تعد قصيدة البردة من عيون الشعر العربي وخرائده التي نالت حظوة كبيرة من قبل العرب والمسلمين جميعًا: من العامة والنُّخبة على السواء؛ فقد انتشرت انتشارًا واسعًا و تناقلتها الأجيال: جيلاً بعد جيل؛ بسبب حسن ألفاظها و عمق معانيها وروعة صورها البيانية وتشكيلاتها الوصفية وأعشابها البديعية، و بسبب تنوع أغراضها وتشابكها... أبياتها تلامس القلب و تحرك الشعور و الإحساس، و قراءتها تشعر بلذة روحانية و جاذبية و تدفع لقراءتها كاملة و بشوق و لهفة؛ لمعرفة ما يحتويه كل بيت فيها.  و لاغرابة أن نجدها قد ترجمت الى عدة لغات، منها الإنجليزية و الفرنسية و الألمانية و التركية و الهندية و الفارسية و غيرها؛ لأنها ذات مكانة أدبية وفكرية كبيرة  ... ومن ثَمَّ فإنني سأقوم بعرضها على مقاييس النقد الأدبي المستقرة، بعيدًا عن أي تعصب مذهبي، معددًا إيجابياتها وسلبياتها على السواء من منطلق فني محض! سياحة  ذوقية في البردة أقف عند قراءة البردة وقفات ذوقية لا إرادية، عند عدد من أبياتها، منها المطلع: أمن تذكر جيران بذي سلم          مزجت دمعًا جرى من مقلة بدم فقد وفر البوصيري لمطلع بردته ما يسمى في علم البديع براعة الاستهلال؛ وذلك للأسباب الآتية: - أنه مطلع مصرع، يحدث إيقاعًا لذيذًا آسرًا في المتلقي... - أنه تام المعنى، مستقل بلفظه ومعناه عن البيت التالي... - أنه شريف المعنى، يخلو من أي لفظ أو تعبير خادش للحياء... وهذا مناسب لجلال الغرض:المديح النبوي... - أنه بكاء على طلل رمزي، فما جيران ذي سلم إلا محمد – صلى الله عليه وسلم – وصحبه، رضوان الله عليم أجمعين، بناء على أن "ذي سلم" اسم مكان في المنطقة بين مكة والمدينة... - جاء عجز البيت مشتملاً على صورة استعارية مبالغة في التعبير عن الحزن والتألم لتذكر هؤلاء... - أوحى المطلع بالعاطفتين الشائعتين في أعطاف البردة: حب الرسول – صلى الله عليه وسلم –، والألم النفسي(دمعًا) والجسدي(بدم) لما اقترفه من ذنوب في مجالي الشعر والوظيفة...قال البوصيري: نعم سرى طيف من أهوى فأرقني                     والحب يعترض اللذات بالألم يا لائمي في الهوى العذري معذرة                 مني إليك ولو أنصفت لم تلم فهو اعتراف شجاع نبيل سام بالحب وأثره في نفسه، وتقرير أن لذة الحب في ألمه، وأن الحب محدث الألم، وجاعله معوقًا أمام اللذات! إن عجز البيت تذييل حكيم عميق، فيه خيال بعيد.... وفي البيت الثاني خطاب مهذب راق للائم، عن طريق تعريف اللائم بالإضافة إلى ضميره، والتوجه بالاعتذار إليه(معذرة مني إليك)، وهو أكثر سموًّا وأدبًا وتحضرًا من خطاب ابن الفارض للائمه: يا لائمًا لامني في حبهم سفهًا            كف الملام فلو أنصفت لم تلم  وقد سبق البوصيري بهذه النزعة الغرلية الحكيمة العميقة علم النفس الحديث الذي يذهب أصحابه إلى ذكر تلك الفكرة مدعين أنهم وصلوا إليها بعد بحث واستقراء وما إلى ذلك من أدوات علمية... فقد أخضع الباحثون "ظاهرة الحب" وأعراضه للدراسة والبحث، وخلصوا إلى نتيجة مفادها أن آلام الحب تتشابه كثيرًا مع أي مرض عضوي، بل إنها قد تقود إلى الموت أحيانًا.  و هذه الآلام تتمثل في السهر والأرق والتغير المزاجي، وغيرها من الأعراض النفسية والجسدية.  بل سجل فريق بحث أمريكي ارتفاع درجة تركز هرمونات الإعياء في الدم، مشيرين أن هذا التركز المرتفع في الشرايين يؤدي إلى إرهاق عضلات القلب ويمكن أن يسبب أضرارًا للقلب وربما يؤدي إلى توقف نبضاته، وفقًا لما ورد في مقالة للباحث ايلان فيتستاين في مجلة "نيو انجيلاند" للطب. وقارن فيتستاين الحالة بوضع الإدمان. وأكدت ذلك تجارب اخرى من خلال الكشف على الدماغ أجريت في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا. وتقول هذه التجارب بأنه في حالة ما إذا وقعت عيون إنسان عاشق متيم من الدرجة الأولى على صورة عشيقة، فإن دماغه يصبح في حالة تشبه حالات تعاطي الكوكايين. وعلى العكس من ذلك عندما سحبت صورة المعشوق، حيث تراجعت حالة الدماغ والأعضاء إلى حالتها الطبيعية وكأنما صُب عليها ماء بارد. وهذا الغزل العذري البارز في مقدمة البردة أشاد به علماء النفس أيضًا، يقول الدكتور ياسين رفاعية:" سيرة الحب هي سيرة الناس في كل مكان ولكن كل أمة يختلف معناه عندها، والغرب يجد في الحب الاتصال بين المرأة والرجل.. ولكن إلى حين.. التقيت ذات الدكتورة مارغرين هينز في لندن وهي أستاذة علم نفس، ومما قالته لي: إن الغرب دنَّس معنى الحب، وأصبح عبارة عن الجنس لا أكثر ولا أقل..  وقالت: أنتم في الشرق أعطيتم الحب معناه الحقيقي وخصوصاً ما يسمى عندكم «الحب العذري» أو الحب المستحيل وهو أجمل ألف مرة من حب هدفه أولاً وأخيرًا التواصل الجنسي ... واستغربت هذا الكلام من امرأة تعيش في الغرب حيث كل شيء متاح بالنسبة للمرأة والرجل على حد سواء.‏ وكررت القول: جمال الحب في التراث العربي احترام الجنسين كل منهما للآخر.. وقالت: إن كل الشباب الذين درستهم علم النفس والفلسفة خرجوا باقتناع أن الحب الشرقي أجمل ألف مرة مما نسميه هنا حبًّا، وما هو إلا إعجاب ينتهي إلى غرفة النوم، وبعد ذلك يذهب كل واحد إلى حياته العادية باحثًا عن مغامرة جديدة لا علاقة لها بالحب الأصيل الذي قرأناه في كتب تراثكم العظيم...
المصدر: تحليل مقدمة البردة.بردة البوصيري
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 476 مشاهدة
نشرت فى 29 يناير 2014 بواسطة sabryfatma

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

297,206