارة دالة على اقتراب تكشف الحقائق أمامها حيث بدأ بياض الصبح یخالط ظلام الليل كما تعبر عنه الصورة التشخيصية: ( وضَّاح المضاحك قاطب)؛ فالتضاد القائم على التشخيص یكشف عن صورة الليل وقد بدا متجهم الملامح، یلفُّه السوادُ خلا ما تُظهره أسنانُه من بياض ( وضاح المضاحك ) في إشارة إلى بدء طلوع الصبح فيه، وهو ( قاطب ) لأن بقية من الظلام لم تزل فيه . إنه " التضاد اللوني " الذي یُتيح للذات أن ترى بصيصا من الضوء برغم هيمنة السواد . وهذا ما تؤكده صورة النجم المتوقد الثاقب هذه الصورة صورة قطع الفجر الغبشاء التي انكشفت للشاعر تعكس تجدد الأمل في مواصلة رحلة الحياة أیَّا كانت العقبات والمصاعب .

9 - رَأَيتُ  بِهِ  قِطعاً  مِنَ  الفَجرِ     أَغبَشاً        تَأَمَّلَ    عَن    نَجمٍ    تَوَقَّدَ     ثاقِبِ

الاطلس : اسم للذئب . قاطب : عابس .                                                                                                 

{ الفكرة الثانية : وصف الجبل من البيت العاشر ‘لى البيت الخامس والعشرين }

{ الوصف الحسى للجبل }

 10 - وَأَرعَنَ     طَمّاحِ     الذُؤابَةِ     باذِخٍ        يُطاوِلُ    أَعنانَ    السَماءِ     بِغارِبِ

أرعن : الجبل الطويل الشديد النتوء. طماح الذؤابة : عالى القمة . باذخ : شامخ . أعنان السماء : نواحيها . غارب : أعلى الجبل .                                                                                              المعنى : وقف ابن خفاجة أمام الجبل ليلا وذهب يتأمل الطبيعة السابحة فى الظلام وأخذ يناجيه مضفيًا عليه من روحه وشعوره وخياله فهو يصف ارتفاع الجبل وضخامته بأنه جبل عال "أرعن" تبرز من جوانبه أجزاء ضخمة، وهى نتوء جبلية ضخمة بارزة غير مستوية، فتضفى عليه رهبة شديدة وهو ذو قمة عالية بالغة فى الارتفاع حتى ليكاد يلمس جوانب السماء بغاربه .

11 - يَسُدُّ  مَهَبَّ  الريحِ  عَن   كُلِّ   وُجهَةٍ        وَيَزحَمُ    لَيلاً     شُهبَهُ     بِالمَناكِبِ

الشهب : الكواكب . المناكب : جمع منكب : وهو مجتمع راس الكتف بالعضد. الضمير فى "شهبه " إن عاد الى الليل كان المقصود الكواكب، وإن عاد الى الجبل كان المقصود الجبل علاه الثلج  .                                                                                                               المعنى : وأحسَّ كأنَّه لضخامته يصدُّ الريحَ أنَّى واجهته ويزاحم بمناكبه النجوم مهما ارتفعت.

12 - وَقورٍ   عَلى   ظَهرِ    الفَلاةِ    كَأَنّهُ        طِوالَ  اللَيالي  مُفَكِّرٌ   في     العَواقِبِ

وقور : عاقل رصين . الفلاة : الصحراء . العواقب : العقب : آخر الشيء وخاتمته . وهذه صورة معنوية للجبل .                                                                                                                  المعنى : وقد تخيّل منظره وما يثير فيه من خواطر، وكأنّه شيخ وقور جاثم على صدرالصحراء، وقد أطرق على مرّ الليالي يفكّر في أمور الدنيا والناس، ونهايتها ونهايتهم.

13 - يَلوثُ   عَلَيهِ   الغَيمُ    سودَ    عَمائِمٍ        لَها مِن  وَميضِ  البَرقِ  حُمرُ  ذَوائِبِ

يلوث : يلف و يعصب. وميض البرق : لمعانه . ذوائب : أطراف. { لون الجبل } .                                                  المعنى : وقد أكمل الغيمُ صورةَ هذا الشيخ الوقور، فنسج حول رأسه ما يشبه عمامةً سوداء، ذوائبها الحمر من لمعان البرق الخاطف.

{ حديث الجبل ووعظه }

14 - أَصَختُ  إِلَيهِ  وَهوَ  أَخرَسُ     صامِتٌ        فَحَدَّثَني    لَيلُ    السُرى    بِالعَجائِبِ

أصخت : أصغيت واستمعت . ليل السّرى : أي استمرَّ يحدثني طول الليل..                                                               المعنى : ثم ينصت الشاعر إلى ما سيلقيه الجبل عليه أو الشيخ الوقور المعمّم فينطلق لسانه، وهو الأخرس الصامت، ليُحدِّثَه في ليل السُّرى، أي : خلال مروره به ليلاً، بأحاديث عجيبة وحكم مدهشة.

15 - وَقالَ   أَلا   كَم   كُنتُ   مَلجَأَ   قاتِلٍ        وَمَوطِنَ      أَوّاهٍ      تَبَتَّلَ      تائِبِ

ملجأ : لجأ إلى المكان : لاذ اليه واعتصم به . الأوّاه : هنا التائب الراهب الذي يتأوّه من ذنوبه و يتعبّد في الجبل. تبتّل : تنسك وانقطع إلى العبادة. تائب : راجع عن المعصية .                                                                                                                 المعنى : وإذا حديثه قصّةُ إنسان سئم الحياة، وملَّ البقاء وذلك الخلود الذي لا غاية  وراءه، فقال : إنَّ حوادث الدّهرُ قد عبثّتْ به، فجمع بين المنتاقضات في رحابه، فكان مأوى للقتلة الفارين من وجه العدالة، وملجأ للعابدين الزاهدين في الدنيا والناس.                                                                                                            

16 - وَكَم  مَرَّ  بي   مِن   مُدلِجٍ   وَمُؤَوِّبٍ        وَقالَ   بِظِلّي   مِن   مَطِيٍّ    وَراكِبِ

المُدْلِج : السائر في الليل أو السائر من أوّل الليل إلى آخره. المؤوّب : الراجع، العائد، أو الذي يسير جميع النهار. قال : نام القيلولة. ومطي : جمع مفرده مطية : من الدواب ما يمتطى.                                                                              المعنى : وقد مرّ به كثير من السائرين ليلاً ونهارًا، فكان لهم مقيلاً يستظلون بظله، ويستريحون هم ومطاياهم في رحابه.

17 - وَلاطَمَ  مِن   نُكبِ   الرِياحِ   مَعاطِفي        وَزاحَمَ  مِن  خُضرِ  البِحارِ     غَوارِبي

لاطم : ضرب . النُّكب : جمع نكباء : وهي الريح تَهُبّ بين مهب الريحين أو هي الريح الشديدة. معاطفي: جوانبي.                خضر البحار: المراد بها : السحب.                                                                                                         المعنى : أمّا الرياحُ الهوجاء، فقد عصفت به من كلِّ ناحية فلم تزحزحْهُ قيد أنمُلة، وكذلك السُّحبُ الخُضر، فكم هطلت وابلاً على ذراه، فما أثّرت فيه وما أضرت به.

18 - فَما  كانَ  إِلّا  أَن  طَوَتهُم  يَدُ  الرَدى        وَطارَت  بِهِم  ريحُ   النَوى     وَالنَوائِبِ

الردى : الموت . النوى : البعد والفراق . النوائب : حوادث الزمان وما ينزل بالرجل من الكوترث والحوادث المؤلمه.                                                                                                                         المعنى : ولكن، أين كلّ هؤلاء ؟ لقد طوتهم يدُ الموت المفترسة التي لا يفلت منها أحد، تطوي كل شيء وتتركه هو، كما أنّ بعضهم الآخر قد انتهى إلى البعاد أو نائبة، ويبقى هو وحيدًا متألّما.

19 - فَما  خَفقُ  أَيكي  غَيرَ  رَجفَةِ    أَضلُعٍ        وَلا  نَوحُ  وُرقي  غَيرَ  صَرخَةِ   نادِبِ

الايك : الشجر الكثيف الملتف، خفق أيكي : تحرك أشجاري واهتزازها. والأيك : جمع أيكة : الشجر الكثيف الملتف. رجفة الأضلع : اضطرابها : الورق : جمع ورقاء : وهي الحمامة. المعنى : وما هذا الذي تراه من خفق الأشجار، ونوح الحمائمِ إلاّ ارتجاف أضلعه، وصرخاته على مصير البشر الذين كانوا أصدقاءه وجيرانه ذات يوم.

20 - وَما  غَيَّضَ   السُلوانَ   دَمعي   وَإِنَّما        نَزَفتُ  دُموعي  في  فِراقِ    الصَواحِبِ

غيَّض السًّلوان : نقَّصَه وقلّله، وغيّض أيضا : غور جعله ينصب. نزفتُ دموعي : سكبتُها بكثرة .                               المعنى : فهو لمْ ينسَ أحدًا من أصدقائه الذين ذهبوا واحدًا إثر الآخر، وإنما نضبت دموعه من كثرة البكاء لفراق الأصحاب، فقد نزفت نزفا حتى جَفّت.

21 - فَحَتّى  مَتى  أَبقى  وَيَظعَنُ   صاحِبٌ        أُوَدِّعُ    مِنهُ    راحِلاً    غَيرَ    آيِبِ

يظعن : يسير ويرتحل . آيب : راجع

المعنى : ثم يقول، وقد انتابه السأم والضّجر مستبطئًا نهايته : إلى متى يمتدُّ بي الأجل ويرحل أصحابي ؟ هؤلاء الذين أودّعُ منهم كلَّ يوم مرتحلاَّ إلى غير رجعة.

22 - وَحَتّى  مَتى  أَرعى  الكَواكِبَ     ساهِراً        فَمِن  طالِعٍ  أُخرى   اللَيالي   وَغارِبِ

أرعى الكواكب : أبيت ساهرًا أرقبها.                                                                                                       المعنى : وإلى متى أظلُّ ساهرًا أراقبُ النجوم ؟ ما بين نجم يشرق في آخر الليل وآخر في الوقت نفسه يأفل.

23 - فَرُحماكَ   يا   مَولايَ   دِعوَةَ   ضارِعٍ        يَمُدُّ   إِلى    نُعماكَ    راحَةَ    راغِبِ

البيت من كلام الجبل، ومولاه : هو الله جلَّ وعلا. راحة : الكف .

المعنى : ثم يمدًّ يده متضرّعًا متذلّلاً يسأل الله الرحمة والفناء أملاً في واسع نعمته وسابغ رحمته.

23 - فَأَسمَعَني   مِن   وَعظِهِ   كُلَّ    عِبرَةٍ        يُتَرجِمُها    عَنهُ    لِسانُ     التَجارِبِ

عبرة : بكسر العين: الموعظة , وبفتحها الدمعة .

المعنى : وأخيرًا يعود الشاعر في هذا المقطع الأخير إلى الحديث عن نفسه، ويلخص أثر أقوال الجبل في نفسه، فيقول : وهكذا أسمعني الجبل من وعظه كلّ عبرة، وقد كشف من خلال ذلك عن خبرة طويلة، فكان لي خير صاحب في رحلتي هذه.

{ ختام في العظة والاعتبار }

24 - فَسَلّى  بِما  أَبكى  وَسَرّى  بِما     شَجا        وَكانَ عَلى عَهدِ السُرى خَيرَ  صاحِبِ

سرّى : بدَّد الحزُن وأبعدَ الهموم . شجا : أحزن .

المعنى : وكان الجبل قد سلاَّهُ ببكائه، وسرَّى عنه بهذه الأحزان التي قصّها عليه، فحمل إليه العزاء والسّلوان. وقد يكون المعنى هو أنَّ الجبل أراد أنْ يُسليه، لكنّه أبكاه، وحاول أنْ يخفّف عنه، ولكنًّه أحزنه، ومع ذلك كان أحسن صاحب له اثناء هذه السفرة الليلية القاسية الموحشة .

25 - وَقُلتُ    وَقَد    نَكَّبتُ    عَنهُ    لِطِيَّةٍ        سَلامٌ    فَإِنّا    مِن    مُقيمٍ    وَذاهِبِ

نكَّبتُ عنه : مِلتُ عنه وانصرفتُ. الطية : الحاجة والقصد ووجهة المسافر، وهنا بمعنى السفر , ومنْ في "منْ مُقيم" زائدة أو بيانية أي : فإنَّا من بين مقيم وهو أنت، وذاهب وهو نحن.                                                                                   المعنى : ثم يلقي عليه التحية، تحية الراحل {الشاعر} للمقيم {الجبل}، ويقول له : سلام عليك أيها الجبل فإنما نحن اثنان دائمًا: واحد يقيم، وآخر يذهب، فلتبق أنت حيثُ كنت أبدًا، ولأرحل أنا كما رحل الآخرون السابقون.

التحليل الفكري الكلي للنص:

يتكون هذا النص من فكرتين أساسيتين، هما :

1-  وصف الرحلة الليلية من البيت الأول إلى البيت التاسع.

2-  وصف الجبل من البيت العاشر الى البيت الخامس والعشرين.

 ويندرج تحت هذه الفكرة الأفكار الثلاثة الآتية:

أ‌-     الوصف الحسي للجبل: [هيئة الجبل وتصويره حيًّا وقورًا، لا يضطرب ولا يتزعزع  من البيت العاشر إلى البيت الثالث عشر }

ب‌-   حديث الجبل ووعظه من البيت الرابع عشر إلى البيت الثالث والعشرين .

ت‌-  ختام في العظة والاعتبار، وتسلِّي الشاعر بما سمع من عِبر، وتحيته الأخيرة: تحية الراحل للمقيم من البيت الرابع والعشرين إلى البيت الخامس والعشرين .

وواضح أن القصيدة مكونة من مقدمة دارت حول وصف الرحلة الليلية فى تسعة أبيات انتقل منها فى البيت العاشر الى الغرض الرئيسى من القصيدة وهو وصف الجبل عن طريق أسلوب العطف { الواو } حيث يقول : وَأَرعَنَ     طَمّاحِ     الذُؤابَةِ     باذِخٍ        يُطاوِلُ    أَعنانَ    السَماءِ     بِغارِبِ

فأرعن معطوفة على { أطلس فى البيت الثامن }: فَمَزَّقتُ جَيبَ اللَيلِ عَن شَخصِ أَطلَسٍ        تَطَلَّعَ   وَضّاحَ   المَضاحِكِ    قاطِبِ

والجامع بين المعطوفين هو كونهما من المرئيات الليلية للشاعر . ثم أخذ في الغرض الرئيس وصلب الموضوع في النص، وهووصف الجبل تفصيليًّا، وسرد حواره معه.     

 وتعد الأبيات الثلاثة الأخيرة ختامًا للقصيدة متوقعًا؛ إذ عبر عن الفكرة الأساسية من النص، وهي الموقف من الزمن وكون الإنسان عرضة للبقاء والفناء, وظاهر من هذا أن الشاعر وفر للنص ما يسمى بالوحدة الموضوعية . وقد ربط الختام بالغرض الرئيس عن طريق فاء العطف الترتيبية في قوله:

فَأَسمَعَني   مِن   وَعظِهِ   كُلَّ    عِبرَةٍ        يُتَرجِمُها    عَنهُ    لِسانُ     التَجارِبِ

إذًا يتحدث ابن خفاجة في نصه هذا عن تجربة تأملية فكرية، مبعثها مشاهد طبيعية، وقالبها ذو ملامح قصصية، تجمع بين خصائص شعر التأمل والحكمة، وسمات شعر الطبيعة والوصف، وملامح شعر الحكاية والقصص، فالجانب التأمُّلي في صُلب التجربة والإحساس، والجانب الطبيعي في الصّور التي حملت التجربة، وحرّكت الإحساس. أمَّا الجانب القصصي ففي الإطار العام والقالب الفنّي الذي قدّم به الشاعر ما أراد قوله . فقد نفخ الشاعر من روحه في الجبل فإذا هو كئيب قد مَلّ البقاء على ظهر الفلاة، قد ودَّع أصحابه، وهو قائم منتصب يرعى النجومَ، ويرقبُ أفولَها، وتجاوزَ الثَّمانين فمَلَّ الحياة. إنَّ الجبل قد صوّرَ نفسَ الشاعر في حزنها، وعبَّر عنها في هذا النص و كأن الشاعر يبكي نفسه من خلال الجبل.<!--

<!--[if gte mso 9]><xml> <w:WordDocument> <w:View>Normal</w:View> <w:Zoom>0</w:Zoom> <w:TrackMoves /> <w:TrackFormatting /> <w:PunctuationKerning /> <w:ValidateAgainstSchemas />-->

التحميلات المرفقة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 4570 مشاهدة
نشرت فى 28 إبريل 2015 بواسطة sabryfatma

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

295,693